تدخل من بوابة مكافحة الجريمة: عندما تصبح الخيانة وجهة نظر …
توفيق محمد
قررت اللجنة الحكومية المرؤوسة من قبل رئيس الوزراء ذاته نفتالي بينيت يوم الأحد الأخير، توظيف خدمات “الشاباك” في مكافحة العنف والجريمة والسلاح الذي بات الهم الأكبر في مجتمعنا العربي، ولاقى هذا القرار ردود فعل غاضبة جدا من مختلف الطيف السياسي والمجتمعي العربي، ليس لأن الأمر غريبا وإن كان مستغربا ومستنكرا، ولا لأنه جديد ومستحدث فـ”الشاباك” موجود في كل تفاصيل حياة أهلنا، بل هو من يوجه السياسات المتعلقة بنا، وهو من أرسل مئات الرسائل النصية خلال هبة الكرامة للمئات من الذين صلوا في المسجد الأقصى يوم الثامن والعشرين من رمضان الماضي، يقول فيها: “لقد تم تشخيصك كمن شارك في أعمال عنف في المسجد الأقصى سوف نقوم بمحاسبتك على ذلك. المخابرات الإسرائيلية”. وهو من قال عنه أحد كبار ضباط الشرطة لمّا سئل عن مكافحة الجريمة بأن أيدي الشرطة مكبلة لأن الكثير من رؤساء عصابات الإجرام في الوسط العربي محميون من قبل “الشباك”.
نحن كمجتمع عربي في هذه البلاد، ندرك تماما وجود الشاباك في كل تفاصيل حياتنا، ونعي جيدا أنه يوجّه السياسات الحكومية والمؤسساتية تجاهنا، بل ندرك أنه في سنوات مضت من حياتنا كان يتدخل حتى في مسألة قبول عمال عرب في مصانع، نعم مصانع، كثيرة في طول البلاد وعرضها، وكان يشترط عليهم إما “تصرفا لبقا” وإما سكوتا مريبا عن الهم الوطني والفعل الوطني لقاء قبولهم في العمل، وتوفير المعاش الشهري (الميزانية) لهم، ناهيك عن القبضة الأمنية الفولاذية التي تحوِّل كل فعل لا يرغب به هذا الجهاز إلى مخالفة أمنية حتى وإن لم يكن لها صلة بذلك بتاتا، ناهيك عن الملاحقات السياسية التي بموجبها يقبع الشيخ رائد صلاح في السجن، والتي بموجبها يحاكم الشيخ كمال خطيب والقيادي في أبناء البلد محمد كناعنة، والتي بموجبها حوكم قياديون آخرون من أبناء شعبنا في فترات سابقة وقضى العشرات من أبناء شعبنا في الداخل أحكاما إدارية وبعضهم ما يزال يقضي مثل هذه الأحكام.
نحن ندرك أن “الشاباك” موجود في كل هذه التفاصيل، ونعتبره جسما معاديا لنا، ولكن ربما يكون القادم أسوأ من الماضي في هذه المسألة، ليس على مستوى القبضة الأمنية لأنها لم تغب عن تفاصيل حياتنا بتاتا، وإنما على مستوى مسعى التذويب والأسرلة التي باتت ليس محل إزعاج لدى قطاع من أبناء شعبنا لا يهمه سوى راتب وسيارة ورحلة سنوية خارج البلاد وشطيرة “هامبورجر” أو بيتسا “هات”.
المسألة يجري التخطيط لها بإحكام وسلاسة وبطء تجعل من المحرمات مباحات فمندوبات ففرائض، ثم تنتهك كل الحرمات.
منذ العام 1980 وحتى العام 2000 سقط في مجتمعنا الفلسطيني في الداخل 81 ضحية نتيجة جرائم القتل أي 81 ضحية خلال عشرين عاما بمعدل 4 ضحايا في العام، ومنذ العام 2000 وحتى الآن سقط 1480 ضحية بمعدل 74 ضحية في العام، وما يزال أمامنا قرابة ثلاثة أشهر لإقفال السنة.
