النقب المعركة الأخيرة، لماذا؟ (4/4)
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
الصراع في النقب هذه الأيام على أشدّه، وهو صراع غير متكافئ بين قوة تملك كافة الإمكانيات وأهل لا يملكون سوى الإرادات الصلبة وما يتيسر من أدوات مواجهة الظلم النازل عليهم، فتحريش الأراضي، وتخريب الزرع، كما حدث مؤخرًا في إم بطين وتل السبع ليس إلا بيانًا لما أشرت.
ملكية الأرض لأهالي النقب، هي مسألة محسومة بالنسبة للكل الفلسطيني، ليس قانونيًا وتاريخيًا فحسب، بل وأخلاقيًا ودينيًا، وبيان ذلك تصريحات الحاخام موشيه غافني في الكنيست حينما صرّح أنّ اليهود جاؤوا من أصقاع الأرض وجرّدوا أصحاب العرب من أراضيهم وطردوهم، سببه أنّ هذه الأرض منصوص في التوراة انها لهم- طبعًا هذا قولٌ عارٍ عن الصحة وقد بيّنَ الشيخ رائد صلاح في كتابه الرائع (قراءة سياسية في توراة اليوم) تهافت هذا القول من خلال النصوص التوراتية ذاتها- ممّا يعني أننا أمام حرب روحها توراتية بامتياز. ومن ثمّ، فالصّراع على الأرض التي هي آخر الحلقات بالنسبة لهم في إسرائيل، هو صراع وإن كان على الأرض وبالتالي الوجود، فهو صراع ديني وتتجلى محايثاته هذه الأيام في النقب حيث تقود الحملات المسعورة هناك جمعيات ومنظمات دينية. ومنذ في مطلع هذه الالفية تبنت المؤسسة الإسرائيلية سياسة الأرض المحروقة مع القبائل البدوية وبيّنت أنها تعمل على هدم عشرات الآلاف من البيوت بحجة البناء غير المرخص وبناء سبعة تجمعات سكنية يُحشر فيها ساكنة النقب من القرى مسلوبة الاعتراف. ووفقًا للعقل الإسرائيلي سيتمّ تهويد النقب من خلال إنشاء تجمعات استيطانية يهودية كبرى ومنح الافراد حق استملاك آلاف الدونمات بشروط مريحة، بل وبدعم قوي من الدوائر المختصة، فضلًا عن دائرة أراضي إسرائيل. يقابل ذلك تعزيز سياسات الرقابة، ولعل أحداث هبّة الكرامة سرَّعت من هذا التوجه حيث دخل الشاباك إلى داخلنا الفلسطيني علنًا ومهمته الاساس إبقاء القبضة القوية مرفوعة لتحقيق الترهيب والتخويف والردع الذي أصابته شظايا هبة الكرامة وبرز البعد الوطني بين أبناء النقب الذي فاجأهم، فكان التسريع في هذه السياسات ضمن إعادة الردع الذي تصدعت بعض من معالمه في الداخل الفلسطيني عموما والمدن الساحلية والنقب خصوصًا.
وفي هذا السياق، تأتي مصادرة الأرض لإحالة أصحاب الأراضي إلى أيدٍ عاملة غير مهنية في بيئة تعتبر من دعامات العصر الرقمي والتحديث الزراعي الموجه، ممّا سيزيد أوضاع الناس صعوبة ليكون الهم الأساس تدبير المعاش بعدئذ دفعتهم المؤسسة الإسرائيلية رغما عنهم إلى مستنقع الفاقة والفقر وما يلحق بهما من تداعيات سلبية قاهرة، وقد بات واضحا أنّ المؤسسة الإسرائيلية تعمل كل جهدها لإبعاد أهالي النقب عن الأرض وما قطع علاقاتهم بالزراعة إلا باب من أبواب تحقيق هذا الهدف.
