الصهيونية الدينية ومهمة حراسة المُــقدس: هل هي حرب مــفتوحة على الفلســطيني؟
دور الدولة في تنشئة الحريدية (4)
دور الدولة في تنشئة الحريدية (4)
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
لا يمكن للباحث في جدليات التيار الديني الصهيوني المتحردل (التيار الديني الصهيوني القومي الحاريدي)، أن يتأكد من نشأته دون العودة إلى الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة منذ نشأتها عام 1948 وإلى هذه اللحظات، فسيرورة هذه الحكومات، وفقا لقناعات كاتب هذه السطور، ساهمت وبشكل مطلق في تأسيس التيار الديني الصهيوني الحاريدي، والذي يتغلغل هذه اللحظات في نسيج المجتمع الإسرائيلي ويشكل القاعدة الشعبوية لليمين الإسرائيلي ممثلا بالليكود، وتتقاطع مصالح الدولة مع وجوده بسبب أيديولوجيته المتعلقة بالوجود اليهودي والأرض من جهة، وبسبب الهوية الدينية المؤدلجة التي تُقدم اليهودية كدين وتراث وموروث على الديموقراطية، من جهة أخرى، وتجعلها أداة من أدوات خدمة تلكم الأيديولوجيا، وتؤسس لحالة يمينية تجمع بين اللبرلة الغربية فتضمن استمرار الدعم الغربي للدولة “اليهودية”، واليهودية بمدارسها المختلفة، فتضمن استمرار الدعم من يهود الشتات وبالذات يهود الولايات المتحدة، وإن حدثت في السنوات الأخيرة، في عصر نتنياهو، تطورات سلبية في العلاقات بسبب تخوف اليهود الأمريكيين من غوغائيته وشعبويته وتأثيراته على الشارع الأمريكي ويهود الولايات المتحدة، وإسقاطاتها على إسرائيل وجودا وعدما، ولذلك يرى كاتب هذه السطور أنَّ أيدي اللوبيات الصهيونية لعبت دورا مهما في إبعاد نتنياهو عن سدة الحكم، ولا تزال تلعب، لإبعاده نهائيا عن مسرح الحياة السياسية الإسرائيلية، خاصة في ظل ما تم تحقيقه من إنجازات في العالم العربي والإسلامي في العلاقة مع إسرائيل، وهو مكسب استراتيجي لن تسمح اللوبيات اليهودية الأمريكية التي كان لها الفضل الأكبر في تحقيقه، أن يضيع.
ولذلك، فإن التيار الديني الحاريديلي الذي يتغلغل سريعا في ثنايا المجتمع الإسرائيلي سيكون مستقبلا التحدي الأكبر للوبيات اليهودية في الغرب عموما وفي الولايات المتحدة خصوصا.
الدين كقيمة عليا في دولة علمانية…
قد يتصور البعض أنّ الحكومات الإسرائيلية التي حكمها العمل منذ عام 1948 وحتى عام 1977 ومنذ عام 1981 وحتى عام 2002 بالشراكة، كانت دولة علمانية قدّمت القيم الديموقراطية على القيم اليهودية، لكن الحقيقة أنّ ما ورثته المعسكرات السياسية الإسرائيلية من فترة “الييشوف” في التسوية والاتفاق بين الديموقراطية واليهودية، استمرّ بعد قيام إسرائيل عام 1948 وما زال الى يومنا هذا، مع تعرجات عبر الزمن حدثت في تلكم العلاقة، لكن المؤكد أن الدين بقي قيمة عليا وسمحت الحكومات المتعاقبة لدعاته ومدارسه بالتقدم والتطور وهو ما شكّل قاعدة هامة للهوية الإسرائيلية الشعبية العامة.
