طرابلس منقسمة بين الدبيبة وباشاغا: ملامح تحالفات عسكرية جديدة
تعيش العاصمة الليبية طرابلس حذراً أمنياً بالغاً وترقباً شديداً لما ستسفر عنه الأيام المقبلة، بعدما منح مجلس النواب الليبي، الأسبوع الماضي، الثقة لحكومة رئيس الوزراء المكلف من قبل البرلمان، فتحي باشاغا، والتي يتوقع أن يواجه أعضاؤها صعوبات جمّة في تسلّم مهامهم.
وتبرز هذه المخاوف، بعد احتجاز مجموعة مسلحة من مدينة مصراتة الواقعة في غربي البلاد، يوم الخميس الماضي، ثلاثة وزراء في حكومة باشاغا، هم وزير الخارجية حافظ قدور ووزيرة الثقافة صالحة التومي ووزير التعليم التقني فرج سالم، وقفل الأجواء أمام وزراء هذه الحكومة، لمنعهم من الوصول إلى مقر مجلس النواب في مدينة طبرق، في الشرق الليبي، للمشاركة في جلسة تأدية اليمين الدستورية للحكومة، والتي انعقدت في ذلك اليوم.
ويسود الغموض حول موعد دخول باشاغا وحكومته إلى طرابلس، في ظلّ تمسّك رئيس الحكومة الانتقالية عبد الحميد الدبيبة بمهامه، ورفضه تسليم السلطة التنفيذية إلا إلى سلطة منتخبة، واصفاً حكومة باشاغا بالحكومة الموازية.
وعلى الرغم من تأكيد باشاغا في تصريحاته منذ تكليفه وتشكيله لحكومته، عزمه على دخول العاصمة بشكل سلمي، إلا أن ما تعيشه طرابلس من توتر أمني، أظهره ارتفاع وتيرة تحركات السيّارات الأمنية، وكثافة الحواجز الأمنية في منافذ العاصمة وطرقاتها الرئيسية، يزيد المخاوف من إمكانية وقوع مواجهات مسلحة بين أنصار الحكومة الجديدة، وحلفاء حكومة الدبيبة.
اصطفافات عسكرية غرب ليبيا بين الدبيبة وباشاغا
وظهر أول ملامح الاصطفافات العسكرية في البلاد، مع بداية الحديث عن ترشح باشاغا لرئاسة حكومة جديدة، كان أبدى مجلس النواب، لاسيما منذ إخفاق ليبيا في إجراء انتخاباتها في 24 ديسمبر/كانون الأول الماضي، عزمه على تشكيلها لتحل مكان حكومة الدبيبة.
وأعلن 65 فصيلاً مسلحاً في مصراتة، في بيان مشترك صدر في 12 فبراير/شباط الماضي، رفضهم تغيير الحكومة، وتعيين باشاغا رئيساً لحكومة أخرى. وتزامن ذلك مع بيان آخر حمل الموقف ذاته، وصدر باسم “قادة وكتائب وثوار القوى المساندة للجيش الليبي”، وتلاه مسلحون في العاصمة طرابلس خلال عرض عسكري لهم في ميدان الشهداء. واعتبر البيان أن تشكيل حكومة جديدة يأتي في إطار مساعي مجلس النواب للتمديد لنفسه، وتأجيل الانتخابات.
مقابل ذلك، أعلن 118 فصيلاً مسلحاً من مصراتة، في 14 فبراير الماضي، دعمهم تغيير الحكومة وتعيين باشاغا رئيساً لها، بحجة أنها ستكون أولى إفرازات “اتفاق ليبي – ليبي”، ينهي حالة الانقسامات والاحتراب في ليبيا، وينشد الاستقرار المأمول للبلاد. علماً أن باشاغا والدبيبة يتحدران من مصراتة، المدينة النافذة والقوية في الغرب الليبي.
وعلى الرغم مما حملته هذه البيانات من تواقيع وأختام لأسماء تشكيلات مسلحة، إلا أنها في الحقيقة تبدو مجرد أسماء وأرقام هدفها زيادة الزخم وترك الأثر، أكثر من كون هذه الفصائل تتمتع بقوة أو وجود حقيقي وكبير على واقع الأرض. كما غابت عن تلك البيانات، أسماء قوى عسكرية كبرى، لا يزال موقفها من المشهد الحكومي الحالي غامضاً.
