لماذا هذا الاستهداف لتراث المسجد الأقصى؟
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
ابتداء..
لم يتوقف اعتداء الاحتلال الإسرائيلي بشقيه الاستعماري الاحلالي المادي والثقافي على مدينة القدس والبلدة القديمة والمسجد الأقصى منذ الاحتلال عام 1967م، وكلّما تقدمت بنا السنون كلما تطورت أساليب المحتل الإسرائيلي، وأخذت أشكالًا شتى، ونحن في هذه اللحظات نشهد حربًا على المكان والزمان والهوية المتعلقات بالمسجد الأقصى، وقاسمها المُشترك، الحرب الثقافية على ساكنة المدينة المقدسة وعلى المسجد الأقصى.
تعتبر هذه المرحلة من تاريخ الاستعمار الإسرائيلي للمسجد الأقصى والمدينة المقدسة، مرحلة ذهبية إسرائيليًا، فقد تغلغلت إسرائيل إلى العمقين العربي والإسلامي، وباتت قضية القدس والمسجد الأقصى من نافلة المسائل العربية وفي ظل التواطئ العربي الرسمي على الإسلام، دينًا وقيمًا، والحرب المُعلنة على المشروع الإسلامي من أنظمة الاستبداد العربية، متكئين في هذه الحرب على الترسانة الغربية، فإنَّ قضية القدس والمسجد الأقصى تتحول الى مسألة فلسطينية صرفة، وفي ظل منظومة أوسلو وخريجي دايتون، استحالت قضية القدس والمسجد الأقصى، إلى مسألة مقدسية صرفة والتماهي مع القدس والأقصى، فلسطينيًا، منضبط بأنظمة دايتون وإجراءاته الأمنية.
يُضاف إلى ذلك، أنّ التحولات الإسرائيلية الداخلية، تتجه نحو مجتمع أكثر تدينًا وعنصرية، ويرى بالرؤى التوراتية ذات الصلة بالقدس والمسجد الأقصى، الحق واليقين، وبات مطلب إعادة بناء الهيكل، إجماعًا صهيونيًا، سواء في المدرسة الدينية الصهيونية على اختلاف مشاربها، أو اليمين الصهيوني الجابوتنسكي، وهذان التياران اليوم، يفرضان إيقاع العملية السياسية الإسرائيلية. لذلك يرى الاحتلال الإسرائيلي أنّ الوقت مناسب لتمرير سياساته اتجاه القدس والأقصى، والحق أنّ سياساته المتعلقة بالمدينة يتمّ تمريرها وتنفيذ مخططاتها بشكل منهجي وبتؤدة تامة، وهو يحقق نوعًا من الفرصة والأمل بتنفيذ السياسات المتعلقة بالمسجد الأقصى. بيد أنّ ما يعوقهم على المستوى الفلسطيني تشكل كتلة فلسطينية “شابة” من الكل الفلسطيني، ترفض المساس بالمسجد الأقصى، وتؤمن بعقلية “اليوم نغزوهم ولا يغزوننا” وقد تعززت هذه الكتلة بقوى المقاومة في السنوات الأخيرة، ومُنِحت دفعًا ودافعية بعد حرب سيف القدس، وقد سمّى الاحتلال حربه تلك بحارس الأسوار، وللتسميات معان تتغلغل في عالم الثقافة.
يلفت الانتباه، أنّه كلّما وقعت مواجهات بين الاحتلال وقواته على مختلف تسمياتها ومسمياتها في باحات المسجد الأقصى ومصلياته، خاصة المسجد القبلي، تستهدف قوات الاحتلال بعضًا من تراثه المبهر، سواء التعرض المتعمد بالتكسير والتهشيم للبوابات العملاقة والكبيرة لمداخله، أو لبوابات المسجد “الأقصى” القبلي أو لشبابيكه التي هي في غاية الجمال، وعبثًا محاولات الأوقاف حماية هذه الشبابيك من الاعتداءات الاحتلالية. وفي الأحداث الأخيرة التي شهدها المسجد يوم الجمعة الفائت (15/4/2022)، رأينا بالبث المباشر كيف اعتلوا سطح المسجد وعمدوا إلى تكسير نوافذه، لقذف المرابطين بحمم الغاز المُسيل للدموع والقنابل الحارقة.
ثمّة حقائق تتأكد يومًا بعد يوم في متعلقات الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، كالحرب الثقافية بكل مجالاتها ومعطياتها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، الحرب المسعورة على الرواية وسردية المسجد الأقصى، سواء السرديات الواردة في النصوص المقدسة أو المحكية، ومن تابع منشورات مراكز بحثية رصينة متخصصة في التاريخ “الإسرائيلي” ياد يتسحاق بن تسيفي، سيلاحظ المجهود المبذول لتأكيد الرواية اليهودية المتعلقة بالمدينة المقدسة والبيت المُقدس، فالاحتلال مدركٌ تمامًا أن الحرب والسيطرة بالقوة مآلاتها إلى زوال، فيما إحداث خلخلة وتشكيك في الرواية والسرديات التاريخية المتعلقة بالمسجد الأقصى، يمكن أن تحدث الفارق لصالح تمكين الاستعمار الإسرائيلي من التواجد في المسجد ومنحه من بعد الشرعية في الوجود، ولو بالشراكة مع المسلمين، وهذه أحد أخطر ما في السلام الابراهيمي، ودعوات الإمارات لوحدة الأديان، شجّعت رئيس الوزراء الإسرائيلي ليقول إن المسجد الأقصى لم يكن يومًا للمسلمين، وهذه هي قناعاته، وهذه هي عقيدته، ويعمل على تحقيق هذه العقيدة عبر أدوات مختلفة، من ضمنها هذا الذي نحن بصدده.