عمليا اعتمدت إسرائيل منذ قيامها بل ومنذ مراحل “الييشوف” على قاعدتين أساسيتين في تعريف الذات، ومن ثم فهوية إسرائيل قائمة على ركني الديموقراطية واليهودية، وفي سياقهما صراع فكري وعقدي حاد داخل المجتمع الإسرائيلي على اختلاف مشاربه، فمنهم من يقدّم الديموقراطية كقيمة علمانية على اليهودية، ومنهم من يقدّم اليهودية كقيمة دينية أو تراثية أو هوياتية على الديموقراطية، ومنهم من يوفّق بينهما معتمدا على إجرائيات الديموقراطية (انتخابات، حرية التعبير، المساواة …)، واليهودية كدين وكقيم يتم تذويتها مجتمعيا عبر الدولة ذاتها ومنظومات التدين القائمة فيها، والتي تسمح لها الدولة بالعمل شبه المطلق، سواء كانت أحزاب أو حركات أو مؤسسات أو أشخاص أو منظّمات، وتعاطت الحكومة الإسرائيلية مع مسألة تذويت يهودية الدولة لدى أفرادها القادمين من خلف البحار منذ قيامها، فقانون حق العودة الذي سنَّ عام 1950، منح يهود الشتات القادمين إلى إسرائيل، حق السكن والتملك والحصول على الهوية الإسرائيلية لهم ولذرياتهم، وقانون ساعات العمل لعام 1951 ألزم أن تكون الاستراحة وعطلة العمل يوم السبت، وذلك وفقا للتقاليد اليهودية المؤسسة على الديانة اليهودية. وقانون المحاكم الدينية لعام 1953 منح مكانة تشريعية وقانونية لتلكم المحاكم بصفتها محاكم تتعاطى مع الشريعة اليهودية. وقانون التعليم الرسمي لعام 1953 شدّد على تذويت القيم اليهودية والتراث اليهودي كقيم عليا يجب تنشئة الأجيال عليها. وقانون منع تربية الخنازير، المسنون عام 1963 جاء استجابة لمطالب التيار الديني الصهيوني والحاريدي وتبريراته أن إسرائيل دولة يهودية تحترم الشعائر والقوانين الدينية، وتتجلى تأثيرات اليهودية في قانون أساس التشريع لعام 1980 والذي يوجّه القضاة في المحاكم في حالة عدم وجود قانون واضح في القضايا الماثلة أمامهم، التوجه إلى التشريعات اليهودية لاستلهام الرأي منها. هذا غيض من فيض، أُشير إليه، لأبيّن للقراء الكرام، أن العلاقة بين المؤسسة الرسمية (الدولة) والحالة الدينية، علاقة تعاضدية، أثمرت مجموعات من التوجهات الدينية، كان من ضمنها التيار الديني الحاريديي الذي أراه تحديا ماثلا أمام المؤسسات الرسمية الممثلة للدولة، سواء كانت حكومات أو مؤسسات بحثية أو مؤسسات أمنية.
الوجود العربي الفلسطيني بعد النكبة، شكلَّ ولا يزال، معضلة سياسية وأخلاقية لدى صُناع القرار في إسرائيل، وفي تصوري دخول القائمة الموحدة إلى الشراكة الحكومية وبقاء التيار الحاريديلي، ممثلا هذه اللحظات، بمعسكري بن جفير وسموطريتش، خارج الدائرة الحاكمة ومتماهيا مع الليكود والتيار الحاريدي بشقيه السفارادي والاشكنازي (طبعا هناك مدارس حاريدية خارج الكنيست ترفض مبدئيا المشاركة في الحكومات المتعاقبة وتعتبرها لعنة على شعب إسرائيل وهناك مدارس وحاخامات ترفض المشاركة في السياسة من مبدأ خلاصي)، سيشكل راهنا ومستقبلا أحد أهم الأسئلة في سياقات السياسة-الأخلاق في جدليات العلاقة مع الأقلية الفلسطينية، وسيشكّل تحديات سياسيا- دينيا- أخلاقيا، للتيارات الإسرائيلية المختلفة في مسائل العلاقات مع الجوي وكيفية التعاطي معها (وهنا الحديث يدور في الأروقة الفكرية والبحثية وليس بالضرورة في الشارع السياسي والإعلامي باختلاف أنواعه، إذ تعتبر بدايات التغيير في أية منظومات في المختبرات الفكرية ممثلًا بحلقات العصف الذهني ومراكز التفكير وصناعة الأفكار والتخطيط الاستراتيجي، فليس بمستبعد أن تسقط هذه الحكومة غدا، أو أن تحدث ائتلافات جديدة تصبح الموحدة خارج المشهد السياسي الإسرائيلي الحاكم..)، وسيكون التيار الحاريديلي في حالة من المواجهة، ليس فقط معنا كفلسطينيين في الداخل الفلسطيني، بل ومع مجموعات قريبة من فكره وهو ما يتطلب من المفكرين والأكاديميين والمثقفين في الداخل الفلسطيني، إعداد إجابات وإحالات لتلكم اللحظة القادمة، وحتى لا يُقال أكلت يوم أُكل الثور الأبيض.