الردة عن الحرية: مصيدة القمح ودول الكرتون وجمعيات الشذوذ
توفيق محمد
كيف ولماذا تتفكك الدولة اللبنانية؟ كيف تفككت اليمن؟ وكيف تتفكك تونس؟ وكيف تفككت دول الربيع العربي؟ ولماذا تُحكم الجيوش العربية قبضتها على منفس الحريات العربية فتخنقها؟ لماذا هذه الردة عن الحرية؟ للإجابة على هذه الأسئلة، نسأل السؤال التالي: كيف حلّت أمريكيا فائض الإنتاج المحلي من القمح وجعلته مصيدة سياسية للأنظمة الكرتونية؟ كانت أمريكيا قد بدأت للتو بالخروج من عزلتها السياسية نحو الفضاء العالمي الذي منحها مكان الريادة العالمية لتستبدل بذلك المملكة المتحدة (بريطانيا) التي كانت الشمس لا تغيب عن مستوطناتها، وكان فائض القمح من الإنتاج المحلي في مخازنها كثيرا رهيبا لذلك كانت تلقي بهذا الفائض في مياه البحر حتى تحافظ على أسعاره من الهبوط، حيث في بطنه تتجمع كل الأسرار.
الخروج الأمريكي من العزلة بدَّلَ وجه الاستعمار الذي كان متبعا حينها، فبدلا من إرسال الجنود والمعدات الحربية المكلفة مالا وبشرا أصبح بإمكان الدول الاستعمارية استعمار البلاد والشعوب بأدوات باطشة من الجيوش والأنظمة المحلية، وتحويل الدول الناتجة عن سايكس – بيكو التي بدأت للتو (سنوات الاربعينيات والخميسنيات والستينيات) تنال استقلالها الرسمي إلى مستعمرات جديدة ومحميات أمريكية أو أوروبية ولاحقا روسية أيضا إذ أصبح هذا الوجه الإحتلالي سمة كل الدول العظمى.
كانت اليمن حتى سنوات الستين دولة ليست فقط ذات اكتفاء ذاتي يعادل 100% من القمح بل دولة مصدرة له، عندها دخلت دولة الاستعمار الحديث أمريكيا على الخط وقررت تحويل فائض قمحها إلى أداة استعمارية تتحكم من خلاله بالقرار السياسي لمحمياتها، فمن ناحية لا تلقيه في البحر وتخسره، ومن ناحية تستعمله أداة ضبط لتمرير سياساتها في المنطقة.
في أعقاب الحرب العالمية الثانية أرسلت أمريكيا ملايين أطنان القمح إلى اليمن تحت مسمى مساعدة من الشعب الأمريكي للشعب اليمني، ثم بعد ذلك طرحت قمحها في السوق اليمني بسعر زهيد جدا جعل المزارع اليمني يترك حقله الذي لا يستطيع أن ينافس القمح الأمريكي زهيد السعر ويتوجه إلى المدن ليبحث عن رزقه، ولما تمكنت من جعل قمحها السلعة الأساسية في البلاد رفعت الأسعار وبدأت تتحكم في مصدر الطعام الأول للشعب، ولما أرادت اليمن العودة إلى زراعة القمح وجدت نفسها مكبلة باتفاقيات دولية تمنعها من ذلك وقس على ذلك بقية الدول، أما السودان ومعظم الدول الافريقية فقد كانت تعتمد أصلا في غذائها على الذرة وليس على القمح، فأدخلت أمريكيا القمح إليها كمساعدات وبدأت مرحلة تغيير نمط الاستهلاك المحلي عبر مسمى المساعدات حتى تمكنت من رقاب الدول عبر هذه المصيدة.
مصيدة القمح التي لم تقتصر على اليمن والسودان، كانت إحدى مظاهر إحكام السيطرة على المحميات الامريكية والأوروبية في مخلفات سايكس- بيكو فمعظم الدول العربية تعتمد على المساعدات المالية الأمريكية والأوروبية، وتلك التي لا تعتمد على المساعدات المالية كدول الخليج فإنها تعتمد على الحماية العسكرية لأنظمة الحكم، وبعضها تعتمد على كليهما.
