“من الممكن تأسيس عالم أعدل”: كل ما تود معرفته عن كتاب أردوغان الجديد
لطالما اعتاد الرؤوساء والساسة وصنّاع القرار ومن رافقوهم من النخب تدوين مذكراتهم وأفكارهم ورؤاهم عن العالم، والسياقات التي عايشوها في مؤلفات منشورة بشكل رسمي، حفاظًا على حقهم في رواية التاريخ والأحداث من زاويتهم.
وفي تركيا، قد انتشر خلال العقد الأخير على نحو ملحوظ كتاب سياسي تاريخي لوزير الخارجية الأسبق أحمد داوود أوغلو، الذي وثّقَ خلاله جانبًا مهمًّا من بواكير صعود حزب العدالة والتنمية، ومحددات الجغرافيا السياسية والثقافية في تعاملات أنقرة مع جيرانها.
ومن الملاحَظ أن تلك الكتب التي خطّها مسؤولون رفيعو المستوى، ووضعوها بين أيادي القرّاء، كانت تتّسمُ بالطابع التأريخي التوثيقي، أكثر من أي غرض آخر، وهو ما يفسِّر الاهتمام بنشرها بعد مغادرة المسؤول للمنصب الذي كان يتولّاه بشكل رسمي.
إلا أن الكتاب الذي نتناوله في هذا السياق، وإن اشترك مع تلك الكتابات في كونه مادةً رسمية، خطّها مسؤول سياسي رفيع في بلاده وفي المنطقة؛ إلا أنه يختلف عنها في أنَّ ذلك المسؤول قد كتبه بينما لا يزال في الحكم، متناولًا رؤية نقدية واستشرافية أكثر من كونها تاريخية، والحديث هنا عن الكتاب الجديد للرئيس التركي رجب طيب أردوغان: “من الممكن تأسيس عالم أعدل”.
المعلومات الأساسية عن الكتاب
عطفًا على المقدمة السابقة، فمن زاوية معيّنة كُتب عن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الكثير من المؤلفات، ويمكن استخدام محرِّك البحث للوصول إلى عدد كبير من الكتب التركية والعربية والإنجليزية، التي تناقش أفكاره وتحولاته وتجربته السياسية مع بلاده عبر حزب العدالة والتنمية.
إلا أنَّ هذا الكتاب، والذي حمل عنوان “Daha Adil Bir Dünya Mümkün” باللغة التركية، مصدَّرًا بصورة رسمية للرئيس التركي تُظهر النصف الأعلى من جسده مرتديًا القميص الأبيض، هو أول كتاب يقوم أردوغان بكتابته عن إحدى زوايا النظر إلى تجربته السياسية.
وقد طُبعت الطبعة الأولى من الكتاب مطلع شهر سبتمبر/ أيلول الحالي، يوم 6 سبتمبر/ أيلول تحديدًا، في مطابع “تركواز كتاب” التركية، فيما يعادل 153 صفحة، تتناول رؤية أردوغان الشخصية لإصلاح النظام العالمي.
طُرح الكتاب رسميًّا بسعر 40 ليرة تركية، وبسعر مخفّض (32 ليرة) عند شرائه عبر إحدى المكتبات الإلكترونية، وبغضّ النظر عن حجم المبيعات التي سيحقِّقها، كبيرًا كان أم صغيرًا، فقد قرر الرئيس التركي وفريقه الرئاسي، بعد تسويق الكتاب جيّدًا وترجمته إلى اللغات الأساسية في العالم، أن تذهب عوائده إلى إدارة الطوارئ والكوارث (آفاد).
الزخم الأول
اكتسب الكتاب زخمًا كبيرًا في المرحلة الأولى من الإعلان عنه، وذلك بفضل التوقيت الذي قرّرَ الفريق الرئاسي لأردوغان نشر الكتاب خلاله، والطريقة التي عملوا بها على تسويقه عالميًّا في الحملة التسويقية الأولى للكتاب.