أبرز التشكيلات المسلّحة في طرابلس
يمكن رصد أبرز التشكيلات المسلحة في طرابلس، الموالية لحكومة الدبيبة، من خلال بيان مصوّر صدر في الأول من مارس/آذار الحالي، باسم القوى العسكرية في المنطقة الغربية. وصدر البيان على شكل تسجيل، ظهر فيه عدد من قادة التشكيلات المسلحة في العاصمة الليبية، للتعبير عن رفضهم تغيير الحكومة ورغبتهم في بقاء حكومة الدبيبة إلى حين إجراء انتخابات برلمانية.
ومن بين هؤلاء القادة: عبد الغني الككلي، قائد أبرز القوى العسكرية وأقدمها في طرابلس، والتي تعمل تحت مسمى جهاز دعم الاستقرار، وتمتلك قدرات عسكرية كبيرة وأفراداً مدربين. ويتخذ “جهاز دعم الاستقرار”، من حي أبو سليم، وسط العاصمة، تمركزاً له.
كما برز اسم عبد السلام زوبي، قائد الكتيبة 301 مشاة، التي تعد من القوى العسكرية البارزة في العاصمة، كما أن زوبي من الشخصيات العسكرية المقربة من الدبيبة، والذي رافق رئيس الحكومة الانتقالية في عدد من رحلاته وزيارته إلى خارج وفي داخل البلاد.
وبالإضافة إلى الككلي وزوبي، هناك محمود بن رجب، قائد اللواء 53 مشاة، إحدى المجموعات العسكرية الكبيرة التي تشكلت حديثاً في طرابلس، والتي تتوفر على تسليح وتدريب عالٍ. وشارك بن رجب الدبيبة في أكثر من مناسبة لتخريج دفعات جديدة للواء.
وعلى الرغم من عدم مشاركة قيادات أخرى في البيان، كقائد اللواء 444 مشاة، اللواء محمود حمزة، وآمر لواء النواصي، مصطفى قدور، إلا أن المعروف عن الرجلين ولاءهما لحكومة الدبيبة. وكان الأخير قد أقال، بصفته وزيراً للدفاع، في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، آمر منطقة طرابلس العسكرية، اللواء عبد الباسط مروان، بعد خلاف بينه وبين حمزة وقدور، واستبدله بشخصية أخرى مقربة منهما.
في غضون ذلك، يبدو غياب مواقف قوى عسكرية أخرى في طرابلس، محل توجس، خصوصاً أنها تعد من الأكثر تسليحاً وتدريباً. وأبرز هذه القوى: جهاز الردع لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة، والذي يتخذ من قاعدة امعيتيقة، مقراً له، واللواء 777 مشاة، بقيادة هيثم التاجوري، والذي يتخذ من معسكر 77 وسط العاصمة، مقراً.
ولم يصدر عن كلّ من الجهازين، حتى الآن، موقف واضح من التغيير الحكومي. ومن التشكيلات المسلحة التي لا يزال موقفها غامضاً أيضاً، كتيبتا “رحبة الدروع” في تاجوراء، التي تعد المنفذ الشرقي للعاصمة، و”فرسان جنزور” في منطقة جنزور بالمنفذ الغربي.
توزع المواقع والسيطرة يعزّز اللاحسم
على الرغم من حداثة تشكل ألوية 444 و777 و53، من مجموع قوى عسكرية صغيرة شاركت بقوة في كسر هجوم مليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر على طرابلس (بدأ في إبريل/نيسان 2019)، إلا أن توزع مواقعها يمنحها قوة تؤهلها لكي تكون هدفاً لأي تحالف من أجل السيطرة على طرابلس.
هذا ما يعتقده الباحث الليبي في الشأن الأمني، الصيد عبد الحفيظ، الذي يرى، في حديث صحفي، أن تمركز اللواء 444 على القطاع الجنوبي الغربي لطرابلس، حيث تتوزع أهم المعسكرات في العاصمة، يؤهله ليكون قوة تشكل خطراً على أي طامح للسيطرة على المدينة، خصوصاً مع تحالف هذا اللواء وتقاربه مع قوة “جهاز الردع”، الذي يتمركز في قاعدة امعيتيقة، حيث يعد محمود حمزة، قائد اللواء 444، من الضباط التابعين لجهاز الردع.
