ذكرى 3 شهداء تسابقوا لحبل المشنقة.. حكاية أبطال
من سجن عكا وطلعت جنازة
محمد جمجوم وفؤاد حجازي
وجازي عليهم يا شعبي جازي
المندوب السامي وربعوا عموما
محمد جمجوم ومع عطا الزير
فؤاد الحجازي عز الذخيرة
تلك قصيدة مرثية كتبها الشاعر الشعبي نوح إبراهيم، وتلك أغنية شدت بها فرقة “العاشقين”، خلدت ذكرى “الثلاثاء الحمراء” كما وصفها شاعر فلسطين إبراهيم طوقان.
عندما أبلغهم الجلاد الإنجليزي عن موعد تنفيذ الحكم لم يرتجفوا ولم يتلعثموا بل قاموا بإنشاد قصيدة الصحفي السوري نجيب الريس: “يا ظلام السجن خيم.. ليس بعد الليل إلا.. فجر مجد يتسامى”. وهي القصيدة التي لحنها محمد عبد الوهاب وغنتها فيروز فيما بعد.
خلدوا في تاريخ فلسطين والعرب في أكثر من مكان وموقع وعبر مرثيات وأهازيج تعانق الندى الذي يتساقط رويدا رويدا عن حبة برتقال في يافا، أو غصن زيتون يكاد أن ينكسر من الحمل، أو حجارة مرصوفة على جدار بستان من اللوز والليمون.
وكان فؤاد حجازي ومحمد جمجوم خريجين من الجامعة الأمريكية في بيروت، وعطا الزير كان عاملا، وترك الثلاثة خلفهم ثلاث رسائل مؤثرة مليئة بالتحدي والتصميم على الكفاح حتى وهم في طريقهم إلى حبل المشنقة، ثلاث رسائل، كانت أشبه ببيانات سياسية تدعو للاحتفال باستشهادهم.
ولد فؤاد حسن حجازي في مدينة صفد عام 1904، تلقى دراسته الابتدائية في المدينة ذاتها ثم الثانوية في الكلية الأسكتلندية، ودراسته الجامعية في الجامعة الأمريكية في بيروت.
أما محمد خليل جمجوم فهو من مواليد مدينة الخليل عام 1902، تلقى دراسته الابتدائية في الخليل وأكمل دراسته الجامعية في الجامعة الأمريكية في بيروت.
فيما ولد عطا أحمد الزير في الخليل عام 1895، وعمل في عدة مهن يدوية، وعمل في الزراعة، وعرف عنه منذ الصغر جرأته وقوته الجسدية.
الثلاثة شاركوا في الأحداث التي تلت “ثورة البراق”، وبدأت قصتهم عندما اعتقلت قوات الشرطة البريطانية مجموعة من الشبان الفلسطينيين إثر “ثورة البراق”، هذه الثورة التي بدأت عندما نظم المهاجرون اليهود مظاهرة ضخمة عام 1929 بمناسبة ما أسموها “ذكرى تدمير هيكل سليمان” أتبعوها في اليوم التالي بمظاهرة كبيرة في شوارع القدس لم يسبق لها مثيل، حتى وصلوا إلى حائط البراق، وهناك راحوا يرددون “النشيد القومي الصهيوني”، بتزامن مع شتم المسلمين.
وكان اليوم التالي هو يوم الجمعة الذي صادف ذكرى المولد النبوي الشريف، فتوافد المسلمون ومن ضمنهم جمجوم وحجازي والزير للدفاع عن حائط البراق الذي كان في نية اليهود الاستيلاء عليه، ووقعت صدامات عنيفة بين الطرفين.
لم تقف بريطانيا الدولة “المنتدبة” على فلسطين موقف المتفرج فعمدت إلى البطش بالمتظاهرين الفلسطينيين، فاعتقلت 900 ممن شاركوا في الدفاع عن حائط البراق، وحكمت على 24 منهم بالإعدام، لكنها خففت العقوبة إلى السجن المؤبد، مع إبقاء عقوبة الإعدام بحق محمد جمجوم وفؤاد حجازي وعطا الزير.
وكانت حصيلة أحداث ثورة البراق التي امتدت من الخليل وبئر السبع جنوبا حتى صفد شمالا 116 شهيدا و232 جريحا فلسطينيا، مقابل 133 قتيلا و339 جريحا يهوديا.