فبينما كان الرئيس التركي رجب أردوغان يحلق في المجال الجوي الدولي في الطريق من أنقرة إلى نيويورك لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة لهذا العام، كانت سيارات عملاقة وشاشات عرض تابعة للدبلوماسية التركية تجوب ميدان التايمز الشهير وشوارع نيويورك حاملةً أغلفة الكتاب الجديد.
وبينما كان الرئيس التركي يجذب أنظار وسائل الإعلام العالمية كالعادة خلال كلمته التي يلقيها في اجتماعات الجمعية، كان هو وفريقه الرئاسي، في الوقت نفسه، يقومون بتوزيع نسخ مجانية من الكتاب كهدايا تذكارية على الرؤوساء والبعثات الدبلوماسية في الأمم المتحدة من النصّ الذي يستفيض في شرح وجهة نظر الرئيس التركي عن إعادة هيكلة المنظمة العالمية.
يمكن القولُ إنّ الحملة التسويقية الأولى لكتاب الرئيس التركي رجب أردوغان الجديد، “من الممكن تأسيس عالم أعدل”، قد بدأت من الخارج، من نيويورك، قبل الداخل التركي، وذلك اتساقًا مع موضوع الكتاب وتوقيت طرحه المختار بعناية.
وفي المجمل، فقد كانت زيارة الرئيس التركي إلى نيويورك زيارةً موفَّقة، إذ فضّل السفر بنفسه إلى هناك رغم الإمكانية التي أتاحها المنظِّمون لإلقاء الكلمة عبر الإنترنت كما فعل كثير من المسؤولين، كما التقى بالجالية التركية في عاصمة الوجود التركي بالولايات المتحدة (نيويورك)، والتقى مع الصحافة الأمريكية، وافتتح مقرّ “البيت التركي”، المقرّ الدبلوماسي الجديد للبعثة التركية في أمريكا، وسوَّق لكتابه الجديد الذي يعدّ مرجعًا رسميًّا لشرح محددات الدبلوماسية التركية في العقدَين الأخيرَين مكتوبًا بواسطة الرئيس نفسه.
الحملة الثانية
جاءت المرحلة الثانية لتسويق الكتاب بعد المرحلة الأولى مباشرة أو بالتزامن معها وإن اختلفت الطريقة، وذلك حينما أعلنت زوجة الرئيس التركي، السيدة أمينة أردوغان، أيضًا، نشر كتاب جديد، في موضوع يتقاطع مع موضوع كتاب الرئيس التركي، بعنوان: “رحلاتي إلى إفريقيا”.
تركّز أمينة أردوغان في الكتاب على الجانب الإنساني، العملي، الذي شهدته خلال زيارة 23 دولة أفريقية، رافقت فيها الرئيس التركي رجب أردوغان، في فترة الـ 6 سنوات الممتدة من عام 2014 إلى عام 2020.
يتقاطع الكتابان تقريبًا في الهدف نفسه، وهو إزالة مساحيق التجميل عن كثير من زوايا النظر إلى العالم المعاصر، فبينما ينطلق أردوغان في كتابه من فكرة أنَّ النظام الدولي المعاصر بحاجة إلى مزيد من الجهود لجعله أكثر عدلًا، فإن زوجته ترصد في الكتاب أحد أوجه عدم عدالة طريقة تسيير الأمور في العالم حاليًّا، في أفريقيا.
تُصدِّر السيدة أردوغان كتابها بمقدمة إنسانية تقول خلالها إنها: “تولي اهتمامًا خاصًّا لمشاكل النساء والأطفال في القارة، وتريد أن تكون بلسمًا لجروحهم، حيث تحاول من خلال تلك السطور إهداءهم هدية تعبِّر عن مشاعر أمّتها التركية تجاههم”، وقد أهدتهُ لوالدتها مقتبسةً عبارة جلال الدين الرومي: “إن الشمعة التي توقد شمعة أخرى، لا تفقدُ من نورها”.
وزّعت السيدة أمينة من الكتاب عددًا من النسخ الخاصة المهداة إلى الشخصيات المعنية بالموضوع في الخارج خلال زيارتها، مع زوجها، إلى نيويورك، إلا أن الطبعة الأولى من المنتظر أن تخرج إلى النور رسميًّا مطلع أكتوبر/ تشرين الأول القادم.
