قراءة جديدة في تاريخ المعرفة البشرية ومستقبلها
“أنا أرى أبعد من الآخرين لأنني أقف على أكتاف عمالقة”. من المرجح أن إسحاق نيوتن كان يشير بهذه العبارة التي ترجع إلى عام 1676 إلى فضل العمالقة كوبرنيكوس وكيبلر وغاليليو في ما بلغوه من علم وبعد نظر.
ولا يعدّ نيوتن أول من تطرق إلى هذه الفكرة، فقد سبقه إليها الشاعر الإنجليزي جورج هربرت الذي قال في إحدى قصائده عام 1651 “قزم على كتفي عملاق يرى أبعد من الاثنين”. ويبدو أن هذه الصورة مشتقة من الأساطير الإغريقية إذ يحمل العملاق الأعمى أوريون خادمه سيداليون على كتفيه ليعمل كأعين له.
إن الوقوف على أكتاف العمالقة هو استعارة تعني البناء على الأفكار والاكتشافات العلمية التي توصل إليها كبار العلماء والمفكرين من أجل إحراز مزيد من التقدم العلمي والمعرفي. لم تمتلك هذه الفكرة قوة الدفع الذاتي الحقيقية إلا عقب اختراع الكتابة، وهو اختراع يمكن وصفه كأحد أعظم إنجازات الإنسان، فبفضل الكتابة أصبح بالإمكان حفظ التجارب والخبرات البشرية من الضياع، عن طريق تدوينهاـوتحويلها من ثم إلى وثائق منفصلة عن الأشخاص الذين عاشوها، وذلك يسمح لأشخاص آخرين بتداولها؛ يضيفون إليها ما هو جديد، وهكذا تتراكم الخبرات.
تاريخ المعرفة ومستقبلها
ويرجّح العلماء أن الإنسان الحديث ظهر قبل نحو 300 ألف سنة، وبدأ منذ ذلك الحين مراكمة الخبرات. كان هذا التراكم بطيئًا في الـ200 ألف سنة الأولى إذ اعتمد الإنسان على الإشارات والإيماءات في التواصل. وتسارع تراكم الخبرات مع ظهور اللغة وتطورها في الـ100 ألف التالية التي سنعدّها في مقالتنا هذه بداية التاريخ المعرفي للإنسان.
يتألف تاريخ المعرفة ومستقبلها في قراءتنا الجديدة من 7 مراحل سابقة وحالية ولاحقة، هي:
1) مرحلة التواصل المعرفي: وترتبط بظهور اللغة، ولا يوجد تاريخ دقيق متفق عليه لظهور اللغات، إذ يعتقد أنها تطورت تدريجيًّا، ويرجح العلماء أن السلوك اللغوي الحديث بدأ بالظهور منذ نحو 100 ألف سنة (نعوم تشومسكي).
2) مرحلة التراكم العمودي للمعرفة: وترتبط باختراع الكتابة في الألفية الرابعة قبل الميلاد مع السومريين والفراعنة، ومن ثم جاءت الأبجدية مع الفينقيين.
3) مرحلة الانتشار الأفقي للمعرفة: وترتبط باختراع الطباعة مع الألماني يوهان غوتنبرغ عام 1436م.
4) مرحلة الانتشار الآني للمعرفة (فور نشرها على الإنترنت): أصبح ذلك ممكنًا بدءا من توفر خدمة الإنترنت تجاريًّا في الولايات المتحدة الأميركية عام 1989م.
5) مرحلة انتشار المعرفة العابر للغات: بدأت الترجمة الآلية الفورية تحقق نجاحات مستمرة بفضل دمج الترجمة العصبية العميقة بالترجمة الإحصائية وباستخدام تقنيات التعلم الآلي (ML)، ويتوقع أن تصل إلى مستوى الترجمة البشرية بين عامي 2024م و2030م.
6) مرحلة المعرفة الكلية المباشرة: وتتمثل بزرع شرائح إلكترونية صغيرة جدًّا في دماغ الإنسان، مرتبطة بشبكة الإنترنت مباشرة، وهي عملية بدأت على نطاق محدود قبل سنوات قليلة، ويتوقع أن تبلغ مرحلة النضج عام 2040م على أبعد تقدير، من خلال “ربط قشرة الإنسان الدماغية، وهي القسم المسؤول عن التفكير، بالحوسبة السحابية”، وفق ما يراه العالم الأميركي ريموند كرزويل.
7) مرحلة التفرد المعرفي: وتتمثل في معالجة المعرفة الكلية المباشرة في دماغ الإنسان المزود بشرائح الذكاء الاصطناعي فائقة السرعة، ما سيولد معارف جديدة في كل لحظة (متوقعة بين عامي 2050م و2060م). ودمج الذكاء الاصطناعي بدماغ الانسان حاجة ملحة وفق ما يراه إيلون ماسك وإلا “لن يكون بوسع البشر التنافس مع الذكاء الاصطناعي المتنامي”، وسوف “يصبحون كائنات هامشية”.
