برتقال يافا “الحزين” ثروة مسروقة
برتقال يافا، ليس مجرد فاكهة، أو نوع من أشجار الحمضيات المثمرة، بل هو رمز وطني فلسطيني، فقد زرعه العرب والفلسطينيون على شواطئ فلسطين منذ مئات السنين، وكان المنتج المفضل لدى الأوروبيين والأمريكيين لما يتصف به من صفات نادرة لا توجد في ثمار البرتقال الأخرى.
وفي إطار سرقة التراث والتاريخ والحضارة، فإن أكثر ما تروج له المؤسسة الإسرائيلية في زراعته عالميا هو برتقال يافا، منتزعة هذا الاسم من سياقه التاريخي الذي تناقض كل حبة فيه الرواية الصهيونية الزائفة.
برتقال يافا اشتهر بهذا الاسم منذ القدم نسبة إلى مدينة يافا الفلسطينية، ورغم أنه يزرع في سوريا والعراق ولبنان والأردن وفلسطين وتركيا وقبرص وغيرها، فإن برتقال يافا يتميز عن جميع أنواع البرتقال بصفات عدة، فقشرته السميكة يمكن أن تحفظ الثمرة جيدا مدة طويلة من الزمن، كما أنه كثير العصارة، وعصارته زاهية بلونها البرتقالي المميز، وبطعمها الحلو السكري.
وكان برتقال يافا يشحن في صناديق خشبية وينقل بالسفن كهدية مبهجة من يافا لجميع أنحاء العالم. ومع مرور الوقت أصبح الاسم علامة تجارية، وبهذا الاسم تعرف العالم على هذا البرتقال، حتى استغلته المؤسسة الإسرائيلية لغرض الدعاية ووضعته على لوحات الدعاية السياحية لها وكأنه منتج إسرائيلي بحت.
وتقول عدة تقارير إن العرب هم الذين أدخلوا زراعة البرتقال إلى فلسطين. وقد نشأت البيارات المنظمة التي كانت ترويها النواعير في يافا في النصف الأول من القرن الثامن عشر وعني بزراعته الأثرياء.
وذكر المؤرخ القساطلي أن عدد بساتين البرتقال بيافا في عام 1884 وصل إلى 500 بستان، تضم ما يقارب الـ 800 ألف شجرة برتقال.
ويتوقف الثري البريطاني اليهودي موشيه مونتيفيوري في مذكراته عند يافا في أول زيارة له لفلسطين ويصف زيارته بقوله: “شوارع يافا مستقيمة ومعبدة وتنمو في بساتينها أشجار التين والرمان والبرتقال الجميل وهو شيء لم نره من قبل. تعمل وسائل الري في البيارات بصورة محكمة وبذكاء، فالشجر مزروع بخطوط مستقيمة ويجمع الماء في بركة ومنه يصب في قنوات بنيت من الحجر وزرع الصبر (التين الشوكي) كسياج حول كل بيارة”.
وفي عام 1886 أرسل القنصل الأمريكي في القدس هنري غيلمان، تقريرا إلى مساعد وزير الخارجية الأمريكي المستر بورتر، أشاد فيه بالجودة العالية لبرتقال يافا، وبطرائق التطعيم المبدعة التي كان يستخدمها المزارع الفلسطيني. واقترح في تقريره، أن يقتبس المزارعون الأمريكيون في فلوريدا أساليب زراعة البرتقال الفلسطينية.
وقد تسببت الحرب العالمية الثانية في تراجع هذه الزراعة، فنتيجة إتلاف كثير من البساتين أصبحت المساحة المزروعة في عام 1945 حوالي 244 ألف دونم يملك العرب منها 126 ألف دونم. وتدنى معدل إنتاج الدونم من مائة صندوق قبل الحرب إلى 35 صندوقا.
ومع زيادة أعداد المهاجرين اليهود، واندلاع حرب عام 1948، فقد سقطت مدينة يافا في أيدي العصابات الصهيونية، وتراجع الإنتاج وكذلك الأراضي المزروعة بالحمضيات بسبب ظروف الحرب وبسبب قلة الأسمدة وغلاء الزيوت اللازمة لتشغيل محركات البيارات. ولاحقا استولت التعاونيات اليهودية على مزارع البرتقال وصارت تدار من قبلها، وأصبح برتقال يافا رمزا للمؤسسة الإسرائيلية.
