كن عزيز النفس لا أضحوكة الناس
د. عبد الله ادريس
يُفهمُ من قوله تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)، أنّ الكرامة منحة إلهية، وأن إذلال النفس وإهانتها مخالف لفطرة الإسلام، فالمسلم عزيز كما قال تعالى: (ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون). وهي أساس ينبغي أن تربى عليه شخصية الإنسان، وفي الحديث: لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه، وذكر نوعا من الإذلال فقال: يتعرض من البلاء لما لا يطيقه. وكان يدعو فيقول: اللهمّ إنّي أعوذ بك من الفقر، والقلّة، والذّلّة. وكما أمرنا بالحفاظ على كرامتنا أمرنا بالمحافظة على عزة المسلمين وكرامتهم، ففي الحديث: من أذلّ عنده مؤمن فلم ينصره- وهو يقدر على أن ينصره- أذلّه الله- عزّ وجلّ- على رؤوس الخلائق يوم القيامة.
ولذلك، كانت هذه الكلمات جملة من النصائح ينبغي الانتباه إليها: أولا، لا تسمح لأحد أن يخدعك أو يحقرك أو يجعل منك أضحوكة. يقول إياس بن معاوية: لست بالخِب ولا الخب يخدعني. فالمسلم أمين صادق لا يخادع الناس، وقوي العقل والفطنة لا يُخْدَعُ. وهو متسامح غير مغفل “المؤمن كيس فطن حذر”.
صحيح أن الله عز وجل أمرنا بالتواضع مع المؤمنين فقال: (أذلة على المؤمنين..) لكن عندما يحاول بعض الناس أن يخدعنا أو يتكبر علينا فإننا أهل عزة وكرامة، يقول بشر الحافي يقول: التكبر على المتكبر من التواضع. فإن تواضعك له يجعله يتمادى في ضلاله، وقال الشافعي: تكبر على المتكبر مرتين. يُذكر أحيانا في بعض مجالس الناس اسمُ رجل من الرجال، فيشهدون له بأنه خلوق محترم، وباللهجة العامية: “آدمي”، وفي الوقت الذي يطالب هذا الرجلُ الآخرين بحقه ويغضب أحيانا لحقه المسلوب، أو يرفع قضية للمحكمة لنيل حقه الذي يئس من محاولات تحصيله، أو ينهى عن منكر يرتكبه آخرون في حق الناس والأمة، يصبح هذا الرجل منبوذا غير خلوق في عُرفِ كثير من الناس لأنه جريء!!
فالخَلُوق ليس من يريد سلته بلا عنب، ولا هو الذي يتنازل عن حقه ويستحي بالمطالبة به، ولا هو الذي ينتزع حقه انتزاعا بطرق قوية قانونية لا عنف فيها، ولا هو الذي: “يمشي الحيط الحيط ويقول: يا رب السترة”، ولا هو الذي يعفو دائما وأبدا، ولا هو الذي من ضربه أحدٌ على خده الأيمن أدار له الأيسر، بل هو المسلم الجريء الذي يسعى وراء حقه ويدعو على ظالمه ويغار على مجتمعه ويعفو في الوقت المناسب، ويبسلُ في الوقت المناسب. إذا قيل حُلمٌ قل فللحلمِ موضع… وحلم الفتى في غير موضعه جهل كان في الأسارى يوم بدر أبو عزة الجمحي، فمنّ عليه رسول الله بلا فدية، واشترط عليه أن لا يقاتله، فلما أسر يوم أحد قال يا محمد امنن علي لبناتي وأعاهد أن لا أقاتلك، فقال رسول الله: لا أدعك تمسح عارضيك بمكة وتقول خدعت محمدا مرتين ثم أمر به فضربت عنقه، وذكر بعضهم أنه يومئذ قال رسول الله: لا يلدغ المؤمن من جحر واحد مرتين.
