إجلس فإنك لا تعرفه!!!
الشيخ كمال خطيب
بينما عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقضي بين اثنين في خصام بينهما، فكان أن تقدم ثالث للشهادة في هذه القضية . فقال له عمر رضي الله عنه: أنا لا أعرفك، ولا يضرك أنني لا أعرفك، ولكن ائت بمن يعرفك. فقام من بين الجالسين رجل وقال: أنا اعرفه يا امير المؤمنين. فقال له عمر: بأي شيء تعرفه؟! قال أعرفه بالعدالة والفضل. فقال عمر رضي الله عنه: هل هو جارك الأدنى الذي تعرفه، ليله ونهاره ومدخله ومخرجه؟ قال: لا
فقال عمر: فهل عاملته بالدينار والدرهم اللذين بهما يستدل على الورع؟ قال: لا. فقال عمر: فهل هو رفيقك في السفر الذي يستدل به على مكارم الأخلاق؟ قال: لا. قال عمر: إجلس فإنك لا تعرفه، أراك رأيته يرفع رأسه ويخفضه في المسجد؟ ثم قال للرجل: اذهب وائت بمن يعرفك.
إنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه يعرف كيف وبماذا يوزن الرجال، وأنه لا تغريه المظاهر ولا يخدعه البريق ولا الألقاب، وإنما للرجوله موازين وضوابط لابد أن يأتيها من يريد أن يكون رجلًا بحق، ثم إن للإيمان موازين وضوابط لا بد أن يأتيها ويفعلها من يريد أن يكون مؤمنًا حقًا.
إن عمر رضي الله عنه قد عرف أن من الناس من يصلي ويأتي المسجد، ولكنه يمكن أن يخلع دينه على عتبة المسجد ويخرج للدنيا، يأكل مال هذا وينهش عرض هذا ولعله يسفك دم هذا.
إن عمر رضي الله عنه قد عرف بفراسته ولم يغرّه أن يرى مصليًا في المسجد يشحذ أسنانه بالسواك لتطبيق السنة، بينما هو بأسنانه ولسانه يأكل لحم أخيه المسلم { يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرًا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتًا فكرهتموه واتقوا الله إن الله تواب رحيم } آية21 سورة الحجرات. ان السواك هو سنة، بينما ألا نغتاب بعضنا ولا ننهش بعضنا هو فرض وواجب.
إن عمر رضي الله عنه كان يعرف أن الرجل يمكن أن يكون في المسجد يصلي بل ولعله قد حج واعتمر، ثم إذا خرج من المسجد يذهب إلى مجالس فيها معاصٍ ومنكرات، بل ولعلها تدار فيها الخمرة أو يجلس في مجالس لهو وشعاره (إذا صليت العشاء فافعل ما تشاء).
إن عمر رضي الله عنه كان يعرف أن الرجل يرتاد المسجد، ولعله يتخطى الرقاب ليصل إلى الصف الاول ويرضى لزوجته وابنته التبرج والسفور، وكأنه هذا شيء وهذا شيء آخر، وكأن الذي ناداه للصلاة هو ليس الذين ناداه بإلزام أهله بالحجاب.
إن عمر رضي الله عنه كان يعرف أن الرجل يرتاد المسجد ويصلي ولعله على جبينه طبعة أكبر من طبعة السيسي من أثر السجود، بينما هو عاقٌ لوالديه، بل لعله يؤذيهما ليس بأفٍّ وإنما بأكثر من ذلك.
إن عمر رضي الله عنه كان يعرف أن الرجل يرتاد المسجد ويصلي ويصوم، ولكنه يؤذي جاره، بل لعله يصلي معه في نفس المسجد بينما هو قاطع له حتى في السلام، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “وما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه”.
لا بل إن عمر رضي الله عنه كان يعرف أن الرجل يرتاد المسجد ويصلي الفرائض والنوافل ويقرأ القرآن، لكن جاره لا يأمن بوائقه “والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قالوا: خاب وخسر، من يا رسول الله؟ قال من لا يأمن جاره بوائقه”. نعم انه الجار والمصلي والذي ينتهك عرض جاره مع أنه قيل ( لأن تزني بعشر نساء أهون من أن تزني بحليلة جارك )، مع أن الزنا كله حرام لكن الاعتداء على عرض الجار أكثر حرمة.إنه عنتره، الشاعر العربي الجاهلي حيث للجاهلية قوانينها من الغزو والسلب والقتل والسبي، ولكن مع ذلك كان لها قوانينها في الأخلاق واحترام الجيرة حتى أن عنتره يقول:
وأغضّ طرفي ما بدت لي جارتي ***حتى يواري جارتي مأواها
إن عنترة لم يرد بذلك الجنّة ولا النجاة من النار، وإنما لأنها المروءة والشهامة كانت تأبى عليه أن يسيء إلى عرض جاره. بربكم أليست شهامة ومروءة عنترة أفضل بكثير ممن يؤدون الصلاة وأكثر منها بينما هم ينتهكون حرمات جيرانهم المسلمين.