فإذا فهمنا هذا المخطط الأمريكي الدنس، فهمنا سر الانقلاب على إرادة الحرية للشعوب العربية التي ما أن تتقدم خطوة إلى الانعتاق من الظلم والتحكم بمصائرها من أنظمة العار، حتى تنقلب الجيوش العربية عليها وتعيدها إلى حظيرة الأنظمة العميلة مجددا، وقد تسمي هذه الأنظمة نفسها بأنها أنظمة وطنية أو قومية أو علمانية أو غير ذلك، لكنها بالتالي مرتبطة ارتباطا كليا بمن يقدم لها الدعم المالي ويمدها بأسباب الحياة.
ليس لان الوطن العربي فقيرا ولا يملك الموارد الطبيعية لإنتاج الثروة كغيره من الأوطان، بل لأن أجيالا من المضبوعين بـ “القمح الأمريكي” هي من تتحكم بمفاصل الوطن العربي كله، فجعلوا منها محميات أمريكية وأوروبية تعتمد السيولة المالية الأجنبية كمساعدات من أجل تسيير أمور الدولة، وفي اللحظة التي يمكن أن تفكر فيها هذه الدول برسم سياسات مستقلة عن سياسات “القمح” فإن رفع الدعم والمساعدات تكون بانتظارها، ثم إذا فكرت أن ترسم سياسات مستقلة وأن تقوم على تشجيع الناتج المحلي سيرا نحو الاستقلال الاقتصادي كما حاول أن يفعل الرئيس الشهيد محمد مرسي، فإن مفاصل الدولة من المنتفعين والمُصَنَّعين أمريكيا وبالذات الجيوش العربية التي أصبحت أدوات الاستعمار الأمريكي والغربي والروسي لإحكام قبضة الاحتلال على الوطن العربي، هذه الأدوات تنقلب عليه وتئد إرادة الشعوب والأمة، وتعود بها لـ”العلف” الأمريكي من جديد.
وعليه إذا أردنا فهم سبب الانقلاب سيء الذكر الذي أطاح من خلاله قيس سعيد الرئيس التونسي بالحكومة وبمجلس الشعب وبالنيابة ووضع كل صلاحيات الحكم، السلطة التشريعية والقضائية والتنفيذية في يديه وجب علينا فهم معادلة “القمح” (كلمة قمح ترمز للدعم المالي) الإماراتي المرتبط بالقمح الأمريكي الذي دخل على الخط وهو إحدى أدوات أمريكيا والصهيونية العالمية في الوطن العربي، وهي نفس المعادلة التي تفكك الدولة اللبنانية الآن.
لم يقتصر “القمح” الأمريكي والغربي على المال السياسي الذي به تتحكم بالقرار السياسي لمحمياتها، وإنما بدأ ضخ كميات كبيرة منه ومبالغ باهظة في العقدين الأخيرين نحو تدمير الحياة الاجتماعية والأسرية في الوطن العربي والإسلامي الذي بدأ يصحو من سبات، ومن أجل ذلك اُقيمت في الوطن العربي وفي بلادنا جمعيات الشذوذ الأخلاقي والجنسي بمسميات متنوعة ومختلفة لإفساد المجتمع الذي بدأت بوادر صحوته الدينية والأخلاقية تقلقهم وتهدد مراكز سيطرتهم العظمى، فأينما وجدت جمعيات تستعمل مصطلحات “المثلية” و ” الجندر” و”النوع” و” الانثوية” وترسيخ المصطلحات الأنثوية في محاولة لتغيير اللغة العربية من أجل تمرير برامج و “أجندات” الآخر فاعلم أنك أمام إحدى هذه الجمعيات التدميرية التي تسعى لتفكيك مجتمعنا من الداخل وهدم حصونه الأخلاقية تحت مسميات الحرية الجنسية، إنها معاول الهدم الأخلاقية التي تضمن لمعاول الهدم السياسية البقاء.
إن هدم حصون المجتمع الأخلاقية يعتبر الضمان لهدم حصونها الوطنية، ولذلك فإن كل جمعيات الشذوذ الأخلاقي التي بدأت تنشط في وطننا العربي الكبير والصغير يمكن تصنيفها في خانة الخيانة العظمى لأنها من تمهد لها، ولا يغرنكم استعمالها للخطاب الوطني ومشاركتها في بعض النشاط الوطني، فهي ربيبة المال الأمريكي والأوروبي ذو الأهداف التدميرية التي تسعى لتعرية مجتمعنا مما تبقى له من قيم ومبادئ واخلاق.
إن خلاص أمتنا من كل الظلم والعنت الذي تحياه لن يكون الا بخلاصها من كلا “القمحين” “القمح السياسي” و”القمح الاجتماعي”.