كيف قرأ الاستشراق الإسرائيلي سيد قطب
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
مقدمة
نعيش هذه الأيام الذكرى الخامسة والخمسين لاستشهاد المفكر الإسلامي المصري، سيد قطب إبراهيم، صاحب، الظلال، والتصور الإسلامي، والمعالم وكتب أخرى.
لا ينكر أحدٌ من متابعي مسيرة الحركات الإسلامية السنية والشيعية، حجم التأثير الذي تركته كتابات سيد قطب في الفكر الحركي السني والشيعي على حد سواء. ومبكرًا اهتم الاستشراق الغربي بسيد قطب مفكرا واديبا وكاتبا ومنظرا للحركات الإسلامية ولعموم الشباب العائد الى دينه من العرب والعجم، ولا أخال عالما أو مفكرا وباحثا إسلاميا أو غير إسلامي له صلة في بحث الحركات الإسلامية والصحوة عموما، لم يقرأ لسيد قطب، ومبكرا استمعت للمستشرقة الإسرائيلية المشهورة حافا لازروس، وهي تتحدث عن سيد قطب والظلال وكتابه معالم في الطريق، بصفته أحد أهم الشخصيات الإسلامية التي تركت بصماتها على المسلمين في القرن العشرين، ولا يزال الظلال والمعالم الأكثر مبيعا في المكتبات الإسلامية إلى يومنا هذا، وقد ترجمت كتبه الى لغات كثيرة منها اللغة العبرية خاصة كتابه معالم في الطريق.
سيد وعبيد البلاط
لا يفوتني في هذه المقالة أن أشير باختصار إلى أن الإعلام العربي الرسمي وأدواته المختلفة وجيش الليبراليين شنّ حملة شعواء على سيد قطب وأراد إعادة القراء الى مربعات الإرهاب ومنابعه وعلاقته بالإسلام، وكأن الإسلام دين إرهاب، متعلقا ما ذكرت بمبادرات شرعت بالخروج من قمقمها تريد شرعنة دين جديد بدأ فحيحه يصدر من مصر السيسي وجماعات ابن سلمان وقاسمهم المشترك سيد قطب وفكره الإرهابي، لكن التاريخ يعلمنا أنّ سيد بقي سيدا وازدادت كتبه انتشارا واختفى العبيد كأنهم غثاء سيل منهمر. في هذه المقالة سأتناول باختصار موقف الاستشراق الإسرائيلي من سيد قطب وكيف ينظر إليه في ظل التّحوّلات الجارية في عالمنا العربي خاصة منذ النكبة والنكسة.
الاستشراق الإسرائيلي وسيد قطب..
بداية أود التأكيد على أنّ العشرات من الوظائف الجامعية والعشرات من الرسائل العليا (الماستر والدكتوراة) كتبت عن سيد قطب، سواء باللغات العبرية أو الإنجليزية وحتى بالفرنسية، فضلا عن دراسات تخصصية، ويعود الاهتمام بسيد قطب إلى الاهتمام بالإخوان المسلمين أولا، وإلى ظاهرة العنف السياسي الذي شهدته وتشهده المنطقة، وإلى ظهور حركة حماس، ومن قبل الثورة السورية إبّان الأسد الأب، والثورة الإيرانية وتأثر مفكريها بأفكار وكتابات سيد، وبسبب انتشار فكره وطروحاته عالميا، فالاستشراق الإسرائيلي يؤسس على أنّ المدرسة الاخوانية بتفرعاتها الكونية تأسست على منهجي سيد قطب وحسن البنا، وهما المؤسسان الفعليان لهذه الجماعة بحسب طروحاتهما مع اختلاف الزمن في الطروحات والبيئة المتعلقة بتلكم الطروحات، وكيفية الطروحات، ولكن مقتلهما على يد السلطات المصرية جعلهما أيقونة ما زالت آثارها الى هذه اللحظات.
ويرى الاستشراق الإسرائيلي بسيد قطب، الأب الروحي لجماعات التشدد السياسي الإسلامي وللجماعات التي خطت العنف سبيلا لإقامة الحكم، بعد أن جمعت بين قيمة الحاكمية ومعنى المجتمع الجاهلي والعزلة الشعورية، على اعتبار من كتابه المشهور، معالم في الطريق الذي يراه المستشرقون الإسرائيليون المؤسس النظري الفعلي المعاصر للعنف الذي انتهجته هذه الحركات وعملت من بعدُ على تقعيده شرعا عبر مباحث ابن تيمية وطروحاته الشرعية، ومن أجل هذه القضية تُرجمت العديد من كتب سيد رحمه الله إلى العبرية ككتاب معالم في الطريق، وكتاب السلام العالمي والإسلام، والمستقبل لهذا الدين، معركتنا مع اليهود وغيرها.
ثمة معالم يمكننا تتبعها في قراءاتنا للمستشرقين الإسرائيليين فيما يتعلق بسيد قطب وطروحاته الفكرية، استهجانهم الطروحات الإنسانية والمدنية لسيد كتلك التي في كتابه الإسلام والسلام العالمي، ومحاولاتهم تشويهها عبر ربطها بطروحاته المتعلقة بالجهاد وموقفه من اليهود والاستكبار العالمي بشقيه السوفياتي الاشتراكي الماركسي، والغربي الرأسمالي الليبرالي، ربط العنف والإرهاب في البنيوية الإسلامية كدين، وربط العنف والإرهاب بجماعة الاخوان المسلمين، وربطه بسيد قطب والاستشهاد بتاريخ الجماعة في مصر في عصور فاروق، وعبد الناصر، والسادات وحتى السيسي، وأن الإخوان يعملون على غزو واجتياح العالم وأوروبا وأنهم يتبعون سياسات التدرج في كافة أماكن تواجدهم مع أخذ مستمر (انظر دراسة ارييه شافيط: الاسلاموتوبيا، ديموقراطية على نهج الاخوان المسلمين) بقراءاتهم للواقع الذين يعيشون واستبطانهم تجهيل (نظرية الجاهلية- جاهلية المجتمعات المسلمة وكفرية غيرها- التي نادى بها سيد قطب ونظرية الفوقية والعزلة الشعورية للجماعة المؤمنة -وأنتم الاعلون-) المجتمعات الإسلامية وقناعاتهم بردتها، وعادة ما يربطون أفكار سيد بالمفكر الإسلامي الباكستاني أبو الأعلى المودوي، صاحب نظرية الحاكمية التي استلهمها سيد، وسعى لتطويرها فكرا وايديولوجيا (طروحات بار طال شاؤول حول الإرهاب العالمي) وربطوا بين طروحات سعيد حوى في نظرية الردة وطروحات سيد في مسألة الجاهلية وتداعياتها المجتمعية والتربوية والعقدية، فقد اعتبر البروفيسور إسحاق وايزمان في دراسة له عن فكر سعيد حوى وعلاقاته بالثورة التي قادها مروان حديد وتلاميذه على حافظ الأسد، أن حوى تقدّم خطوة إلى الامام بتبنيه نظرية “الرّدّة ” فيما تبنى سيد نظرية “الجاهلية” مشيرا الى أن حوى تأثر بسيد وتقدم عليه في تعميق معنى الحِدِيةِ في الطرح مخرجا المجتمع “السوري” عن الإسلام ومنظرا للثورة ضد حافظ الأسد التي فشلت فشلا ذريعا ومعدّا الأرضية لجماعات العنف السياسي الاسلاموي.
المُمَاسفة القطبية
تَحَسَبَ الاستشراق الإسرائيلي من عولمة أفكار سيد واعتبر أنّ حالة من المُمَاسفةُ (تعني التفاعلات المتجاوزة للسياقات المحلية والمتخطية للمسافات) تعيشها أفكاره تتخلق حينا بعد حين في سياقات وصياغات مختلفة، فقد كانت يوما “ما” تتخلق في المحاضن الإخوانية ثم استحالت سلفية ثم استحالت سلفية جهادية، ثم ها هي تتعولم مجددا بين المسلمين العرب وغير العرب في بيان لقوة الفكرة والكلمة أمام الطغيان مهما كان بطشه، فقد كتب يتسحاق لاؤور في تعليقاته في الملحق الأدبي لصحيفة “هآرتس” حول كتاب معالم في الطريق الصادر عن دار نشر راسلينج عام 2011 والذي ترجمه المستشرق الإسرائيلي بروفيسور يتسحاق فايسمان: “أنَّ سيد قطب مطلعُّ وعالم بتقدم الغرب العلمي والتقني ولكنه يعتقد أن ليس هذا هو الأمر المهم في جدل العلاقة معهم فهم يعيشون في جاهلية وعدمية أخلاقية وفقدان للعدالة يستوجب مواجهة هذه الجاهلية لإنقاذ البشرية المعذبة، فكما أن الرسول محمد صلى الله عليه وسلم واجه الجاهلية العربية، كذلك يجب العودة إلى مواجهة الجاهلية العربية ومن ثم الجاهلية الغربية..”. بتصرف. وواضح أن هذه الدعوى السيدية تلاقي اليوم آذانا صاغية ليس فقط من الإسلاميين، بل وممن باتوا يؤمنون أن البشرية كلها معذبة بسبب الجشع العلماني الحداثي الغربي الصليبي الذي انتج إسرائيل ودول سايكس بيكو في منطقتنا، وأرهق البشرية بالحروب ليظل متسيدا. رحم الله سيد قطب ولا عزاء للعبيدْ.