الصهيونية الدينية ومهمة حراسة المقدس… الآخر في الصهيونية الدينية… أقوال تأسيسية
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
استهلال..
مسألة الجوي (الأغيار من غير اليهود) وفقا للتسميات المتقدمة في الموروث اليهودي، ونيكر في الموروث الميكرائي- أي التناخ- حظيت على مدار مسيرة اليهودية باهتمام كبير وتناوله الحكماء والحاخامات في كتاباتهم وطروحاتهم الفلسفية والفقهية، ويكفي إطلالة على ما ورد في كتب التوراة في حق الانسان غير اليهودي أو في التلمود البابلي، لتتبين لنا الخلفية العقدية والأخلاقية لمعاني وفلسفة التعامل مع غير اليهودي، خاصة المسلم، وفي راهننا، المسلم الفلسطيني خاصة. ما كتبه أحبار اليهود في القرون الوسطى من أمثال الرامبام، والرمبان، وابن النغريلة وغيرهم.
في السنوات الأخيرة، تتعزز باستمرار القيم التوراتية في الحركة الصهيونية الدينية، وقادة هذه الحركة يغلبون باستمرار القيم والأخلاق التوراتية على حساب القيم والأخلاق الصهيونية العلمانية في جوهرها، ولقد طُرِحت علنا وبدون رتوش أفكارا ينادي بها حاخامات هذا التيار، تطالب بصبغ الحياة اليومية بقيم الدين اليهودي، وقد قاربت في طروحاتها إلى حد كبير طروحات التيارات الحاريدية، ووصل الأمر بقيادات هذا التيار الحديث دون مواربة عن أن المقاربات الدينية يجب أن تدخل في كل شأن من شؤون الحياة اليهودية، سواء على مستوى الأفراد او على مستوى المجتمعات أو الشعب اليهودي أو الدولة ذاتها، منطلقين من أن لكل سؤال ثمة جواب موجود في التوراة، وبالتالي فإن التيار الديني الصهيوني الحديث يسعى إلى التخلص من الأيديولوجيا الصهيونية العلمانية في سؤال العلاقة مع الفرد والدولة، ولكنهم يحافظون على نفس الموقف في سؤال العلاقة مع غير اليهودي. وفي حالتنا، مع الفلسطيني المسلم هذا الذي استولى على “أرض إسرائيل” الممنوحة لهم دينا وقضاء ووفقا لما يطرح في كتب العهد القديم (التاناخ) وما كتبه احبار ما بعد فترة التاناخ وفترة القرون الوسطى، فيما يتعلق في العلاقة مع الآخر غير اليهودي، فقد اختار أحبار الصهيونية الدينية الأقوال والآراء المتشددة الرافضة للجوي، بل وتلكم التي تنفي عنه صفة الآدمية، فعلى سبيل المثال لا الحصر في فتاوى قتل الجوي التي صدرت في كتاب “شريعة الملك” (تورات هميلخ) هو مصنف فقهي يهودي من تأليف الحاخام يتسحاق شابيرا ويوسف اليتسور (الكتاب صدر عام 2009) كان من ضمن اعتمادهم على فتاوى جواز قتل الجوي/ في حالتنا العربي الفلسطيني المسلم أثناء الحرب والسلم على ما أفتى به الحاخام موسى بن ميمون من مثل فتواه القائلة بحرمة انتهاك السبت مقابل انقاذ جوي. في راهننا الفلسطيني تأخذ فتوى الحاخامات اليهود في مسائل العلاقة معنا كمسلمين وكفلسطينيين يعيشون على أرضهم، طابعا دينيا صرفا يعتمد دائما أقوال الحاخامات من عصر الحزاليم -انظر لاحقا في متن المقالة- والعصور الوسطى، فضلا عن النصوص التوراتية والتلمودية، والهدف من ذلك تثبيت سلبهم للأرض بمسوغات شرعية (هلاخاتية) تؤسس القبول أولا في الشارع الإسرائيلي، إذ تهدف هذه الفتاوى أولا وقبل كل شيء التواصل مع اليهودي وتثبيته على هذه الأرض، التي عليها يدور صراع تجاوز المئة عام، وما زال الفلسطيني صاحب البلاد يطالب بها باعتبارها حقه المقدس.
ولذلك ثمّة صراع على المُقدس تتجلى معالمه بقوة في العلاقة مع الأرض، سواء كوطن قومي أو كوطن ديني خلاصي.
“البراديغم” الصهيوني..