ملاحظة: التوقعات المستقبلية مبنية على آراء العديد من المفكرين المستقبليين ونتائج عدد من الاستبيانات، منها الاستبيان الذي أعدّه معهد مستقبل الإنسانية في جامعتي أكسفورد البريطانية وييل الأميركية قبل سنوات وشمل352 من الباحثين في مجال الذكاء الاصطناعي.
تسارع مذهل
وأفضل طريقة للتعرف على سرعة الابتكارات والتطور البشري والمدى الذي ستبلغه المعرفة البشرية مستقبلًا تتمثل في رصد المسافة الزمنية الفاصلة بين كل مرحلة معرفية وأخرى، وهي على النحو الآتي:
المسافة الزمنية بين ظهور اللغة وظهور الكتابة 95 ألف سنة تقريبًا، وبين ظهور الكتابة وظهور الطباعة 5500 سنة تقريبًا، وبين ظهور الطباعة وظهور الإنترنت 550 سنة تقريبًا، وبين ظهور الإنترنت ونضوج الترجمة الآلية بين اللغات 50 سنة تقريبًا، وبين نضوج الترجمة الآلية بين اللغات وبلوغ المعرفة الكلية المباشرة 15 سنة تقريبًا، وبين بلوغ المعرفة الكلية المباشرة والتفرد المعرفي 15 سنة تقريبًا.
ومع بلوغ مرحلة التفرد المعرفي تدخل البشرية مرحلة “الإنسان المتفوق” أو ما بعد الانسان، وفق الرابطة العالمية لما بعد الإنسانية (Transhumanism)التي أسسها الفيلسوفان البريطاني ديفيد بيرس والسويدي نيك بوستروم عام 1998 كمنظمة غير ربحية مكرسة للعمل على إزالة العقبات أمام بروز ما بعد الإنسان “الإنسان المتفوق”.
وترتكز حركة ما بعد الإنسانية على آراء الفيلسوف البريطاني ماكس مور التي تنادي بتسريع تطوير الحياة الذكية إلى ما هو أبعد من شكلها البشري الحالي والحد من القيود المفروضة عليها، وذلك عن طريق العلم والتكنولوجيا.
وتبشر هذه الحركة (تعرف أيضًا باسم H+) بولادة ما بعد الإنسان وهو كائن متفوق أذكى بكثير من الإنسان الحالي، ومقاوم للأمراض، ولا تظهر عليه علامات الشيخوخة، بل يمكن أن تمتد حياته إلى آلاف السنين.
وبافتراض أن العلم والتكنولوجيا نجحا في توفير كل الأدوات اللازمة لترقية الإنسان إلى الصورة التي سبق ذكرها، فهل يتوقع أن ينال جميع سكان الأرض الدرجة نفسها من تلك الترقية المفترضة؟
إن استمرار النظام العالمي بوضعه الحالي لا يتيح توفير تقنيات الترقية للجميع، ما سيؤدي إلى بزوغ مرحلة جديدة من التمييز بين البشر تنقسم فيها الدول بل المجتمع الواحد إلى فئتين: 1) الإنسان الجديد المتفوق عقليًّا، 2) الإنسان الحالي المتخلف نسبيًّا، والسؤال هو: إلى أي نوع سينتمي أحفادنا المقيمون في البلدان العربية؟
أسهمت شعوب المنطقة العربية إسهاما كبيرا في إنجاز المرحلتين الأولى والثانية من مراحل المعرفة التاريخية، ثم أسهمت في تطوير الفكر الإنساني حتى سقوط بغداد بأيدي المغول عام 1258، إذ بدأت مسيرتها نحو التخلف التي لا تزال مستمرة حتى الآن. ومن المتوقع للبلدان العربية التي لا تباشر سريعًا في العمل على عكس المسيرة الحالية أن تبقى شعوبها ضمن فئة “الإنسان الحالي المتخلف نسبيًّا” (قد يطلق علية الإنسان النامي تلطيفًا).
إن احتكار الذكاء الفائق من قبل دول أو مجموعات معينة أو أفراد سيؤدي إلى بروز فكرة العنصرية من جديد، ولكن بمسوغات قابلة للقياس العلمي هذه المرة. فهل نشهد في المستقبل صراعًا بين من يملكون الذكاء الفائق والمحرومين منه؟ وهل سيدعم أفراد ومجموعات من فئة الإنسان فائق الذكاء نضالات الإنسان المحروم من ذلك؟
أخيرًا: هل التصورات السابقة عن المستقبل مبالغ فيها؟
ربما تجيب حكمة بيل غيتس التالية على ذلك “نحن دائمًا نبالغ في تقدير التغيير الذي سيحدث في العامين المقبلين، ونقلل من شأن التغيير الذي سيحدث في السنوات العشر القادمة”.
المصدر: الجزيرة