إن عمر رضي الله عنه كان يعرف أن الرجل يرتاد المسجد، وحصل على شهادة معتمر وشهادة حج تربيع أو تكعيب ( يعني حج مرتين أو ثلاث ولعله أكثر )، وإذا حصل خلاف مع زوجته أو كنته ووصل إلى حد الطلاق، فإنه يبدأ يشهر ويكشف الستر ويفضح ما كان يومًا من الأيام عرضه مع أن التاريخ يروي لنا كيف يكون الرجال أصحاب المروءات.
تروي الكتب في مكارم الأخلاق أنه دخل رجل وامرأته على موسى بن إسحاق قاضي الأهواز، فادّعت المرأة أن لها على زوجها خمسمائة دينار مهرًا وأنه لم يسلمها إياها. أنكر الزوج ادعاء زوجته عليه وقال أنه أدى لها كل الذي عليه، فقال القاضي للزوج: هات شهودك. فأحضر الزوج الشهود، فاستدعى القاضي أحدهم وقال له: انظر إلى الزوجة وتأكد من معرفتك بها لتشير إليها في شهادتك، فقام الشاهد لينظر وقال القاضي للزوجة: اكشفي وجهك ليتعرف عليك الشاهد، فقال الزوج: وماذا تريدون منها؟ فقال له القاضي: لا بد أن ينظر الشاهد إلى زوجتك وهي سافرة كاشفة عن وجهها، فكيف يشهد على من لا يعرف. كره الزوج ورفض أن تكشف زوجته عن وجهها لرجل أجنبي عنها وقال للقاضي: إني أشهد أن لزوجتي في ذمتي المهر الذي تدعيه ولا حاجة أن تكشف عن وجهها أمام غيري من الرجال. فلما سمعت الزوجة ذلك أكبرت وأعظمت زوجها لأنه يغار عليها وقالت للقاضي: وأنا أشهدك أني قد وهبته هذا المهر وسامحته فيه وأبرأته منه في الدنيا والآخرة. فقال القاضي للكاتب: اكتبوا هذا في مكارم الأخلاق.
نعم، إن عمر رضي الله عنه يعلم أن سيكون رجال مسلمون من أجل خلاف على مال أو ثياب أو ذهب، فإنهم ينتهكون ستر بعضهم البعض ويكشفون أسرارًا لأن مروءتهم قد ضاعت:
مررت على المروءة وهي تبكي فقلت علام تنتحب الفتاة
قالت: كيف لا أبكي وأهلي جميعًا دون خلق الله ماتوا
إن عمر رضي الله عنه كان يعرف أنه سيكون من المسلمين من يصلي ويصوم ويحج تكعيب، لكنه لا يتورع بأن يقرض أمواله بالربا والفائض يحتال على دين الله وشرع الله، لا يعرف معنى تفريج الكربة ولا إغاثة الملهوف، بل إنه يستغل ظروف الناس ليقرضهم بالربا.
إن عمر رضي الله عنه كان يعرف أنه سيكون من المسلمين من يصلون ويصومون لكن الواحد منهم يعطي شيكات بلا رصيد، والبعض منهم يقترض ثم لا يفي بالوعد ويماطل بالسداد بل لعله ينكر حق صاحب الحق، ولقد صدق القائل: (إذا أراد منك يبوس يديك، وإذا أردت أن يعطيك ما أخذه منك يماطل حتى تتوسل إليه وتبوس أنت رجليه).
إن عمر رضي الله عنه كان يعلم أنه سيكون من المسلمين من يأكل حق العامل ويماطل في دفع الأجرة، ومنهم من يأكل مال الأيتام أو تعدى على الحق العام.
إن عمر رضي الله عنه كان يعرف أنه سيكون المسلم الذي يصلي ويصوم ويعتمر ويحج، بينما لا يتردد أن يمارس العنف ضد جيرانه وضد أقاربه وضد أهل بلده، بل ويستعمل السلاح ويطلق النار ويروّع الآمنين في بيوتهم مع أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ترويع عصفورة في عشها.
