الصهيونية الدينية ومهمة حراسة المُــقدس: هل هي حرب مــفتوحة على الفلســطيني؟ الحارديلية ومهمة التديين (7)
صالح لطفي باحث ومحلل سياسي
تعتبر دائرة الاستيطان، من أهم أذرع التيار الديني الصهيوني الذي تشارك مع التيار الحاريدي الصهيوني داخل تيار الدينية الصهيونية، للحفاظ على الأرض الموعودة، خاصة في المدن الساحلية والجليل والنقب. ومنذ أن أعلن شمعون بيرس عن إقامة وزارة خاصة بتطوير الجليل والنقب تزايدت أهمية هذه الدائرة باعتبارها أحد أهم اذرع التهويد والحفاظ على المنجز الصهيوني والحيلولة دون هروب اليهود من تلكم المناطق إلى شريط حديرة-جديرة (مصطلح نحته بن غوريون وممتد جغرافيا من مدينة الخضيرة التي تأسست من قبل مجموعة أحباء صهيون عام 1892 بعد أن اشتروا أراض من الافندي المسيحي اللبناني سليم خوري، أي أنّ تلكم الأراضي أميرية تتبع للسلطان يحتكرها الافندي على قدر معلوم، وأعلنت بلدية عام 1952 وحتى مستوطنة جديرا التي أقيمت عام 1882 من قبل مجموعة بيلو-الشباب الصهيوني الاشتراكي واعترف بها سلطة محلية عام 1949 وتبعد عن مدينة تل ابيب عاصمة هذا الشريط 35 كم، علما أن طول الشريط الممتد بين الخضيرة وجديرا لا يتجاوز الـ 85 كم)، حيث العامود الفقري للدولة ومحط صناعة القرار السياسي والأمني.
تثبيت الوجود اليهودي..
مهمة التيار الحاريدي-الصهيوني
من المهم أن يفهم القارئ لغة التشابك والتعاضد السلطوي، وما هو خارج السلطة، في خدمة الهدف الصهيوني-اليهودي، فالكل يشترك في مهمة تثبيت الوجود، مع فارق في السياسات والأيديولوجيات الرامية لتحقيق معنى الوجود وتثبيته. دائرة الاستيطان التي نحن بصددها، هي ليست دائرة حكومية رسمية، بل هي تعمل تحت لافتة الهستدروت الصهيونية العالمية، وتتواصل مع مكتب رئيس الحكومة مباشرة، ولا يُعرفُ شيء عن ميزانياتها، وكان مركز مولد للتجديد الديموقراطي (مركز يتبع لحركة السلام الآن) قد أعدّ تقريرًا دقيقًا عن هذه الدائرة، وكشف عن أدوارها الاستيطانية ودعمها المباشر للنوويات الاستيطانية في المدن الساحلية خاصة يافا واللد والرملة وعن دورها الآخر المخفي في عمليات إعادة اليهود العلمانيين في شريط مدينة الخضيرة ومستوطنة جديرا قرب عسقلان إلى حضن اليهودية، والتركيز على اختراق مدينة تل ابيب عاصمة العلمانية الصهيونية.
رئيس لجنة القانون والدستور والقضاء عام 2014 النائب في الكنيست عن حزب يسرائيل بيتنو (الحزب الأكثر علمانية) قال أمام أعضاء اللجنة الذين طلبوا كشف السجل الرسمي لهذه الدائرة عن ميزانياتها ومصاريفها ما يلي: “لن أسمح- بصفتي رئيسًا للّجنة بإجراء أي نقاش حول ميزانية هذه الدائرة”. وكشف التقرير أنّ الميزانية التي أقرّت لهذه اللجنة من ميزانية الدولة للعام 2014 كانت 58 مليون و200 ألف شيقل، بينما المبلغ الذي تم تمريره لهذه الدائرة من قبل اللجنة المالية في الكنيست والتي كانت برئاسة البيت اليهودي بلغ في نفس العام 404 مليون شيقل.
لم تكن مهمة هذه الدائرة الحفاظ على الاستيطان، فقد استغل قادة التيار الديني الصهيوني الدائرة لإحداث اختراق عملي في الجموع العلمانية والتقليدية الساكنة في الشريط المذكور، سعيا لتغيير مجتمعي يحقق لهم إدارة دفة الدولة مستقبلا، فقد كشف مسؤول الاستيطان في مدينة الرملة اوريه شاحر: “أنا متدين- قومي (حارديلي) ولا أحب وصفي بالمتطوع المجتمعي، أو أنّ ما تقوم به الدائرة على أنه تأسيس لخلق نواة اجتماعية، لا، نحن نواة تلمودية وليست نواة إجتماعية”، ومهمتها كما يتبين من حديثه وأمثاله “نشر الأيديولوجيا اليمينية الدينية-الصهيونية في مناطق عملهم، ولذلك فمن ضمن الأعمال، إعادة اليهود الى اليهودية”. ومن أجل هذه المهمة تصرف هذه الدائرة 75,5% من ميزانيتها على هذا العمل، تعزيز الهوية اليهودية وتديين المجتمع الإسرائيلي في القطاع/الشريط المذكور و24% على الأعمال المجتمعية والاستيطانية.
