النقب المعركة الأخيرة.. لماذا؟ (1)
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
مدخل…
يعيش أهل النقب اليوم أكبر التحديات التي واجهتهم منذ أكثر من نصف قرن، ليس بسبب المصادرات المزمع تنفيذها فحسب، بل وبسبب المُخططات الرسمية التي تعمل على تعليبهم فيما يسمى تجمعات مدنية تفيد التجربة مع من سبقها من تلكم التجمعات المعترف بها افتقارها للحد الأدنى من المفهوم المدني المتعلق بالعمران بكل معانيه السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمجتمعية والثقافية والتربوية وما يتعلق بتأسيس مديني للبنى التحتية المؤسسة لما ذكرت.
ثمّة محاولة صهيويهودية وتشارك فيها أياد عربية لخلع أهالي النقب عن تُراثهم وعاداتهم وتقاليدهم عبر عمليات تجميل ظاهرها للوهلة الأولى فيه الرحمة، ولكن من قبلها العذاب.
في النقب تجري عملية شد الحبال والعض على النواجذ بين طرفين، طرف يملك من أسباب القوة والمنعة والغلبة ما لا تملكه دول، وطرف لا يملك سوى الإرادة والحق التاريخي على هذه الأرض فضلا عن حقوق ذات صلة بالملكيات تعود إلى العهود السالفة.
المؤسسة الإسرائيلية من خلال النقب تود إرسال رسالة إلى أكثر من جهة في الداخل الفلسطيني، ولعل الدروس المستفادة إسرائيليا من هبّة الكرامة تمّ تطبيق معالمها ابتداء في النقب وهذا بحد ذاته يتطلب منّا متابعة لتلكم التطبيقات من باب معرفة كيفية تفكير العقل الإسرائيلي حين وقوع الأزمات، وكيف يتصرف بعدها وبعد استخلاصه الدروس والعبر.
منذ أن نشأت الحركة الصهيونية وحسمت أمرها اتجاه الاستيطان في فلسطين التي قسمتها بريطانيا لصالح تنفيذ مشروع إقامة دولة للحركة الصهيونية وجعلها شوكة تحول دون وحدة عربية لـ “ما بعد الإسلامية”، وهي تعمل على سرقة الأرض الفلسطينية تحت مختلف المسميات والتعريفات والأجندات، ولم تكن النقب يوما من الأيام بمعزل عن هذا التفكير. في أثناء مفاوضات عام 1947 حول مستقبل هذه البلاد، بقيت قضية النقب خارج سياقات السيطرة الصهيونية، وهو ما سعت الحركة الصهيونية لتداركه وبعد اتصالات مكثفة أقامها المبعوث الاممي فولك برنادوت مع الجانبين العربي والصهيوني توصل إلى مجموعة من المقترحات حول مستقبل الوضع في فلسطين، وقد قدمها في 27/6/1948 الى الأمم المتحدة كمقترح تبنته لاحقا الأمم المتحدة كوثيقة رسمية من وثائقها عرف باسم مشروع برنادوت، وبسبب موقفه هذا قتلته الحركة الصهيونية، وقد نصّ فيها على ما يلي:
- يجب أن يعود السلام العام الشامل إلى ربوع الأراضي المقدسة حتى يمكن إيجاد جو من الهدوء تعود فيه العلاقات الطيبة بين العرب واليهود إلى الوجود. وينبغي على الأمم المتحدة أن تتخذ كل ما من شأنه إيقاف الأعمال العدوانية في فلسطين.
- يجب أن يعترف العالم العربي أنه قد أصبح في فلسطين دولة يهودية ذات سيادة تدعى (دولة إسرائيل) وهي تمارس سلطاتها كاملة في جميع الأراضي التي تحتلها.
- يجب قيام هذه الدولة الإسرائيلية ضمن الحدود التي نصّ عليها قرار التقسيم مع التعديلات التالية:
أ. تُضم منطقة النقب بما فيها مدينتا المجدل والفالوجة إلى الأراضي العربية.
ب. يمتد خط من الفالوجة إلى الشمال ثمّ إلى الشمال الشرقي من اللد والرملة اللتين ينبغي أن تخرجا من أراضي الدولة اليهودية.
ج. تضم منطقة الجليل برمتها إلى الدولة اليهودية.