إن عمر رضي الله عنه كان يعرف أنه سيكون من المسلمين من يصلي ويصوم ويحج ويعتمر ويقوم الليل بينما هو يهتف ويصفق ويؤيد للقتلة والمجرمين الذين يذبحون المسلمين ويهجرونهم ويغتصبون نساءهم كما يفعل السيسي وبشار.
إن عمر رضي الله عنه كان يعرف أنه سيكون من المسلمين من يصلي ويصوم ويحج ولكنه ينتمي لحزب الليكود أو حتى شاس أو حزب ليبرمان أو غيرهم من الأحزاب الصهيونية، إنه لا يرى تعارضًا بين صلاته وصيامه وبين أن يحمل بطاقة لحزب ينتهك حرماتنا ومقدساتنا، بل ويفتخر أنهم يأتون إليه في بيته.
كان عمر رضي الله يعرف أنه سيكون من المسلمين من يدخل إلى المسجد ويصلي معنا ويسمع القرآن معنا ويسجد لله معنا، بينما هو ينقل أخبار المصلين وخطبة الجمعة وما يقال فيها، ولعله يجلس في الصف الأول حتى لا تفوته كلمة ولا حتى حرف (إنه جاسوس لوجه الله تعالى ).
إن عمر رضي الله عنه كان يعرف أنه سيكون من المسلمين من يصلي ويصوم بينما هو يسمسر على أراضي المسلمين احتيالًا ومكرًا ودهاءًا، وإذا بها تقع في يد المستوطنين والمغتصبين ثم يقال أنه يتبرع كثيرًا وأنه يتصدق بالسر كثيرًا لوجه الله تعالى.
إن عمر رضي الله عنه كان يعلم أنه سيكون من المسلمين من يصلي ويصوم، بينما هو يخدم في الشرطة التي تقتل أبناءنا بل والجيش الصهيوني الذي يغتصب أرضنا، بل إنه يقسم يمين الولاء على المصحف الشريف، بل إن منهم من شوهد يقف على أبواب الأقصى يمنع المسلمين ويعتدي على المسلمات ثم يقال أنه يصلي.
نعم، إنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو يقول إجلس فإنك لا تعرفه لمن قدم شهادته عن ذلك الرجل واصفًا إياه بالعدالة والفضل دون أن يجربه بالجيرة ولا بالمعاملة المالية ولا في السفر، إنه حكم عليه من غير تجريب والشاعر يقول:
لا تمدحن امرءًا حتى تجربه ولا تذمّنه من غير تجريب
إن عمر رضي الله عنه صاحب شعار ” لست بالخب ولا الخب
يخدعني” أي لست بالخبيث ولا الخبثاء يخدعونني. إن عمر رضي الله عنه يعلمنا كيف أن التظاهر بالورع والخشوع وانحناء الرأس واغماض العينين هي ليست علامات التقوى، وكيف لا ونحن نعلم أن هناك مخبرون في السجون الإسرائيلية يعرفون باسم ( العصافير) يتظاهرون بأنهم سجناء وهم يصلّون ويصومون ويحفظون من القرآن الكثير، ولهم لحى طويلة ويقومون الليل ولهم أوراد من الذكر، فيقومون بالايقاع بالمعتقل الجديد عبر تظاهرهم بالتدين والإلتزام والتقوى والمقاومة والوطنية ليقدم لهم اعترافات عجزت أجهزة المخابرات من انتزاعها منه.
إن قاعدة عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن الرجال لا يقاسون بالمظاهر ولا بالألقاب ولا بالنسب العائلي، وإنما يقاسون بالمعاملة وحسن الخلق، وهذا يأتي بالتجربة والممارسة.
إنه الله جل جلاله الذي نهانا أن نقول ما لا نفعل {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، كبر مقتًا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون} آية 2+3 سورة الصف.
إن الإيمان الذي لا يؤكده العمل {إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} هو إيمان مغشوش ومزعوم، وسرعان ما سينفضح صاحبه بالتجربة والممارسة، فما أجدرنا وأحرانا بإقران الأقوال مع الأفعال حتى تكون سلوكياتنا قدوة حسنة وليست فتنة ولا صدًا للناس عن الدين حين يرون أفعالنا تخالف أقوالنا.
ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين. اللهم اغفر لي ما لا يعلمون، واجعلني خيرًا مما يظنون، ولا تؤاخذني بما يقولون. اللهم آمين
رحم الله قارئا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون