تسريبات.. أم رسائل بعلم الوصول؟
وائل قنديل
اسأل نفسك: هل عبد الفتاح السيسي مهتم بالرأي العام في الداخل؟
للإجابة، عليك أن ترجع إلى محطات مهمة، في مقدمتها حكاية جزيرتي تيران وصنافير، وكيف كان الشارع المصري، بنخبه وجماهيره، يفور بالغضب من فكرة التنازل عن قطعةٍ من جغرافيا مصر، إذ اندلعت تظاهرات، وتطايرت بيانات، واحتشدت شخصياتٌ وأحزابٌ ونقابات، وانهالت أحكام قضائية، ترفض البيع وتجرّمه وتؤثمه، حتى بدا أن مصر كلها مجروحةٌ مما جرى.
ماذا فعل السيسي سوى أنه دهس ذلك كله بحذائه، ثم ضرب به عرض الحائط، وواصل صفقته إلى منتهاها؟
هو منشغل طوال الوقت بتجديد رخصة القيادة، من المصادر المعتمدة، وهي إقليمية، ممثلة في المثلث السعودي الإماراتي الإسرائيلي، ودولية، ممثلة في دونالد ترامب والأوروبيين الذين يرون فيه طاغيةً مفيداً وشراً لابد منه، ومن ثم لا يعنيه أبداً شعور وطني، أو كرامة قومية، أو مرتكزات تاريخية، أو ثوابت جغرافية. وقبل ذلك يلح، طوال الوقت، على إظهار أنه نجح في فرم الداخل، بما لا يجعل له قدرة حقيقية، منظورة، على المقاومة وإحداث التغيير.
يحرص السيسي، طوال الوقت، على تسريب كل ما يثبت به ولاءه للخارج الداعم الممول، وما يخيف به الداخل الساخط المتململ، من خلال بعض الرسائل الكبيرة والصغيرة.
يتزامن تسريب صحيفة نيويورك تايمز الخاص بمجهودات نظام السيسي للدفاع عن قرار ترامب بنقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة مع أعنف عاصفةٍ يواجهها مخبول البيت الأبيض، والتي يفجرها كتاب “نار وغضب” فيأتي من القاهرة ما يؤكّد أن حماقة السيد الرئيس أثبتت نجاعتها في التحكّم في مفاصل القرار في أكبر عاصمةٍ عربيةٍ معنيةٍ بالقضية الفلسطينية، بحكم التجربة التاريخية والواقع الجغرافي، لتصبح فحوى تسريبات السيسي: لبيك يا ترامب، نحن معك، كما تعهدت لك، وأنا واقف بين موظفي دائرتك الصغيرة في البيت الأبيض، وأنت جالسٌ ترسم خطوط المستقبل، وتوزّع المهام. لحظتها قلت لك “لن تجدني إلا معك” في حربك على الإرهاب الذي هو كل أشكال مقاومة التصور الأميركي الإسرائيلي للمنطقة والعالم.
لو كان السيسي مؤرّقاً بصورته المخجلة، بوصفه المفضل لدى الكيان الصهيوني، لانبرى إعلامه يتصدّى لشلال شهادات العمالة الدامغة الذي يتدفق من أفواه الصهاينة. حاخامات يقيمون الصلوات من أجله، ويدعون له بطول البقاء، خدمة للاحتلال الإسرائيلي، وجنرالات يدينون بالفضله له في جعل أوضاعهم الأمنية أفضل وأكثر استقراراً، وسياسيون يعتبرونه رجلهم الخدوم المعطاء في القاهرة.
هيئة استعلامات السيسي التي انبرت ترد على مراسل “نيويورك تايمز”، والتي لا أملك التشكيك في صدقيتها، أو نفيها، ترقد طوال الوقت مثل دجاجة بيّاضة، عندما يتعلق الأمر بما هو أفظع وأشنع من المنشور في الصحافة الصهيونية عن ولائه الكامل للسياسة الإسرائيلية، ناهيك عن أن فزعتها بمواجهة التسريب الجديد إنما تأتي من باب إعطاء مزيدٍ من الإثارة والسخونة على القصة، بحيث تكون الرسالة واضحة إلى ترامب: انظر كيف أدفع أثماناً باهظة، نتيجة ولائي وإخلاصي لك؟
بالتوازي مع ذلك، لا بأس من تمرير تسريباتٍ داخلية صغيرة، من نوعية أن الجيش ليس راضياً عن مسلك السيسي، خارجياً وداخلياً، وهي تسريبات أشبه بدهانات التدليك المهدئة، مثل حواديت صراع الأجهزة وصدام المؤسسات، والانتخابات هي الحل الوحيد لإزاحة الجنرال بجنرال آخر، وأحمد شفيق يهز عرش السيسي (بالمناسبة كل وهم والباعة الجائلون المنتشرون على أطراف مولد شفيق بخير).
جديد 2018 مسرّباً عن”العسكري المجهول” أن السيسي بعيد عن الجيش، والجيش غاضب على السيسي، لكن ما باليد حيلة، فقد أنشأ مليشيا عسكرية ضخمة، أقوى من الجيش، تحيط به وتؤمن سلطته، وأغرق الجيش في أمواج البيزنس وجحيم “داعش”، وأبعده عن مناطق التأثير.
ما الذي يمكن أن تقرأه في ثنايا هذه الرسالة اللطيفة؟
باختصار، يريد أن يقول لك إنه لا أحد يقدر على السيسي، حتى الجيش نفسه لا يستطيع إزاحته. وإذا وضعت في الاعتبار توقيت مثل هذه الإشارات، استباقاً لمناسبة مرور سبعة أعوام على ثورة 25 يناير، ستكون الخلاصة: لا الجيش ولا الشعب يستطيعان زحزحة السيسي (القوي) عن سلطته، فلا تفكّروا في تظاهراتٍ أو غيرها، ولا تحاولوا في شيءٍ، لأنكم منهزمون لا مفر!
ويبقى الاستسلام لتعاطي هذا النوع من”الصنف” السياسي وسيلةً، تتكرّر في مثل هذا التوقيت كل عام، لإحراق ما تبقى لديك من أمل ويقين في القدرة على الحراك، وسحق أي محاولةٍ للتفكير في التغيير، من خلال إظهار “تنظيم السيسي” قوةً باطشة لا قِبَلَ لأحد بها، تماماً مثلما نجحوا في زراعة أسطورة “إسرائيل التي لا تقهر” في المنطقة.
يجدر بك هنا أن تقول لمن يعرض عليك بضاعةً معلوماتيةً ضخمةً مغلفةً بعبارة “مصدر مهم لا أستطيع الكشف عن اسمه أو موقعه”: اسرح ببضاعتك بعيدا عني، حتى تعرف مصدرها.
لا تأخذ سلعةً أو بضاعةً مجهولة المصدر، ولو كانت مجانية، وتذكر أنك، في مثل هذه الأيام منذ سبع سنوات مرت، استطعت الانتصار على أسطورة نظام مبارك الذي لا يقهر.