الاعتداءات على المسجد الأقصى ومكوناته التراثية التي فيها عبق التاريخ والأصالة الإسلامية، وروعة العمارة الإسلامية، وتداخل شرقها ومغربها في خدمة البيت المقدس، تحمل معانيَ ودلالاتٍ تفوق لحظة الاعتداء وذاتيته على كنز مكنون من كنوز المسجد الأقصى المبارك.
لا يمكننا أن نقرأ هذه الاعتداءات على المسجد الأقصى، دون فهم للعقلية الصهيونية الثاوية لقيم نتشوية تؤمن بنفي الآخر وتبديل معالمه وقيمه وأخلاقه وسلوكياته، وهي عملية احلالية تهدف إلى أن يصبح الاحتلال عنوانًا وحالًا محله، فقد قامت إسرائيل لتبقى، كما هو بيّن في الذهنية الصهيونية العلمانية والدينية على حد سواء، والعقلية الغربية بعموم مدارسها ومشاربها، ومعتمدات قيامها وديمومتها نفي الآخر جسديًا وثقافيًا، ومن ضمن المكون الثقافي النفيوي، طمس معالم المسجد وتحريف الواقع والتاريخ.
الاعتداء على ممتلكات المسجد،
هو اعتداء على التراث “المقدس”
كل من يدخل المسجد الأقصى أو قبّة الصّخرة ستبهره روعة نوافذهما باعتبارهما الشاهد الحي على فن العمارة الإسلامية، وتعتبر هذه الشبابيك من الروعة والجمال بحيث يشخص الانسان أمام جلالها، خاصة الدمج الخلاق بين الآيات والأحاديث والأدوار الوظيفية لهذه الشبابيك التي تخدم المسجد والمصلين في الإضاءة والإنارة والتدفئة، وهي عمليًا بيان للعقل الهندسي الإسلامي الذي دمج بين الجمالية والوظيفية لهذه الشبابيك التي تعمّد المحتل الإسرائيلي تخريبها، باعتبار هذا التخريب هو ضرب لهوية المكان وضرب لهويته الزمانية وبالتالي ضرب للسردية التاريخية والروحانية للمسجد.
جانب من تكسير نافذة من نوافذ المسجد
لبيان عظمة هذه الشبابيك، بيّنت دائرة الأوقاف أنّ هذه الشبابيك تدخل على مدار اليوم الضوء من لحظة استدارة قرص الشمس إلى وقت الغروب، وقد صُممت هذه الشبابيك خصيصًا لضمان دخول الضوء، وإلقاء نظرة شفافة وحانية على جموع المصلين، فهي مصممة بأشكال هندسية من الجص المعشق بالزجاج الشفاف، وأخرى داخلية من الزجاج الملون المشبع بصور نباتات شتى.
في سياق العلاقات القائمة بين الاحتلال الذي يعمل على تثبيت وجوده، والفلسطيني الرافض لهذا الوجود الاحلالي، تتم عملية هندسة جديدة للمكان، وفقًا لمعايير وقيم دينية يهودية، متجاوزين رفض الطوائف الحاريدية لهذا الاحتلال، وهو ما يحتاج من طرف الاحتلال عمليات “غزو” تهدف إلى تحقيق الفوقية والعلو، خاصة وأنّ مصل هذه الصروح الفنية الراقية، تُذكّر هذا المستعمر الغازي، كم هو مفتر وكذاب ولا يملك من قطمير في مسيرة التاريخ المقدسي عمومًا، والمسجد الأقصى خصوصًا، وكم هو تافه أمام هذه العبقرية البنائية الإسلامية الموغلة عمقًا في التاريخ، تمنح المكان القداسة وتُقدس الزمان بفعل العبادة اليومية بجوانبه وساحاته ومصلياته، وهو ما يغيظ الاحتلال من جهة، وينسف نظريته الاستعلائية من جهة أخرى، وبالتالي تتهدم نظريات الاستعمار الإسرائيلي على بوابات المسجد الأقصى، ويكون رد الفعل على الحالة المقاومة الرافضة لهذا الوجود الاعتداء الفيزيائي على الأجساد، كما الاعتداء على التراث، فتساوي بين الإنسان الصانع لهذا التراث، والتراث ذاته، وهو يمنحه قداسة خاصة لا يفهمها إلا الذي يعيش عظمة البيت المقدس.
تدمير الممتلكات ذات القيم التراثية في المسجد تحتاج لترميمها إلى فترات طويلة تمتد لشهور بل ولسنوات، والاحتلال إذ يعلم أنّ هذه العملية الاحتلالية تماس عملًا اجراميًا يمكن رفعه الى مستويات عالمية، لكن سطوته ومن يقف خلفه سيحول دون تقديم تلكم الشكاوي، وبالتالي يكون عامل الزمن المُعين على تلف تلكم الشواهد التاريخية، وهذه العملية التي تعمل عليها الدوائر الاحتلالية، لها شواهد في المسجد الأقصى ومحيطه سواء بسبب أعمال الهدم والتجريف الاحتلالية لمعالم المسجد الأقصى، ولذلك ستستمر الحرب الثقافية في المسجد وعليه، وستنتهي بانتهاء الاحتلال ومن يحميه من نظام دولي عالمي ظالم وأنظمة عربية متواطئة.