لا تزال الحركة الصهيونية في طبعتها الراهنة تعتمد اليهودية كدين وبراديغم (الانموذج الفكري والإدراكي) لتحقيق ديمومة الوجود اليهودي على هذه الأرض، وفي العقود الأخيرة دخل على خط البراديغم، التيار الصهيوني الديني بمدارسه المختلفة، وقد تشكلت في السنوات الأخيرة (تحديدا منذ عام 2010 وحتى هذه اللحظات) نماذج حداثية من الصهيونية الدينية، كانت آخر طبعاتها حركة يمينا التي يقودها الثنائي الصهيوني الديني العلماني بينيت- شاكيد، وتحظى بدعم من حاخامات لها مكانتها في الصهيونية الدينية، وحزب الصهيونية الدينية اليميني الفاشي، والذي يقوده سموتريتش- بن جفير ممثل الكهانية في الدينية الصهيونية، وكلاهما يعتمدان فوقية وعلوية اليهودي بصفته “المختار” برسم التوراة التي منحته مكانة علية لأنه يعمل في دنياه على تطبيقها والعمل بمقتضاها. ووفقا للحاخام يهودا هليفي (يهودا ابن شموئيل هليفي المعروف في ادبيات الاندلس بأبي الحسن اللاوي عاش في العصر الذهبي ليهود الأندلس في الاندلس بين سنوات 1075- 1141) في كتابه هخوزاري (الكتاب في اللغة العربية معروف باسم: كتاب الحجة والدليل في نصرة الدين الذليل) وفيه حاجج بفوقية وخصوصية اليهودي برسم الأفضلية التي منحهم إياها الله تعالى بدين اليهودية وبكون الأنبياء منهم فقط (وبهذا اسقط نبوة المسيح ابن مريم ومحمد ابن عبد الله صلى الله عليهما ونفى عنهم النبوة، ولذلك نجد الجرأة عليهما في كتابات الحاخامات أمثال هذا الليفي والرمبام من الغابرين وأمثال عوفاديا يوسف من المعاصرين والراب دروكمان من أقطاب الصهيونية الدينية وغيرهم كثير) إذ بفضلها يتواصلون مع خالقهم ويعبدونه، وهذه الخصوصية الدينية التي تعمل الدينية الصهيونية المتجددة على تنفيذها في المجتمعات اليهودية عبر سياسات النفس الطويل التي بدأت بمداهنة الصهيونية العمالية، وآلت هذه اللحظات إلى توسيع رقعة التديين في المجتمعات الإسرائيلية (القبائل الإسرائيلية) لتحقيق ديمومة العلو والفوقية برسم يهودية اليهودي كما يرى الكثير من حاخاماتهم وبفضلها تكون مسائل الغفران الإلهي دائما حاضرة برسم يهوديته كمعطى ذاتي خاص به.
في السنوات العشرة الأخيرة، تعززت مكانة اليمين في إسرائيل سواء كان علمانيا أو دينيا وتوجهات غير ديموقراطية نلاحظها بوضوح في الحديث والخطابين السياسي والإعلامي، ومن نافلة القول على سبيل المثال لا الحصر أن استشهد في خطاب اليمين الديني الصهيوني والحاريدي والعلماني الذي يقودهم نتنياهو في معالجاتهم للحكومة الراهنة من منطلقات أنها يسارية، علما أنَّ ثلاثة أحزاب من الأحزاب السبعة المكونة للحكومة يمينية متشددة، وإن كانت علمانية، كإسرائيل بيتنا، أو تكفا حدشاه، ويمينية متدينة متعلمنة كالبيت اليهودي.
في عام 2016 نُشِرَ استطلاع للرأي، استمزج آراء الشارع الإسرائيلي حول مواقفهم السياسية والأيديولوجية والموقف من ترحيل العرب في الداخل الفلسطيني فكانت أجوبة 48% من المستجوبين انهم يؤيدون الترحيل (21% يؤيدون بشدة و27% يؤيدون من حيث المبدأ).
في العشريات الثلاثة الأخيرة، وتحديدا بعد تراجع حزب العمل الصهيوني الذي قاد البلاد منذ عام 1948- 1977 ثمة تقدم ملحوظ للتيارات الدينية الصهيونية، وتلكم ذات الصلة بالجماعات المتشددة الحاريدية في تخليق براديغم ديني صهيوني فيه الغلبة الفكرية والفلسفية للدين كما يراه دعاة هذا التيار من المتشددين، الذين يرون أن رؤيتهم للعلاقة مع الجوي المسلم الفلسطيني مختلفة عن الجوي المسلم العربي، سواء سكن هذا الجوي الإمارات أو المغرب أو موريتانيا، إذ تتمظهر بنائيات هذا الانموذج الفكري في استباحة دم العربي المسلم الفلسطيني، باعتباره مناكفا لا يملك قدرات تعينه على المواجهة ويدعي ملكية الأرض التي هي عين المُقدس في رؤيتهم.