وتقابل تحالف القوتين، اللواء 444 و”الردع”، قوة اللواء 777، الذي يتمركز في معسكر 77، الملاصق لقاعدة باب العزيزية، مركز حكم معمر القذافي السابق. وبحسب عبد الحفيظ، فإن لهذا الموقع أهمية عسكرية كبيرة بسبب قدرة أي قوة تتمركز فيه على التوزع والانتشار في مفاصل العاصمة، كونه يحاذي أهم مجمعات طرق العاصمة.
ويقدّر عبد الحفيظ بأن شكل التوزع الحالي، إذا ما أظهرت القوى العسكرية التي لم تكشف بعد عن ولائها، ميلاً إلى جانب باشاغا، لا يخدم مصلحة أي من رئيسي الحكومتين. ويعتبر أن التوزع بهذا الشكل، سيفضي إلى حالة من الجمود العسكري، إذ ستكون النتيجة صفرية في حال ذهاب أي من الطرفين للصدام المسلح مع الآخر.
من جهته، يؤكد الناشط السياسي الليبي، خميس الرابطي، أن هذه القوى العسكرية لا تملك قدرة على الفعل العسكري من دون حصولها على دعم من القوى المسلحة ذات الوزن السياسي والعسكري في غرب البلاد، وتحديداً في مدن مصراتة، والزاوية، والزنتان، وغريان.
ويلفت الرابطي، في تصريحات صحفية، إلى أن قوى مصراتة العسكرية، وعلى الرغم من ثقلها الكبير، إلا أنه لا يبدو أن أياً من الدبيبة وباشاغا، سيعول عليها بشكل كبير، بسبب الرفض الشعبي الواسع في المدينة لحالة الانقسام التي قد يلقي بها مشهد الخلاف بين الرجلين على المدينة.
ويوضح الرابطي أن “من أهم دلالات ذلك، سرعة تدخل زعامات المدينة لفكّ الاشتباك الذي كان على وشك الحدوث عند اعتقال القوة المشتركة الموالية للدبيبة وزراء في حكومة باشاغا، وذلك لمنع حدوث أي صدام، بل والعمل على إطلاق سراح المعتقلين”.
أما في مناطق غربي طرابلس، فيرى الرابطي أن باشاغا على دراية بالتوازنات العسكرية هناك، انطلاقاً من خلفيته الأمنية كضابط شرطة سابق، وكوزير سابق للداخلية في حكومة فايز السراج (حكومة الوفاق الوطني السابقة)، ولذا فقد تمكن من كسب ولاء قوة مدينة الزاوية العسكرية باختياره عصام أبوزريبة (يتحدر من الزاوية)، وزيراً للداخلية في حكومته الجديدة، بحسب الناشط.
ويشرح الرابطي أن أبوزريبة يتمتع بأهمية كبيرة، إذ هو شقيق حسن وعلي أبوزريبة، اللذين يعدان من أبرز قادة التشكيلات المسلّحة في الزاوية. ويرى أن باشاغا “قد يكون أراد ضمان مدينة الزاوية لأهميتها الكبيرة بالنسبة لطرابلس، كونها المنفذ الغربي المحاذي للعاصمة، بالإضافة إلى أنها حليف قوة لقوى الزنتان، لاسيما قائدها العسكري اللواء أسامة الجويلي، آمر المنطقة العسكرية الغربية، والذي أصدر بياناً مؤيداً لتغيير حكومة الوحدة الوطنية”.
وبحسب قراءته لخلفيات وتاريخ التشكيلات المسلحة في البلاد، يرى الرابطي أن القوة الأساسية لأي حراك عسكري هي للقوى الكبرى في العاصمة، و”المعروف عن ولائها بأنه متغيّر، ولديها القدرة على ربط تحالفات جديدة إذا ما تغيرت مصالحها”.
وبرأي الرابطي، فإن الوضع الأمني في طرابلس سيتجه إلى حالة الجمود والمراوحة، “فأي من الحكومتين لا تملك قدرة على التحشيد العسكري لحسم الأمر بعملية خاطفة، خصوصاً أن المجتمع الدولي لن يقبل بحرب ثانية طويلة الأمد في العاصمة الليبية”.
كما أنه يعتبر أن “العامل الأهم في إبعاد شبح الحرب عن طرابلس، هو أن حلف باشاغا وحفتر لا يزال يلفه الغموض، ما يشكل منطلقاً للتوجس الذي تعيشه مختلف القوى العسكرية في طرابلس ومدن غرب البلاد، بما فيها مصراتة”.