قضـــية الأسرى عود على بدء

صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي

ثمّة علاقة طردية وتعاضدية بين مؤسسة السجن ومراكز الاعتقال والمؤسسة الحاكمة، إذ تشكّل السجون والمعتقلات المواقع العملية لتفكيك المعارضين وهزيمتهم نفسيا وجسديا، وموقعا مهما لترويض من يمكن ترويضه وجعله يتقبل العقاب ويتحول إلى جلاد لإخوانه بالأمس في النضال والكفاح فضلا عن تعَرُفِ المؤسسة على السجين أو المعتقل وقراءة عقله ومن ثم قراءة عقل التنظيم المنتسب إليه، وقد أجرت المؤسسات الاحتلالية عبر العالم مثل هذه الأبحاث والدراسات على أولئك الاسرى، والاحتلال الإسرائيلي ليس بدعا عن قوى الظلم والطغيان في العالم إن لم يكن ابنهم “الشرعي”، والاحتلال أجرى العديد من الأبحاث والدراسات على الأسرى الفلسطينيين من مختلف الفصائل لتفكيك العقل المقاوم، ولقد تضاعفت هذه الدراسات بعد إعلان واشنطن مطلع هذه الألفية حربها على الإرهاب متقصدة الحركات الإسلامية المجاهدة والسياسية على حد سواء، وكانت السجون أحد حقول تجاربها الأمبيرية والنظرية.

الأسرى ماء الحياة للقضية الفلسطينية

كلّما ظنَّ ظانُّ أنَّ القضية الفلسطينية قد أزفت على الرحيل وانطوى سجلها، تأتي قضية الأسرى لتعيد الأمور إلى بداياتها الأولى المسكوت عنها، فهذه القضية ليست عصبا حساسا في مسيرة النضال الفلسطيني، بل هي العصب الحساس الذي يعايشه الكل الفلسطيني في الداخل والشتات، ومن ثم تعبّر قضيتهم عن الوجود الجوهري للفلسطينيين.

رافقت قضية الأسرى القضية الفلسطينية منذ لحظة النكبة وميلاد إسرائيل والى هذه اللحظات وستستمر الى أن تتحرر فلسطين، وكل قضية تحرر في العالم رافقها عمل منظم ثوري كان من تداعياته شهداء وأرامل وأيتام وأسرى حرية، أسرى مناوئين ومكافحين ومناضلين للاحتلال ولم تتم وتنته العملية الثورية هذه إلا بخروج آخر أسير ثوري من سجون الاحتلال، ولذلك فقضية الأسرى الفلسطينيين ليست بدعا من القضايا ولن تكون كذلك.

قضية الأسرى الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية هي قضية وطنية فلسطينية جامعة للكل الفلسطيني الفصائلي وغيره والعابر للخلافات الفلسطينية، وتشكل هذه القضية إلى هذه اللحظات المكوّن الحي الظاهر والطاهر في الصراع الفلسطيني لتحقيق العدل والحرية والاستقلال.

لا تزال قضية أسرى الجلبوع تتصدر المشهد الإعلامي العام، ليس لأن الاحتلال ألقى القبض على أربعة منهم- حتى كتابة هذه السطور- والحديث عن إعادة الهيبة والردع الذي فقده الاحتلال في عملية تنسم الحرية عبر عملية حفر معقدة تصلح فيلما سينمائيا، بل لأن قضية الاسرى التي هي المشتقة الأكثر أخلاقية في القضية الفلسطينية تلاقي تجاوبا وتعاطفا أمميا عابرا للقارات والأمم والديانات، وهذا العبور السائل تجتهد دوائر الاحتلال الإسرائيلي إخفائه عن مواطنيها وعدم التطرق إليه في نشراتهم المركزية وأدوات التواصل والمواقع الإخبارية المختلفة، لأنها تسعى دوما لإبقاء مواطنيها قطيعا يخضع لعمليات غسيل الدماغ.

في هذه المقالة لن أقوم بتحليل الموقف الإسرائيلي من عملية الحرية في سجن الجلبوع وتداعياتها، بل سألقي الضوء على بعض من محايثات الحركة الأسيرة في السجون الإسرائيلية، إذ لا يكاد يخلو بيت فلسطيني إلا وقد مرَّ عليه نازلة الاعتقال لأحد أبنائه أو واحد من الوالدين أو كلاهما، ولذلك فكل بيت فلسطيني بين أسواره قصة مؤلمة تبين لنا معلما من معالم الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي وتدافعاته التي تحتاج إلى أسفار لتحبيرها والتعلم منها.