وعلى غرار ما فعله أردوغان تجاه مبيعات الكتاب؛ فقد قررت السيدة أمينة أن تذهب عوائد كتابها لدعم النساء والأطفال الأفارقة، تعليميًّا وصحيًّا وثقافيًّا، وذلك من خلال سوق الحِرَف اليدوية الأفريقية الذي تأسَّسَ ضمن جهود الدولة التركية للاتصال الثقافي مع القارة السمراء في مدينة ألتينداغ عام 2016.
مضامين الكتاب
يمكن تقسيم كتاب الرئيس التركي إلى 3 أفكار رئيسية، الفكرة الأولى، هي أنَّ هناك شواهد كثيرة على كون العالم المعاصر في حاجة إلى مزيد من الجهود لإصلاحه، لأن وضعه الحالي ليس على ما يرام، حتى لو حاول بعض المسؤولين وصنّاع القرار المستفيدين من هذا الوضع تجاهل تلك الحقيقة.
الفكرة الثانية، أنَّ تركيا بذلك قامت بجهود معتبرة من أجل المساهمة في إصلاح هذا الوضع، انطلاقًا من مسؤوليتها الأخلاقية والحضارية والدينية تجاه الفئات المتضرِّرة من تلك المنظومة، إلا أن تلك الجهود، وحدها، ليست كافية، ولا بد أن تُمأسس عالميًّا.
ثمّ يقدم الرئيس التركي أطروحةً عملية، طالما حاول الترويج لها، بخصوص إصلاح المنظومة العالمية، بشكل جادّ وغير مدمِّر، تلافيًا لأيّ نتائج كارثية مستقبلًا، وذلك من خلال إعادة هيكلة المنظومة من الداخل، جذريًّا، لا ظاهريًّا.
في شرح الفكرة الأولى، يعدِّد الرئيس التركي ويستفيضُ في إيضاح كيف أنّ اختلال منظومة تسيير شؤون العالم قد أدى إلى عشرات الملايين من الجوعى والنازحين، وأنه، باستثناء صراع القوة بين الـ 5 دول الكبرى التي تسيطر على المنظومة، فإنَّ المشكلات الإنسانية في العالم، وبالأخص في العالم الإسلامي، مثل سوريا وفلسطين واليمن وأفغانستان، لا تحلّ؛ لأنّ المنظومة لا تقوم بدورها المفترض في العمل على حلّ تلك المشكلات.
وباستمرار تلك الصيغة، فإنّ مشاكل الدول الأقل أهمية بالنسبة إلى الدول الكبرى لا تُترَك بلا حل وحسب، وإنما تدفع هذه الدول الفقيرة ثمن جشع الدول الكبرى، وبالأخصّ في قضايا التغير المناخي الذي تسبّبت فيه الدول الصناعية وتتضرر منه الدول البسيطة، وصولًا إلى جائحة كورونا، التي لا تزال تنضح باختلال المنظومة، بالنظر إلى وجود عدد كبير من الدول لم تحصل على اللقاحات إلى الآن.
ماذا فعلت تركيا من أجل إصلاح المنظومة؟
لا يجد أردوغان حرجًا في الفخر بسلوك بلاده الذي كثيرًا ما يكون يشبه السباحة ضد التيار، والذي يحاول أن يوازن بين الأخلاق والمصلحة، والذي كما يتحرّى مصالح الأتراك القومية، فإنه لا ينسى قضايا المهمَّشين والمستضعفين في العالم.
وفقًا لما ذكره أردوغان في إيضاح تلك الفكرة بالكتاب، فقد انخرطت بلاده في حزمة إجراءات متكاملة تستهدف تفعيل أدوات النظام العالمي الحالي قدر المستطاع، وذلك بداية من الانخراط الميداني في جهود إنهاء النزاعات المسلحة في المناطق الساخنة، والقيام بدور الوساطة في كثير من الصراعات المعقدة في العالم، مرورًا بتقديم الدعم المالي واللوجستي لمنظمة الأمم المتحدة، وجهود إسقاط الديون الاستعمارية عن الدول الفقيرة، والتبنّي الصادق لمعظم أجندة المنظمة في محاربة الإرهاب الدولي والتغير المناخي ودعم التنمية المستدامة والطاقة النظيفة.
