تمرّد الشباب
محمد خليل شباط
كانت الأعوام الأخيرة المنصرمة ثقيلةً جدًّا ومتعبةً جدًّا للشّعب الفلسطينيّ في الدّاخل، محمّلةً بالكثير من التّحديات الجديدة، تحدياتٍ لم تجد عنوانًا يتصدّى لها لا من أنظمة الدّولة- المتواطئة- ولا من القيادات السياسيّة العربيّة التي أنهكت مسامع النّاس بشعاراتٍ برّاقةٍ وأوهمتهم بأوهامٍ تفوق قدراتهم بمراحل. كان أكبر هذه التّحديات بلا شكّ هو تفشّي جرائم القتل في المجتمع العربيّ في الدّاخل، وفشل الشّرطة- الّذي كان مثيرًا للشّكوك حينها- في القبض على منفّذي تلك الجرائم.
وفي خضمّ تلك الفترة الصّعبة جاءت أزمة فيروس كورونا لتزيد من قلق العرب من شبح الفقر والبطالة لتزيد فوق همّهم همومًا.
كان الحمل في ازديادٍ متصاعدٍ على كاهل المواطنين العرب، وقد وضحت الصّورة أمامهم أكثر وأكثر مع مرور الأيّام وانعدام الحلول؛ بفشل الأحزاب السياسيّة بكوادرها الكبيرة وصلاحيّاتها السياسيّة ونفوذها في الدّولة من معالجة الأزمات المتتابعة على المواطنين إلّا من بعض الفيديوهات التي خرج فيها نوّاب الكنيست العرب للجمهور لحثّهم على الصّبر بدلًا من اعترافهم بعدم قدرتهم على إرشاد الجماهير إلى حلٍّ لمشاكلهم المستجدّة؛ فيديوهات خجولة كان المفهوم منها إثبات وجود القيادات السياسيّة بشكلٍ من الأشكال بين النّاس ومعهم. كان تسارع الأحداث يشير بوضوح إلى الحاجة الملحّة لتغييرٍ يكسر الجمود الاجتماعيّ الفلسطينيّ ويحرّك واقعهم المتداعي أمام أعينهم بشكلٍ يوميّ؛ فقد سالت دماء الأبرياء بلا حسيبٍ ولا رقيب، وازدادت البطالة بفعل الإغلاقات المتعلّقة بالتّعامل مع الوباء الحاصل، حتّى صار المواطن العربيّ يفتقد لأبسط حقوقه الأساسيّة بالأمان؛ فلا هو يأمن على حياته من المجرمين الفالتين من قبضة الدّولة ولا هو مطمئنٌ للقمةِ عيشه.
جاءت أحداث الثامن والعشرين من رمضان لتكون القشّة التي قصمت ظهر البعير إن صحّ الاستدلال بهذا المثل، حين اجتاحت القوّات الإسرائيليّة المسجد الأقصى المبارك مدجّجةً بالسّلاح تهاجم المصلّين العُزّل من رجالٍ ونساءٍ وشيوخٍ وأطفال بلا رحمةٍ ولا هوادة ولا أدنى سببٍ مقنع؛ باغين عليهم مبتغين طرد العرب من المسجد المبارك للسّماح لليهود المتطرفّين باقتحام الأقصى براحةٍ وبلا إزعاج. أدّى الاقتحام الظّالم ومن قبله أخبار التّضييق على المقدسيّين في أحياء سلوان والشّيخ جرّاح وغيرهما إلى استفزاز كبرياء الشّباب العرب في الدّاخل؛ فثارت نخوتهم واستجابوا لنداء المروءة لنجدة الأهل والمقدّسات.
قادت اليقظة الشبابيّة التي لم تأبه بانتظار القيادات والأحزاب وأهل الربط في الدّاخل لاشتعال المفارق والمواجهة المباشرة مع قوّات الشّرطة الّتي عزّزت كوادرها هي الأخرى لقمع الثّائرين العرب. تزامنت هذه الهبّة مع دخول غزّة على الخطّ وإشباعها للكيان بالصّواريخ ثأرًا للفلسطينيّين ولم تلبث الضّفة الغربيّة حتى انتفضت هي الأخرى في مشهدٍ بديعٍ سطّر وحدة الشّعب في مقاومة الظّلم الإسرائيليّ، مشهدٌ جدّد الإيمان والأمل في قلوب الفلسطينيّين خاصّة والأمّة العربيّة عامّةً، فقد شهدت مواقع التّواصل تضامنًا عظيمًا من المواطنين العرب من شتّى الدّول؛ مغدقين إخوانهم الفلسطينيّين بعبارات الدّعم وتصبيرهم، وإجلال ثباتهم، وصمودهم، وإقدامهم.
كان الفلسطينيّون يعلمون أنّ ضريبة هذه الهبّة ستكون باهظة، فقد ارتقى الشّهداء وآلاف الأسرى وتضييقاتٍ عديدة أخرى، في محاولةٍ بائسةٍ للاحتلال لتأديبهم. مع كلّ هذا فقد أظهروا جلادةً وصبرًا منقطعا النّظير في تحمّلهم، حاملين غصن الزّيتون في صدورهم والنّار في عيونهم.
من نتائج هذه الهبّة المباركة إدراك المجتمع لقدرته العظيمة وخاصّةً فئة الشّباب على التأثير المباشر والمبارك على مسار الأحداث؛ فقد تسبّب اندلاع الدّاخل بشكلٍ مباشر إلى هرولة إسرائيل نحو اتّفاق إيقاف نيران مع غزة، حمى به أهل الدّاخل أهلَ غزّة من استمرار القصف الغاشم ومن خرابٍ أكبر من الّذي حلّ في القطاع. أظهرت الأحداث الأخيرة كذلك أهميّة عدم ترك الأمور للمعالجة البرلمانيّة وعدم الاتّكال على النّواب العرب الّذين غابوا عن المشهد إبّان ثورة الشّباب؛ بل والأنكى من ذلك تعاون بعضهم مع الأمن الإسرائيليّ لفكّ الاعتصامات الشبابيّة وزجّهم في السّجون أحيانًا.
أنبتت الأحداث الأخيرة وعيًا عظيمًا لدى الشّباب الفلسطينيّ في الدّاخل، وهو الآن يضع استراتيجيّاتٍ ويعدّ حِراكاتٍ شعبيّة شبابيّة أسوةٌ بالنّموذج الفحماوي الّذي ذاع صيته في الدّاخل وأبهر عقل ووجدان الشّباب الرافض لهذا الواقع التّعيس للقضيّة الفلسطينيّة، وكلّ هذا يصبّ في مصلحة المجتمع الفلسطينيّ إن أحسن شبابنا التّخطيط والإعداد بوعيٍ وبوصلة واضحان وثابتان على هدفٍ وطنيٍّ مشترك.
تمرّد الشّباب أحيا المجتمع كلّه والقضيّة كلّها، وقد جاء الوقت المناسب ليأخذ الشّباب مكانهم المركزيّ في قيادة المشروع الفلسطينيّ في مواجهة السياسات الإسرائيليّة الجائرة، مستمسكين بسورة الإسراء ووعدها المُبارك، مترنّمين على ألحان نشيد موطني الخالد ما خلدت السّماوات والأرض.