الاسرى في سجون الاحتلال

ونحن نكتب هذه المقالة فإن عدد الأسرى من الفلسطينيين- هناك العشرات من العرب والمسلمين- في السجون الإسرائيلية يصل إلى 4850 أسيرا يعيشون ظروفا في غاية البؤس والقسوة والانتقام شبه اليومي ازدادت وتيرته بشكل هستيري منذ عملية نفق الحرية، وتتناقل وسائل الإعلام عن أعمال انتقامية غير مسبوقة في سجن شطة والجلبوع تشي بحجم الحقد الاحتلالي تماما، كما تكشف عن حجم أزمته اتجاه هذا الملف، وهناك 500 أسير فلسطيني يعانون من أمراض مختلفة ترفض المؤسسة الاحتلالية الاهتمام اللائق بهم، كما أن هناك 540 أسيرا فلسطينيا قيد الاعتقال من غير تهمة (سجناء إداريون) منهم عشرة ما زالوا مضربين عن الطعام احتجاجا على سجنهم التعسفي تحت لوائح السرية، وهناك 235 طفل فلسطيني في سجون الاحتلال و40 أسيرة فلسطينية منهن 11 من الأمهات.

تسببت سياسات الاحتلال الإسرائيلي داخل السجون والمعتقلات باستشهاد 226 أسير فلسطيني منذ عام 1967 وحتى كتابة هذه السطور، منهم 73 استشهدوا تحت التعذيب و71 استشهدوا بسبب الإهمال الطبي و75 نتيجة القتل العمد و7 أخرين بسبب إصابتهم برصاصات قاتلة وهم داخل السجن.

الاحتلال يتعمد مخالفة القوانين الدولية التي وقّع عليها والمتعلقة بالتعامل مع الأسرى سواء ما تعلق بأوضاعهم الصحية أو التنكيل بهم وما ذلك إلا لأنهم يعتقدون أنّ إهانة الاسرى الذي هو جزء من سياساتهم في إهانة الكل الفلسطيني يعينهم على التنكيل في الشعب الفلسطيني نفسيا، ومن ثم هزيمته، وتعينهم على ذلك سياسات سلطة فلسطينية تستقوي على شعبها بالاحتلال ذاته.

تصعيد الحركة الاسيرة

في ظل التغول الفاشي الاحتلالي على الأسرى في سجون الاحتلال، أعلنت الحركة الأسيرة في السجون الإسرائيلية عن سلسلة من العمليات التصعيدية التي يبدو أنها ستضع المشروع الفلسطيني برمته في الأسابيع القادمة سواء ما تعلق بسلطة أوسلو أو المقاومة وجها لوجه أمام الاحتلال، وهو ما سيعني تحرك الكل الفلسطيني. فقد أعلنت الهيئات القيادية لأسرى حركة “حماس” في سجون الاحتلال، الاثنين الماضي، أن مديري سجني جلبوع وشطة وضابطي أمنهما أصبحوا في دائرة الاستهداف المباشر من قبل الأسرى، معتبرين أن هذه خطوة أولى لرد الاعتبار لأسرى سجني الجلبوع وشطة وباقي السجون كأول رد فعل رسمي على هذا التغول الاحتلالي، ومن جهتها أعلنت الهيئة الأسيرة التابعة لمنظمة التحرير عن خطوات تصعيدية تبدأ بإضراب سيضم 1380 أسير في عدد من السجون كخطوة أولى نحو مواجهة القمع السلطوي الذي باشرت به مصلحة السجون ضد الأسرى بتوجيه من المستوى السياسي.

المطلوب فصائليا

تعتبر قضية الأسرى من أبناء شعبنا الفلسطيني القضية الأكثر قداسة وأهمية في الحاضر الفلسطيني، ومن ثم تتعاظم هذه القضية باستمرار ولا يمكن أن تختفي أو تتراجع بل هي الميزان الذي على مسطرته تتقرر مدى مكانة هذه الفصائل فلسطينيا وعلاقاتها بالمجتمع الفلسطيني، ولذلك يصبح من الضرورة بعد حادثة النفق موضوع تحرير الاسرى وتبيض سجون الاحتلال مسألة أخلاقية ووطنية وشرعية، تستوجب التفافا فصائليا من جهة وعملا ذكيا دؤوبا من جهة أخرى يضمن تحقيق الحرية لكل الاسرى الذين اعتقلوا من أجل هذه القضية المُقدسة.