أدوات إسرائيلية في الصراع راهنًا
من دعائمها، مصادرة الأرض برسم تحويل الناس للعمالة ومنهم النساء، سعيا لتوفير الحد الأدنى من الحياة الكريمة. ومن أهداف المؤسسة الإسرائيلية راهنا، حسم موضوع الجريمة المنظمة وليس العنف المجتمعي، فمحاربة الجريمة مصلحة إسرائيلية عليا، إمّا بسبب تعلق الأمر بالوجود اليهودي وحفظ بيضته، وإمّا بسبب معاني السيادة وفرضها دفعا لتطمين الساكنة اليهود كمدخل لتعزيز الاستيطان، وهو ما سيترتب عليه مكافحة الفساد في الداخل النقباوي، ليس حرصًا على الساكنة وتحقيق جودة حياة، بل كمدخل لتحقيق وإنفاذ معنى السيادة والحكم ومنها الاسقاط للشباب النقباوي ذكرانا وإناثا عبر مختلف الأدوات التي تملكها السلطات الإسرائيلية، ومن ذلك، تجنيد نخب نقباوية وغير نقباوية تهيئ الأرضية لقبول الساكنة البدو بما تعرضه السلطات اليوم من عروض تتعلق بالأرض وتملكها حاضرًا، لتشكل تلكم الموافقات الخلفية القانونية- الأخلاقية للمؤسسات الإسرائيلية لتتمكن من الأرض بحيث تستحيل ملكيتها للكيرن كيمت أو دائرة أراضي إسرائيل أو الوكالة اليهودية وبموافقة الأهل، مما يعني مستقبلًا أن حقوق ملكية أراض في النقب ثابتة لليهود تستعين بهذا الحق في المرافق الإقليمية والدولية، وستكون لذلك الآثار الهامة في الاتفاق الابراهيمي الذي باتت رياحه تضرب منطقتنا العربية والعجمية. هذا إلى جانب خلق مشكلات حضرية، إذ تشير عديد الدراسات المجتمعية والاجتماعية إلى حجم التغيرات في الأسرة البدوية في تلكم النجوع وما طرأ عليها من سلوكيات تنافي الأعراف البدوية وهو ما يهدد الأنماط البدوية المتوارثة عبر الأجيال، وتعود أسباب هذه الظاهرة إلى فشل التأقلم بين الحداثة بما فيها من قيم وانماط حياة وسلوكيات مجتمعية ومعاشية وأصول الحياة البدوية وأعرافها وقد ذهب كل من يوسف بن دافيد وعمونئيل ماركس وآفي ناعوم مائير، إلى أنّ البدو القاطنين خارج الأطر الرسمية أي التجمعات البدوية المسلوبة الاعتراف يرفض ساكنتها تلكم الأعراف والقيم التي تغزو التجمعات الحضرية حفاظًا على وجودهم ورموز حياتهم وتقاليدهم. وتشير الدراسات ذات الطابع الاجتماعي- السياسي إلى أنّ الفضاء الحضري في المساكن الثابتة سيتقلص مع ازدياد السكان في هذه التجمعات وبقاء الأرض كما هي، خاصة في ظل الموروث المتعارف عليه بأن الأرض إذا كان لها أهلها فيستحيل الاقتراب منها في وقتِ بنيت تلكم التجمعات البدوية على أساس انها تجمعات للنوم وليس لخلق حياة اقتصادية ومعيشية وثقافية الخ… وهذا بدوره سيؤثر كثيرًا في مبنى الهوية الجمعية للإنسان “البدوي” على المستوى الشخصي كما سيؤثر على المجموع (العشيرة). تراهن المؤسسة الإسرائيلية في صراعها على الأرض، على أنّ تشديد الحملات على الساكنة البدو في عديد القرى والنجوع مسلوبة الاعتراف، سيدفع الشباب إلى الجنوح والجريمة ومن ثم ترك الأرض والابتعاد عنها، خاصة مع بيان يومي لصعوبة الحياة ابتداءً