الرؤية الحزالية
كاتب هذه السطور يعتقد أنّ العقدين القادمين سيشهدان سيطرة ونفوذا للتيار الكهاني على الصهيونية الدينية المتشددة، ليس بمعنى السيطرة التنظيمية فحسب، بل والسيطرة الفكرية والأخلاقية المستمدة من طروحات الراب كهانا والمنشورة في كتابه “أنوار الحكمة” الصادر عام 1972 (صدر بعد مقتله)، وفيه يؤكد على ضرورة طهورية الشعب اليهودي والخلاص من التواصل مع الجوي أي كان يعتبر أن الحياة المشتركة مع الجوييم هي عين الشر والسوء وهي سبب الخطايا والمآسي التي يعيشها اليهود في هذا العصر، وفي تصوراته وطروحاته رفض مطلق للفكرة الديموقراطية، وهو يقدس اليهودي ولا يعتبر الآخر أي الجوي آدمي أصلا، وتعتقد الكهانية أنَّ ثمة علاقة مقدسة بين اليهودي والأرض المقدسة “آيرتس هكوديش” باعتبار انهم يتمتعون بقداسة جوانية- روحانية تتماهى مع قداسة الأرض، مما يعني وفقا لهذا المنطق الكهاني حرمة أن يكون على هذه الأرض غيرهم وهذا يقتضي ترحيلهم وطردهم باعتبارهم وفقا لهذا المنطق نجس يدنسون هذه الأرض المقدسة، وهو ما يتطلب تطهيرها بكل وسيلة. وكهانا في كل تصوراته وطروحاته يعتمد النصوص التوراتية وليس أقوال الحزاليم والحاخامات.
الفكر الحزالي- الحازال بالعبرية חז”ל تعني القيادات الدينية والروحية والفقهاء الذين ساسوا أمر اليهود بعد انتهاء عصر الميكرا “التاناخ” وفترات الجلاء البابلي، وامتدت هذه الفترة بين القرن الثالث قبل الميلاد وحتى القرن السادس بعد الميلاد وعلماء وحكماء هذه الفترة هم المؤسسون الحقيقيون لليهودية التي نعرفها اليوم، إذ كافة الاجتهادات الدينية على مدار تاريخ الحراك اللاهوتي اليهودي اعتمد اقوالهم- خاصة في ثنائيات العلاقة مع غير اليهود ممن يسمون في لغتهم الجوي. فالحازاليون هم أول من اصطنع كلمة جوي وجوي شبات، والجوي مصطلح عام على غير اليهودي، وجوي شابات أي الآخر غير اليهودي الذي يعمل في السبت اعمالا لا يجوز لليهودي القيام بها (هنا أذكر القارئ الكريم والقارئة الكريمة بالآية رقم 163 من سورة الأعراف) على الرغم من أن ثمة نقاش بين فقهاء الفترة الحازالية حول جواز أن يعمل غير اليهودي في السبت لتحقيق أعمال لا يجوز لليهودي القيام بها، إلا أنّ هؤلاء العلماء لا يعتبرون الجوي آدمي أصلا، وقد تبنى هذه الفكرة الحاخام شمعون بار يوحاي الذي صمم وفلسف الموقف الشرعي من غير اليهود وقولبه في قوالب سلبية للغاية، أثّرت على الأدب الحزالي ومن يتبناه من حيث الموقف من غير اليهود، ولذلك لا عجب أن نجد من حاخامات المدرسة الصهيونية الدينية من يجيز قتل أطفال غير اليهود وسلب أملاكهم واغتصاب نسائهم في ساعات السلم فضلا عن ساعات الحرب.
وفي هذا السياق ثمة مدونات حزالية رسمت بشكل مريع الجوي، منطلقة من علوية الجنس اليهودي وطهوريته وفضيلته على باقي الأمم، إذ تعتبر باقي الأمم وثنية و”كافرة ” وعلى سبيل المثال لا الحصر، تعتبر أدبيات الحزال، المسلم وثني، ومن ثم فهو أقل قيمة وقدرا ومكانة وآدمية من اليهودي لأسباب كثيرة أشير في هذا السياق إلى واحدة منها تتعلق بعباداته، إذ تعتبر هذه الادبيات رمي الجمار في أثناء الحج والطواف بيان وحجة على أنهم عبدة أوثان وقد أطنبت هذه الادبيات في وصف الجوي، فقالت إنه لا يحترم الوصايا العشرة، وإنه عنيف ومجرم قاتل ومستبيح للدماء ومنحطون أخلاقيا ينتشر بينهم البغاء والخيانات.
والمدقق في حياة الإسرائيليين اليوم، يجد أنّ هذه الاوصاف أكثر ما تنطبق على الإسرائيليين، ولكن حاخامات الصهيونية الدينية لا يجدون حرجا في تجاوز هذه القضايا الواضحة في سلوكياتهم لصالح أنهم شعب الله المختار الذي يُغفر له ما تقدم من أفعاله وما تأخر.