وكان من بين نتائج ثورة البراق الاحتكام إلى عصبة الأمم (اسم الأمم المتحدة وقتها) بناء على توصية “لجنة شو” اللجنة التي شكلتها الحكومة البريطانية للتحقيق في الأحداث، والتي حددت الفرقاء الثلاثة: الحكومة والعرب واليهود. وتشكلت اللجنة من ثلاث شخصيات غير بريطانيين خبراء في القانون، وهم: اليل لوفغرن، شارلس بارد، وس. فان كمبن.
وأقرت اللجنة أن للمسلمين وحدهم تعود ملكية الحائط الغربي باعتباره جزءا لا يتجزأ من مساحة الحرم الشريف، كما تعود للمسلمين ملكية الرصيف الكائن أمام الحائط وأمام المحلة المعروفة بحارة المغاربة المقابلة للحائط.
وأقرت اللجنة بأنه لا يجوز لليهود جلب أي أدوات عبادة أو وضع مقاعد أو سجاد أو كراس أو ستائر أو حواجز أو أية خيمة جوار الحائط لأنه ملك للمسلمين، بحسب تقرير اللجنة المقدم لـ”عصبة الأمم” عام 1930.
وحدد الإنجليز موعدا لتنفيذ حكم الإعدام بحق الفلسطينيين الثلاثة، الذين تحدى ثلاثتهم الخوف من الموت وتزاحموا للقاء ربهم بكل ثقة وإيمان بعد أن دافعو بصلابة عن قبلة المسلمين الأولى، فاستقبلوا زائريهم قبل إعدامهم بساعة، وأخذوا بتعزيتهم وتشجيعهم وهم وقوف بملابس السجن الحمراء، وتسابقوا من يكون الأول.
وفي يوم الثلاثاء 17 حزيران/ يونيو عام 1930، نفذ في سجن عكا، حكم الإعدام شنقا بحق الأبطال الثلاثة، وكان الشهيد محمد جمجوم ثاني الثلاثة رغم أنه كان مقررا أن يكون ثالثهما في تنفيذ الحكم، لكنه حطم قيده وزاحم رفيقه عطا الزير على الدور الثاني حتى فاز بمراده، فحطم قيده وتقدم نحو المشنقة رافع الرأس.
وكتب محمد جمجوم رسالة إلى الزعيم سليم عبد الرحمن في اليوم السابق لموعد الإعدام، فيما كتب فؤاد حجازي وصيته وبعث بها إلى صحيفة “اليرموك”، فنشرتها بخط يده وتوقيعه، وكتب عطا الزير قبل إعدامه رسالة لوالدته باللهجة العامية المحكية.
وكانت حياة سياسية قصيرة بالنسبة للشهداء الثلاثة، لكنها كانت تعادل عمرا بأكمله.
وبموقف واحد خلد الثلاثة وتناقلت الأجيال المتتالية حكاية مواجهتهم حبل المشنقة كما لو أنهم كانوا في طريقهم إلى عرس جماعي تحفه الأناشيد والأهازيج، وكانوا يتنافسون على من يتقدم رفاقه لنيل شرف الشهادة قبله.
وكأن التاريخ يعيد نفسه على مدة 72 عاما، هي عمر دولة الاحتلال، فالقدس والمسجد الأقصى شهدا ارتقاء مئات الشهداء واجهوا الموت بشجاعة توازي ما قام به شهداء “الثلاثاء الحمراء”، وكما وحد الأقصى الفلسطينيين قبل في ثورة البراق فهو وحدهم أيضا في قضية حي الشيخ جراح في القدس.
وكان الفلسطينيون يتجمعون خارج سجن عكا ومنهم أمهات الشهداء وشقيقاتهم يزغردن كلما شاهدن رفع العلم الأسود فوق القلعة التاريخية، دلالة على تنفيذ حكم الإعدام كما جرت العادة أيام الثلاثاء.
ولا تزال أمهات الشهداء على العهد يحتفظن بكل تفاصيل حياة أبنائهن، حتى ملابسهم وأحذيتهم وكتبهم وألعابهم وصورهم التي لا تغيب عن البال، فالقدس والمسجد الأقصى دائما في البال، والشهداء لا يغيبون، وكأن فلسطين قطعة من السماء، لذلك فهم حين يستشهدون يصعدون إليها.