أمهات لا كالأمهات
الشيخ رائد صلاح
كان الأسير أبو حلمي معتادا أن يوقظ إخوته في الأسر لأداء صلاة الفجر، وذات يوم فجر غلبه النعاس فاستيقظ من نومه بعد أن طلعت الشمس، فقال لإخوته في الأسر: لدّي شعور داخلي يقول لي: إنّ والدي قد مات، فكان كما قال إلا أن الذي كان قد مات هي والدته وليس والده، رحمهما الله تعالى، وهكذا ماتت أمه بعد سنوات طوال سافرت فيها مئات المرات من باب بيتها إلى باب السجن كي ترى ابنها أبا حلمي من خلف الشباك الحديدي والستار الزجاجي السميك اللّذيْن كانا يفصلان بينهما في قاعة الزيارة في السجن في كل مرة، وهكذا انتقلت إلى رحمة الله تعالى وهي ترجو أن تحتضن ابنها أبا حلمي ذات يوم بلا حاجز من حديد وزجاج.
وها هو هذا المشهد لا يزال يتكرر مع مئات أمهات الأسرى اللاتي متن وانتقلن إلى رحمة الله تعالى وغادرن الدنيا وهنَّ يرتقبن ذاك اليوم الذي يحتضنَّ فيه أولادهن الأسرى بلا حاجز قهري عبوس، ثمَّ ها هو هذا المشهد يتجسد بزفراته وعبراته وهمومه وآلامه مع المرحومة أم كريم والدة الأسير كريم يونس التي توفيت خلال أيام عيد الفطر الأخير بعد أن عاشت قرابة الأربعين عاما وهي تتردد على أبواب السجون لترى ابنها كريم وتسمع صوته دون أن تقدر على احتضانه، لا بل دون أن تقدر على مصافحته، لا بل دون أن تقدر على أن تلامس اصبعها اصبعه، وأنّى لها ذلك، وهو هو الحاجز القاسي الخالي من المشاعر يحول بينها وبين ابنها الأسير كريم رغم أن المسافة بينهما لا تتعدى بضع سنتيمترات.
ومع ذلك مع طلوع شمس كل زيارة كانت المرحومة أم كريم تشدّ رحال الشوق إلى ابنها الأسير كريم راجية أن يسقط هذا الحاجز الذي تغذى على دموعها وسمن على آهاتها، وأن تحتضن هذا الابن الأسير كريم ذات يوم، وهكذا ظلّت هذه المرحومة تحمل لواء الصبر والصمود على مدار أربعين عاما مضت حتى انتقلت إلى رحمة الله تعالى.
وهكذا ظلّت تنسج لهذا الابن الأسير ثياب الأمل والتفاؤل من خيوط الليل الطويل، ومن خيوط العزم الجميل، ومن خيوط الاستبشار المبتسم، ليوم قريب تشرق فيه شمس الحرية على الابن الأسير، ويقرع عليها باب بيتها بعد ان قرعت عليه باب سجنه مئات المرات، ويحتضنها قبل أن تحتضنه ثمّ يهمس في أذنها همسة شوق وحب: أنا كريم يا أمي!! عدت إلى بيتنا يا أمي!! كفكفي دموعك يا أمي!! وأطلقي العنان لابتسامتك الشافية كي تزين وجهك وشفتيك!! وهكذا عاشت هذه الأم من ضمن قافلة أمهات لا كسائر الأمهات.
إنهن الأمهات الحرائر اللاتي عشن شامخات كالجبال، محتسبات وهن في عين الزعازع والأنواء حتى آخر نفس من أنفاسهن الزّكيّة. وهنَّ اليوم صفوة الصفوة من نساء أهل الدنيا، وهنَّ اليوم مدرسة العفيفات الفريدة، ومدرسة المقدامات إلى الأمام، ومدرسة الحق والحرية والكرامة.ودونهن تصغر كل الأصوات التي تتحدث عن المرأة ودورها وإبداعها وتألقها. يا لهذه المدرسة السامية السامقة المتجذرة في أرضنا وبيوتنا ومقدساتنا على امتداد بيت المقدس وأكناف بيت المقدس.
يا لهذه المدرسة التي كانت المرحومة أم كريم من ضمن أستاذاتها، ومن ضمن أعمدتها، ومن فيض عطائها، يا لهذه المدرسة التي ضمَّت تلك الأم العجوز أمنا جميعا التي كانت قد شدّت الرحال إلى المسجد الأقصى كواحدة من ضمن حافلة جاءت من بعيد وكان من المفروض أن تقف تلك الحافلة عند أقرب طريق إلى المسجد الأقصى إلا أن قوات الاحتلال الإسرائيلي فرضت على تلك الحافلة أن تقف بعيدا عن المسجد الأقصى، ومع ذلك ترجّلت تلك الأم العجوز من الحافلة وهي تسير الهوين على قدميها وعكازها، مرفوعة الرأس، ووضاحة الجبين، ومشرقة الوجه، ثم سارت تلك المسافات الطويلة وهي على ذلك الحال حتى دخلت المسجد الأقصى.
وقد تزينت برفعة أرفع من النجوم، وبطهارة أطهر من قطر الندى، وبنقاء أنقى من غيث منهمر، ثم عندما كحّلت عينيها برؤية المسجد الأقصى قالت: والله لو فرضوا على حافلتنا أن تقف في مدينة أريحا لجئت من هناك إلى المسجد الأقصى سيرا على قدميّ!! نعم.. يا لهذه المدرسة التي ضمّت تلك الحرة المعتكفة في المسجد الأقصى التي كانت قد قامت في خشوع العابدات تصلي لله تعالى بين قيام وركوع وسجود، وفجأة عندما كانت في ذاك الحال دفعتها قوات الاحتلال الإسرائيلي فوقعت على الأرض، ثمّ انتصبت بعد ثوان معدودات وواصلت عبادتها ولسان حالها يقول: عائدة أنا لمسجدي، عائدة إلى القيام والركوع والسجود، خلف أحمد الرسول. وكأني بها وهي في تلك اللحظات من السمو الروحي تصيح في كل الدنيا وأهلها: يا دنيا يا دنيا، يا أهل الدنيا في كل مواقعكم، إنَّ المسجد الأقصى المبارك حق إسلامي عروبي فلسطيني، خالص، لا يقبل الشراكة ولا التقسيم ولا المساومة، ولا المفاوضات، ولا نامت أعين مقاولي التطبيع.
فهل هناك وسام يعلو على أوسمة أستاذات هذه المدرسة وتلميذاتها؟.