نظرت قيادة الحركة الصهيونية إلى النقب على أنّه مستقبلها نظرًا للمساحات الواسعة التي يتمتع بها، فبالنسبة لتلكم القيادة رأت أنّ قيام “البيت القومي” لليهود مرتبط بصورة كبيرة بمدى سيطرتها على النقب، وذلك برسم امتداداته الجغرافية الممتدة من شارع المجدل (عسقلان)- الفالوجة (كريات جات) وحتى أم الرشراش (إيلات) وهو ما يشكّل أكثر من 60% من الأراضي التي قامت عليها إسرائيل.
في تلكم السنوات وفقا للإحصائيات والوثائق البريطانية، لم يسكن في النقب سوى عدد قليل جدا من اليهود لم يتجاوز الـ 500 نفر (يرى الباحث الإسرائيلي آهاد لاسالافي في دراسته الغطاء البشري كأساس لاستخدام القوة: الغطاء البشري، التعامل في النقب مع البدو خلال حرب الاستقلال، أنَّ عدد اليهود لم يتجاوز الـ 1000 شخص فيما كان عدد السكان البدو تراوح بين 50-60 ألف نسمة/ انظر: מרכז דדו לחשיבה צבאית בינתחומית בין הקְטָבִים, גיליון מס’ 1 סְפר עיון בהתהוות האתגר בגבולות)، فيما أشار الدكتور إبراهيم أبو جابر في كتابه مشروع قانون “بيغن- برافر”: المشروع الإسرائيلي لتهويد النقب الصادر عن مركز الدراسات المعاصرة عام 2013 إلى أنّ عدد ساكنة النقب قبيل النكبة كان 95 الف نسمة هُجرّ 88% منهم إلى القطاع والضفة والأردن وبقي 11000 نسمة وصل عددهم في تلكم السنة- أي سنة إصدار الكتاب- إلى 200 ألف نسمة.
لقد بذلت القيادة الصهيونية بقيادة بن غوريون الذي رأى أن لا مستقبل لإسرائيل بدون النقب جهودا هائلة لإقناع اللجان الدولية للعدول عن رأيها بضمّ النّقب إلى الدولة العربية، علما أنّ إسرائيل حصلت على الجليل كاملًا مقابل النقب وفقا لمقترح برنادوت الاممي، وقد سعت هذه القيادة بتحضير جولات للمبعوثين الأمميين إلى أماكن تواجد اليهود سواء في المستوطنات الزراعية أو الثكنات العسكرية الحدودية المنتشرة والتي كانت تأوي أعدادا متواضعة قد تصل في أقصاها إلى ثلاثين شخص.
لم تتعاط الحركة الصهيونية ولا إسرائيل من بعدها وحتى بعد احتلالها للنقب مع تلكم المنطقة على أنها حيز مدني، بل تعاطت معها على أنّها قضية أمنية بامتياز واستراتيجية في غاية الأهمية تحفظ بيضة الكيان الناشئ، ويبدو أنّ هذه السياسة هي التي ما زالت تحسم مسائل العلاقة مع هذه المنطقة حتى بعد احتلال إسرائيل لها وضمّها رسميا ومصادرة ملايين الدونمات. فلا محاولة بن غوريون في دفع اليهود من وسط البلاد للسكن في النقب رغم دفنه فيها، ولا منح عشرات الالاف من الدونمات لمن يعملون على الاستيطان فيها ضمن مشروعات ما يُعرَف بالاستيطان الفردي نفعت المؤسسات ذات الصلة، ولا يبدو أنّ اليهود مقتنعين بالهجرة من وسط البلاد إلى جنوبها رغم كثرة المحفزات والتشجيعات، ولكن هوس الخلاص المسياني الديني-العلماني الذي استحوذ على الصهاينة الأوائل سواء كانوا علمانيين أو متدينين ما زال يحكم العقلية الإسرائيلية.
لقد انتفض النقب وحارب كالكل الفلسطيني وأوجع في مواجهاته العصابات الصهيونية كالبلماخ الفيلق الأكثر عسكرة وقوة في الكيان العسكري والذي تحول من بعد إلى جيش الدفاع الإسرائيلي، لذلك تشير هذه الأدبيات إلى الدور الطليعي الذي قام به جهاز الشاي الذراع المخابراتية للبلماخ في قراءاته وتنبؤاته للواقع البدوي في النقب سواء في تواصلها مع العشائر واختراقها معسكراتهم المؤيدة للملك عبد الله أو المؤيدة للحاج امين الحسيني أو عبر العلاقات الفردية التي تمّ مراكمتها وهذه العلاقات لعبت دورا أساس في تهدئة الأوضاع في عام 1948 مع الجيوش العربية وهو ما يؤكد البُعد الأمني في جدل العلاقة مع النقب بشرا وأرضًا.