أحدى القضايا التي من الضرورة فهمها لتفكيك العقل الأيديولوجي الاستيطاني التوراتي، علاقته بلحظتي إخلاء مستوطنة “يميت” في سيناء عام 1982، وذلك ضمن اتفاقية كامب ديفيد التي وقّعها رئيس الليكود، رئيس الوزراء مناحيم بيغن، ولحظة إخلاء مستوطنات غوش قطيف، التي أقرّها رئيس الوزراء ورئيس حزب الليكود آنذاك أرئيل شارون (كتلة استيطانية تكونت من 21 مستوطنة استباحت أراضي قطاع غزة وقام رئيس الوزراء ارئيل شارون رئيس حزب الليكود بتفكيك تلكم المستوطنات ضمن خطته آنذاك المسماة خطة فك الارتباط الأحادية الجانب وتم ذلك عام 2005).
رئيس النواة التلمودية في مدينة يافا، ورئيس المدرسة الدينية شيرات موشيه يؤكد أنّ “إقامة المدرسة والنواة التوراتية جاء مباشرة بعد الإخلاء من منطقة غوش قطيف، مشيرا إلى أنّ الشعب الإسرائيلي، يسكن معظمه في الشريط الساحلي بين مدينة الخضيرة ومستوطنة جديرا، حيث تتخذ في هذه المنطقة القرارات السياسية، ولذلك كان القرار بدخول هذه المنطقة، لإعادة بناء الهوية والوعي وهذا لا يمكن أن يتم دون أن تنزل إلى تل ابيب، ونحن إذا بقينا نتحدث مع أنفسنا ونتحدث إلى الناس من برج عال، فإن هذا لن يساعدنا في شيء قط”. إذن فمهمة النويات التلمودية ليست فقط استيطانية والتحرش بالساكنة العرب ودفعهم للخروج من تلكم المدن، بل والعمل على تغيير الساكنة اليهود من العلمنة الى التشبث باليهودية، وليس شرطا أن يتحول إلى اليهودية الدينية بمفهومها الأرثوذكسي، وعلى الرغم من وصف العلاقة بين هذه الدائرة والحكومة بالملتبسة والدامية كما وصفتها نائبة المستشار القضائي، إلا أن مهمتها في السياق الصهيوني ما بعد الحداثي في غاية الوضوح، فهي تعمل على جبهتين، الأولى تتعلق بالداخل الإسرائيلي والمهمة الأساس، تمكين الهوية اليهودية منهم برسم ما يرونه دعاة هذه الهوية من اتباع التيار الحاريدلي المنبثق عن تيار اليهودية-الصهيونية ممثلا إلى هذه اللحظات بالبيت اليهودي وريث المفدال التاريخي، والجبهة الأخرى في مواجهة الساكنة العرب في الجليل والنقب والمدن الساحلية التاريخية والتحرش المستمر الممنهج بهم، وكل هذا يتم تحت سمع وبصر السلطات وتحت حمايتهم المباشرة.
مهمة التيار الحريدلي والذي تمثله هذه الدائرة وتتحصل على ميزانيات رسمية وغير رسمية بمئات ملايين الشواقل، حراسة المقدس اليهودي، ليس فقط من الجوي العربي المسلم، بل ومن اليهودي العلماني الرافض للأرثوذكسية الدينية اليهودية، ولذلك فهذه المهمة تتجلى في دورها الخفي وغير المعلن، لكن المثابر والذي لا يتوقف في تعزيز اقتحامات المسجد الأقصى وصرف الملايين على الجموع المقتحمة والعمل على تهيئة الاعدادات المادية واللوجستية لبناء الهيكل الثالث، إلى جانب دورها الكبير في الدفاع عن معتقلي مجموعات تدفيع الثمن “تاج محير” وقتلة محمد خضير ومن يقومون بأعمال عدوانية ضد الفلسطينيين، ويقودون حملات منع إسكان العرب في البلدات اليهودية، وتتعاظم قوة هذه المجموعات اليوم في ظل حكومة نفتالي بينيت، الإبن الشرعي لهذه المدرسة، وما ينبثق عنها من مجموعات متطرفة، وهو الذي صرّح في زيارته للنواة التوراتية في الرملة، بأنه سيعمل جاهدا لمساعدة الجمهور الديني القومي لأنه يقوم بمهمة مقدسة: التديين والحماية.
السنوات القادمة، ستدفع هذه المجموعات الى السطح برسم معادلات التدافع التي باتت تخصف منطقتنا عموما وفلسطين التاريخية بما عليها من ساكنة، ونُظم وجهات حاكمة على الرغم مما بينها من تفاوت.