في النظر إلى المُعطى الإحصائي أعلاه يتبين أن هناك شيئا أُنزل على مجتمعنا وليس أن هناك تغييرا حصل في مجتمعنا، فشعبنا الفلسطيني في الأراضي المحتلة الذي لديه سلطة على علاتها لا يعاني من الجريمة بهذه الصورة، وشعوبنا العربية القريبة والبعيدة أيضا لا تعاني من نفس المشكلة (هذا الكلام لأصحاب التقدير الذاتي المنخفض) لأن لديها دولة وسلطة تفرض هيبة القانون على المخالفين، فتردعهم وتمنعهم، ولا شك أن الثقافة والدين والعادات والتقاليد هي ذات الثقافة ونفس الدين وذات العادات والتقاليد لدى الجميع (هذا الكلام لمن يروجون كذبة أن ثقافتنا تصدر الإجرام)، والفارق الوحيد أن شعوبنا العربية لديها دول، صحيح تقمعها سياسيا، ولكنها تحميها مجتمعيا، ونحن نعيش في دولة تتواطأ أجهزتها مع عصابات الإجرام.
يبدو أن قرارا لم يُعلن، ولم يُكتب، ولم يُنشر لكننا نعيشه في واقعنا اليومي من خلال دماء أبناء شعبنا المراقة، وهو ليس التغاضي عن الجريمة وأربابها، إنما التواطؤ والتعاون معها بهدف تفكيك النسيج المجتمعي الفلسطيني عقابا لنا على موقفنا المدافع عن المسجد الأقصى والقدس خلال هبة القدس والأقصى في العام 2000.
كان من توصيات لجنة “لبيد” والد وزير الخارجية الإسرائيلي “يئير لبيد” التي عينت لتطبيق توصيات لجنة “اور” وهي اللجنة التي عينتها حكومة باراك في العام 2000 للبحث في أحداث هبة القدس والأقصى، كان من توصيات لجنة “لبيد”: “محاولة دمج الشبان العرب في الخدمة المدنية رغم معارضة قادتهم” أما لجنة “اور” فقد جاء في توصياتها: “يجب نشر الشرطة الجماهيرية في الوسط العربي”، وفي الواقع فإن هذه الشرطة التي ما تزال تقمع كل مظهر احتجاجي عربي، وما تزال تتعامل بعدوانية مع أهلنا فإنها قد نجحت بالتغلغل في أوساط المجتمع وأقيمت الشرطة الجماهيرية في كل المدن والقرى العربية، بل أصبحت جزءا من العمل البلدي ولها اقسام خاصة في بنايات السلطات المحلية، أو بنايات تستأجرها السلطات المحلية، وأصبحت صناديق المرضى مليئة بموظفات الاستقبال اللاتي يعملن ضمن مشروع الخدمة المدنية، ونتيجة انتشار العنف والقتل أصبح الجميع ينادي الشرطة ويطالبها بقمع العنف والجريمة، وأصبحت الشرطة جزءا من الحيز العام في مجتمعنا، هكذا سيق مجتمعنا للمطالبة بتدخل الشرطة في تفاصيل التفاصيل، أما ما يجري الآن فهو العمل على سوق الناس للمطالبة بتدخل الشاباك بعد أن أعلنت الشرطة إفلاسها في مكافحة العنف والجريمة، والذي سيكون من مخاطره العمل على تجنيد الشبان العرب لهذا الجهاز بحجة مكافحة الجريمة والعنف، وهو شرعنة الخيانة بلبوس مكافحة العنف والجريمة .
الجميع يعلم أن لدى الشرطة من الإمكانيات والوسائل ما يكفيها للجم العنف والجريمة والقضاء عليها لو كان لديها القرار السياسي الصادق بذلك، فهي مَن قضت على الجريمة وعصابات الإجرام في “نتانيا” و”كريات شمونة” وغيرها من المدن اليهودية ولم تطاب الاستعانة بالشاباك، كان يكفيها اتخاذ القرار لفعل ذلك وقد فعلت، فلماذا لدى مجتمعنا هي بحاجة للشاباك الذي، وكما قال، أحد كبار رجال الشرطة حامٍ ومدافع عن رؤساء الجريمة وعصابات الإجرام، فكيف يستقيم هذا مع ذاك.
لكن ما يحاك لمجتمعنا أخطر بكثير مما هو موجود، إنه الإسقاط في وحل الجريمة، ثم المطالبة بلجمها من أيٍّ كان حتى وإن كان الشاباك، ولن يفعل إلا من بعض إنجازات لتبييض وجه البعض، ثم الإسقاط في وحل الجاسوسية حتى تصبح العمالة والجاسوسية وجهة نظر.
كل المجتمعات البشرية تعاني من العنف، وكلها تقاومه مجتمعيا كما يفعل مجتمعنا وفي كل المجتمعات تقاومه الدول، لكننا ليس لدينا دولة تقاومه إنما هناك دولة تتواطأ أجهزتها معه.