من الحصول على شربة الماء وتصريف المياه ومرورًا بالتعليم والصحة وما يتعلق بمعاش وحياة الانسان. وفي هذا السياق، تشكل البطالة بما تخلق من تداعيات اجتماعية ونفسية أداة مهمة من أدوات السيطرة والتجنيد عند الحصول على مخصصات البطالة وتسويات وتحسين الدخل، ومن هذا الباب دخلوا الى الواقعين الاجتماعي والمجتمعي بتفكيك النسيج البدوي وإخراج المرأة للعمل دفعًا للفقر الذي يقارب الـ 60% من مجموع السكان والبطالة بلغت الـ 40% في أحايين كثيرة، وارتفاع نسبة الوفيات لتصل إلى 17% وفي ظل هذه الأحوال والأوضاع تتردى الأوضاع الصحية عمومًا في النقب، وبالذات في القرى مسلوبة الاعتراف إلى جانب الإهمال البيئي من قبل الدولة المتعمد في الحواضر والبيئة البدوية، ومعلوم الصراع الدائر على نقل المخلفات البيئية من ميناء حيفا إلى النقب وقصة الفوسفات وكهرباء الضغط العالي وتسريب مياه المصانع الكيماوية إلى الواحات الصحراوية، وتدمير متمعد للبيئة الصحراوية البعيدة عمليًا عن الصراع مع الساكنة البدو هذا إلى جانب المُكرهات الصحية التي تقترفها المصانع الاسرائيلية وتقذف بها الى الصحراء أو تمررها بجانب بيوت آهلة بالسكان. وفي هذا السياق، ثمّة محاولات لمدننة المرأة البدوية والعمل عليها، إمّا عبر شبكات مؤسساتية تتشابك مع الحكومة والجامعات والاتحاد الأوروبي أو من خلال العمل الفرداني، إذ بإخراج المرأة البدوية للعمل ستنتهي تدريجيا الكثير من أنماط الحياة المورثة عدد قرون وسيؤسس لمرحلة جديدة في حيوات النقباويين سيكون الداعم لهذه المرحلة “المشوهة” سياسات المؤسسة الإسرائيلية اتجاه الأرض والانسان، ولا زلنا نتذكر أقوال رئيس الوزراء الإسرائيلي بينيت، اتجاه قضايا أهلنا واتهامه إياهم بالتخريب، معتبرًا إياهم أعداء، والعقل الإسرائيلي لا يتعامل مع الفلاح الفلسطيني في النقب على أنّه مواطن بل على انه عدو متمكن الى هذه اللحظة مما ليس له بحق، ومع وجود عقلية يمينة دينية مسيانية تحكم البلاد اليوم، فمسألة الصراع على الأرض بالقطع تحمل سنانًا شبه عسكرية.
النقب جزء من المدافعة القائمة..
لا يمكن للمؤسسة الإسرائيلية عبر رؤية حضارية مستقبلية، أن تربح معركتها على النقب، فالنقب جزء من كل في صراع مع الوجود الإسرائيلي الذي لا يقبل الانخراط في مجتمعات الشرق الأوسط إلا عبر فرض سيادته عليها، مستعينًا بمعاول الهدم العربية والدولية لمجتمعاتنا في ظل تسيد غير مسبوق للحداثة والحضارة الأوروبية ذات النفس الصليبي المُؤسس على اليهودية- المسيحية. وهذه العملية من الايض الحضاري ستأخذ دورتها الكاملة وخلالها تتم عمليات المدافعة بما تملكه من أدوات القوى الناشطة في النقب وهذه المدافعة ستشكل الأرضية الحيّة لبقاء مسألة النقب حيّة، خاصة في عصر السيولة المعلوماتية، وقد باتت قضية النقب تضرب أسوار وجدران مؤسسات دولية وأممية تتحسس من المؤسسة الإسرائيلية وهيمنة لوبياتها الصيو-يهودية، عالميا.