فلسفة الواقعية في النظام الإسلامي (6)
د. محمود مصالحة
إن فلسفة الواقعية الإسلامية هي تفاعلية تغييرية للواقع المجتمعي، وشمولية للجوانب العقدية والعبادات والتشريعية والتربوية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية والثقافية والفكرية، وهكذا تغيّرت يثرب حينما دخلت الإسلام غيّرت واقعية ماضيها القريب، وتخلَّت عن عقيدة الشرك والتيه والضياع والضلال والانقسام والاقتتال بين قبيلتي الأوس والخزرج، وعصبيات التحالفات الجاهلية، ودخلت في الإسلام كافّة، فغيَّرت اسمها وسُميت بالمدينة المنورة التي لم يُسجِّل التاريخ لها مثيل، لقد شقّت المدينة المنورة بنور محمد صلى الله عليه وسلم طريقها، وعرفت حقيقة ذاتيتها وهويتها الإسلامية، فحددت مسارها، ولبست حلتها وتزينت بأناشيد الترحيب بالنبي صلى الله عليه وسلم “طلع البدر علينا” وتركت واقعية القومية الجاهلية الانقسامية المتخلفة، واستبدلتها بواقعية العلو والرقي الإيماني والإنساني المُشرق تنظر إلى أفاق المستقبل المضيء، وأشرقت أرضها، وتعانقت سماؤها بأهلها الذين وجدوا ضالتهم بمربيهم ومرشدهم وهاديهم وقائدهم محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، يرسم للأمة وللبشرية طريقها ومنهج حياتها ملؤها السعادة، يقودها إلى خيري الدنيا والآخرة، فيا لها من واقعية عظيمة، كبُرت بعظمة دينها وعظمة الرسول صلى الله عليه وسلم، تعالى: “لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ” سورة التوبة:128. وتغيرت واقعيتها وبمنَّة من الله تعالى على أهلها بالنور المبين والبشير والسراج المنير رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذي أخرجهم من ظلمات الشرك والكفر إلى الإيمان، ومن العداوة والكراهية إلى الأخوة والمحبة والإيثار، ومن التفكك والضعف إلى الوحدة والتلاحم والقوة، ومن الجهل إلى العلم، جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم فنقلهم من ذيل الأمم، إلى المقدمة بمنهج التوحيد والعزة والكرامة والقوة والعلم، منهج التميز بهوية الثقافية الإسلامية، منهج الرسالة الحضارية.
وأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع الأسس للواقعية الجديدة بتنظيم الحالة الدينية والاجتماعية والسياسية والأمنية والاقتصادية، على أساس بناء الدولة الإسلامية الحضارية العادلة الأولى عبر تاريخ الأمم. فبدأ بالخطوات الأهم لتثبيت دعائم الدولة الجديدة:
فكان أولا: بناء المسجد الذي هو أهم ركائز الإسلام في بناء المجتمع الإسلامي، فالمسجد يعزز تماسك وحدته، وفيه تظهر شعائر الإسلام التي طالما حوربت، وفيه تقام صلوات الجمعة والجماعات فيتعلق قلب المؤمن بربه خالقه، وفيه يُرفع الأذان شعار المجتمع الإسلامي، وهو دار العلم والتربية في بناء الأفراد والجماعات، وفيه يقام مجلس الشورى، وتصدر فيه التوجيهات النبوية الشريفة، ومنه يأخذ المسلمون التوجيهات والتعليمات في الشؤون الحياتية كلها.
ثانيا: المؤاخاة العامة وهي الخطوة الهامة التي قام بها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي القيمة المبدئية المتممة لقيمة لبناء المسجد، فبالمؤاخاة تذوب العصبيات الجاهلية، والمؤاخاة من أهم دعائم الدولة الإسلامية، فآخى النبي صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار، وقد استوعب الأنصار بما تمتعوا به من قيمة الأخوة الإيمانية إخوانهم المهاجرين الأوائل الذين هاجروا قبل هجرة النبي وحتى غزوة بدر في بيوتهم وأموالهم، قال تعالى فيهم: “وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ۚ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِى ٱلْأَرْضِ جَمِيعًا مَّآ أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ۚ إِنَّهُۥ عَزِيزٌ حَكِيمٌ” الأنفال:63، لقوله صلى الله عليه وسلم: “المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه” رواه أحمد(7929)، وكذلك “والمؤاخاة نوع من السبق السياسي” وظهر ذلك عند استخلاف أبي بكر رضي الله عنه (علي الصلابي)، فقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أبي بكر وخارجة ابن زهير، وبين عمر بن الخطاب وعتبان بن مالك، وبين أبو عبيدة وسعد ابن معاذ.
ثالثهما: الوثيقة النبوية: التي أصدرها النبي صلى الله عليه وسلم وما فيها من عظمة، لتمثل الدستور الأساس في قيام الدولة التي ترعى مصالح أهلها، فتحافظ على الأمن الغذائي والاجتماعي والأمن السياسي والأمن والاقتصادي والأمن التربوي والأمن العسكري،
وأما فيما يتعلق بالعلاقات بين المسلمين واليهود المدينة: فقد نظمت الوثيقة النبوية العلاقات في الجوانب السياسية والاقتصادية والأمنية، ألغت كل أشكال التحالفات والولاءات المخالفة لها، من المصلحية النفعية، والعصبيات القومية الجاهلية، ثمّ تمّ إعداد جيش لحماية الدولة لنشر رسالة الإسلام.
ووادع النبي صلى الله عليه وسلم فيها يهود وعاهدهم، وأقرَّهم على دينهم وأموالهم، جاء فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا كتابٌ من محمدٍ النبي صلى الله عليه وسلم، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم، فلحِقَ بهم، وجاهد معهم، إنَّهم أمة واحدةٌ من دون النَّاس. أي جعلهم بما فيهم القبائل اليهودية مجتمع واحد وأمة متوحدة. ونذكر من نصوصها: قوله صلى الله عليه وسلم “وإنَّه من تَبِعَنا من يهود فإنَّ له النَّصْرَ والأُسوة غير مظلومين ولا مُتناصرين عليهم”. وأقرّهم النبي صلى الله عليه وسلم، على دينهم والمسؤولية على أنفسهم: فقال: “لليهود دينُهم وللمسلمين دينُهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظَلَم وأَثِمَ، فإنَّه لا يُوتغ أي (لا يهلك) إلا نفسه وأهل بيتِه. وكذلك أقرّهم على أموالهم قال: “وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وإن بينهم النَّصْرَ على من حارب أهلَ هذه الصَّحيفة، وإن بينهم النُّصْح والنَّصيحة والبِرَّ دون الإثم، وإنه لم يأثم امرؤٌ بحليفه، وإن النَّصْر للمظلوم، وإنَّ اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين، وإنَّ يثرب حرامٌ جوفُها لأهل هذه الصَّحيفة”. اشترط عليهم التناصر على من هاجم المدينة فقال: “وإنَّ بينهم النَّصْرَ على من دَهَمَ يثرب وإنَّه لا يحولُ هذا الكتابُ دون ظالمٍ أو آثم، وإنَّه من خرج آمنٌ، ومن قعد آمنٌ بالمدينة، إلا من ظَلَمَ أو أَثِمَ “.(سيرة ابن هشام).
وهكذا الواقعية الإسلامية تغييرية غيَّرت الواقع فأُقيمت الدولة الإسلامية الأولى دولة المدينة المنورة.