إلى أن يصلَ إلى ذروة ما يمكن أن تقدمه بلاده لتلك المنظومة بصيغتها الحالية، كاستضافة عشرات الآلاف من اللاجئين من الدول التي عجزت الأمم المتحدة عن حلِّ صراعاتها، واستعداد تركيا الدائم إلى تقديم كلّ الدعم الممكن لاستضافة الهيئات التابعة للمنظمة على أراضيها.
ويضرب أردوغان مثالَين عمليَّين على دور بلاده الذي يحاول أن يوازن بين القيمة من جهة والمصلحة من جهة أخرى، وذلك في الأزمة السورية، فبينما أغلقت كثير من البلاد أبوابها في وجه السوريين، فقد استضافتهم تركيا وقدمت لهم كل التسهيلات الممكنة.
وفي جائحة كورونا، كانت تركيا أكثر دول العالم تقديمًا للمساعدات للدول المحتاجة، بالمقارنة بناتجها المحلي، في الوقت الذي كانت الدول المتقدمة تسطو على اللقاحات من بعضها، بالإضافة إلى أن تركيا ستتيح اللقاح المحلي لكل دول العالم بلا تمييز بمجرد جاهزيته.
العالم أكبر من خمسة
في أطروحة أردوغان المضمَّنة في الكتاب لمحاولة إصلاح الخلل في المنظومة العالمية، ينطلق أردوغان من أرضية عقلانية عملية أكثر من كونها صداميَّة أو مثالية، إذ يقول إن بلاده طالما وستظلّ تدعم منظمة الأمم المتحدة.
ولكن ما تدعو إليه في الوقت نفسه هو إعادة النظر في فلسفة وهياكل المنظمة، وبالأخصّ مجلس الأمن، بحيث يصبح المجلس أكثر تمثيلًا للتقسيمات الثقافية والعرقية والدينية المختلفة في العالم، بدلًا من تلك التقسيمة الحالية التي تحتكر الفاعلية في يد القوى الخمسة الكبرى، استنادًا إلى معادلات النفوذ التي تشكلت منتصف القرن الماضي.
ويعتقد أردوغان في الكتاب وينظر إلى أنَّ عالم ما بعد كورونا لن يكون كالعالم قبله، وأن الأمر ليس ترويجًا لمصالح تركيا بقدر ما هو محاولة للتفكير بعقلانية، فتركيا، على حد قوله، قد حجزت مكانها بيدَيها فعلًا في العالم الجديد كقوة عظيمة، ولكن ذلك ليس مسوِّغًا لنسيان معاناة الآخرين.
ويقترح أردوغان أن توسَّع صلاحيات الجمعية العامة للأمم المتحدة، مقابل تقليص نفوذ مجلس الأمن بعض الشيء، وأن تحترم آليات الانتخاب والمحاسبة في المؤسسة على نحو أكثر جدية من الوضع الحالي، معتبرًا أن توزيع صلاحية اتخاذ القرار على 20 دولة مختلفة بالتساوي، قد يكون أكثر عدلًا من حصرها في يد الدول الخمس الكبرى فقط، كما يحدث الآن.
ورغم جودة المحتوى المضمَّن في الكتاب، وهندسة نشره وتسويقه من الفريق المعاون للرئيس التركي على نحو لافت، إلا أنه لم يسلم من الانتقادات الداخلية، سواء المتعلقة بالسعر أم بالرسائل المضمَّنة فيه، وهو ما يفسِّره محلِّلون بالصوت المسموع لفريق معتبر من المعارضة، خصوصًا قبل اقتراب الانتخابات العامة، وتربُّص فريق آخر من المعارضة بأي جهود للنظام التركي الحاكم، حتى لو كانت نشر كتاب!
(نون بوست)