وبلغت صادرات يافا من البرتقال قبيل عام 1890 نحو 300 ألف صندوق كانت ترسل إلى ليفربول ولندن والأستانة ومصر. وارتفعت الصادرات عام 1900 إلى 650 ألف صندوق. ثم إلى مليون و500 ألف صندوق.
وبلغت المساحة المزروعة برتقالا حتى آخر عام 1937 نحو 300 ألف دونم يملك العرب أكثر من النصف بقليل. وتقدر الأشجار المغروسة فيها بنحو 18 مليون شجرة وكان من المنتظر أن يصل الصادر من البرتقال لو لم تقع الحرب العالمية الثانية إلى 25 مليون صندوق حتى أواخر 1946. وتتراوح مساحة كل بيارة بين 120 و200 دونم. وهناك بيارات قليلة العدد تبلغ مساحة الواحدة منها 500 دونم، والبيارات العربية منتشرة في ضواحي يافا وفي معظم القرى المجاورة، وفي وادي حنين والرملة واللد وغزة والمجدل وبعض قرى طولكرم.
وكانت توجد حتى ما قبل الحرب في فلسطين أربع شركات كبرى تنقل البرتقال إلى موانئ المملكة المتحدة وهي: جمعية مصدري الثمار الحمضية العربية التعاونية، واللتيرس، وبردس، وجافا أورنج سندكيت.. هذا عدا شركات: ورتش ليفانت لاين، وسفنسكا أورينت لاين، وزغلوغا بولسكا.
وقد خصص المخرج الإسرائيلي إيال سيفان، فيلما وثائقيا بعنوان “يافا- ميكانيكية البرتقال” عن برتقال يافا، وفي فيلمه الوثائقي سعى إلى تقديم تصور مضاد لكتابة التاريخ الرسمي للمؤسسة الإسرائيلية.
ولم يتتبع سيفان في فيلمه الوثائقي أسباب بزوغ أسطورة برتقال يافا فقط، لكنه أظهر نهايتها أيضا، إذ اقتلع الجيش الإسرائيلي في مطلع هذه الألفية بقطاع غزة آخر أشجار البرتقال في المنطقة، وأعرب سيفان عن حزنه “أن تدمير بساتين البرتقال في غزة يعني نهاية زراعة البرتقال في فلسطين”. و “في البساتين القليلة الباقية يزرع الجريب فروت واليوسفي بدلا من البرتقال، ولم يعد يزرع البرتقال في الأراضي الموجودة بين البحر المتوسط ونهر الأردن”.
وفي غزة تزرع الفراولة الآن بدلا منه. ويقول المخرج سيفان: “وهذه الصورة قوية من الناحية الرمزية لأنها تشير إلى نهاية القصة برمتها. إسرائيل تحاول مسح الذاكرة باقتلاعها لأشجار البرتقال، وأنا أحاول أن أعيد هذه الذكريات”.
واليوم، تزرع المؤسسة الإسرائيلية البرتقال في 182 ألف بستان في جميع أنحاء البلاد. وتصدر الدولة العبرية حوالي 580 ألف طن من الحمضيات إلى خارج البلاد، الأمر الذي يدخل إلى ميزانيتها مئات الملايين من الدولارات.
ويعتبر البرتقال اليافاوي اليوم، في الأسواق الغربية، أكثر المنتجات الزراعية تمثيلا للإنتاج الزراعي الإسرائيلي حيث تستغل السلطات الإسرائيلية الشهرة التاريخية لبرتقال يافا اليوم. فعلى كل حبة برتقال تصدر إلى العالم يوجد ملصق صغير كتب عليه “Jaffa” منتزعة هذا الاسم من سياقه التاريخي، ومستمرة في نهج سرقة الثقافة وأريج بيارات برتقال يافا الحزين.
في المجموعة القصصية الثانية التي أصدرها الشهيد غسان كنفاني “أرض البرتقال الحزين” ونشرت عام 1962، يروي حكاية فلاح كان يزرع البرتقال قبل أن يطرده الاحتلال الصهيوني خارج فلسطين. يقول الفلاح إن البرتقال “يذبل إذا ما تغيرت اليد التي تتعهده بالماء”. كأنه يذبل حقا.