فإن كنت محتاجا إلى الحلم إنني.. إلى الجهل في بعض الأحايين أحوج
ولي فرس للخير بالخير ملجم.. ولي فرس للشر بالشر مسرج
فمن رام تقويمي فإني مقوم.. ومن رام تعويجي فإني معوج
ثانيا: احفظ كرامتك أمام أصحاب المال والجاه: فلا تذل نفسك أمامهم، فإنهم ليسوا أفضل منك في شيء فربما تكون نعمهم نقمة عليهم، وفقرك رفعة إليك. قال وهب بن منبه: “وجدتُ في التوراة أربعة أسطر متوالية: من شكى مصيبته فإنما يشكو ربه، ومن تضعضع لغني ذهب ثلثا دينه، وَمَنْ حَزِنَ عَلَى مَا فِي يَدِ غَيْرِهِ فَقَدْ سَخِطَ قَضَاءَ رَبِّهِ، وَمَنْ قَرَأَ كِتَابَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ يَظُنُّ أَنْ لَا يَغْفِرَ لَهُ فَهُوَ مِنَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بِآيَاتِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: وَمَنْ خَضَعَ لَغَنِيٍّ وَوَضَعَ لَهُ نَفْسَهَ إِعْظَامًا لَهُ، وَطَمَعًا فِيمَا قِبَلَهُ ذَهَبَ ثُلُثَا مُرُوءَتِهِ، وَشَطْرُ دِينِهِ.
مشكلة الكثير منا أنه يطبل لآرائهم الساذجة ويقدمهم في المجالس بل وفي إمامة الصلوات رغم علمه بأن كثيرا منهم لا يستحق التكريم، لأجل نيل مكانة عندهم ولو على حساب الحق! يقول ابن أبي لبابة: من طلب عزا بباطل أورثه الله ذلا بحق. وفي مثل هذا قال تعالى: (الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا)، وفي الحديث: من أعطى الذلة من نفسه طائعا غير مكره فليس منا.
لا تخضعن لمخلوق على طمع.. فإن ذلك نقص منك في الدينِ
واسترزق الله مما في خزائنه.. فأمر ربك بين الكاف والنونِ
ثالثا: احفظ كرامتك بالامتناع، فإن فرض صيام رمضان تربية للمسلم على الامتناع، بحيث يقول لشهواته: لا، فيكون له رأي مستقل نابع من فكر عميق لا يتماشى مع الواقع الخطأ أو الرأي الباطل. واليوم ترى بعض الناس يوافق الآخرين في كل شيء لجاهه أو ماله أو سلطانه، فتراه كما يقول الناس: “مع الحيط الواقف”.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: لا يكُنْ أحَدُكمْ إمَّعَة، يقول: أنا مع الناس، إن أحْسنَ الناسُ أحسنتُ، وإن أساؤوا أسأتُ، ولكن وَطِّنُوا أنفسكم إن أحسنَ الناسُ أن تُحْسِنُوا، وإن أساؤوا أن لا تَظلِمُوا. هذا الرجل تجده إذا دخل مجلسا فوجد الناس تغتاب أحدا اغتابه معهم، وإذا مدحوا أحدا مدحه معهم، ليس لأنهم على حق بل مداهنة ونفاقا، قال رسول الله: إن شر الناس ذو الوجهين، الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء بوجه.
يقول زياد بن عبد الملك: يعجبني من الرجل إذا سيم خطة ضيم ان يقول بملء فيه لا. أي أنه إذا أراد أحد أن يقهره أو يهينه أو يذله أو يحتقره أو يجعل منه أضحوكة تحدى كل ذلك ورفضه وقال لا.
رابعا: احفظ كرامتك في الديون، فقد ذمّ الإسلام استدانة المال لكماليات الحياة. يقول النبي: من سأل الناس أموالهم تكثرا فإنما يسأل جمرا. فإن النبي ضمن الجنة لمن حفظ ماء وجهه عن الطلب “من يتكفل لي أن لا يسأل شيئا وأتكفل له بالجنة؟ فقال ثوبان: أنا، فكان لا يسأل أحدا شيئا”. هذا المبدأ نزل بشأنه جبريل على رسول الله فقال له: يا محمد عش ما شئت، فإنك ميت، وأحبب من أحببت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت، فإنك مجزي به، ثم قال يا محمد: شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس. هذا فيمن يستبيح أموال الناس لغير حاجة، فكيف بمن يستدين من أماكن مشبوهة؟!