بشريات من التاريخ
د. عبد الله ادريس
من يتتبع صفحات القرآن الكريم يجد ثلثه يتحدث عن تاريخ الأمم الماضية والصالحين والأنبياء، بل يجد الله تعالى يحثنا بشكل صريح على دراسة التاريخ واستخلاص العبر منه، قال تعالى: “فاقصص القصص لعلهم يتفكرون”، ليكون التاريخ درسا وعبرة لصناعة المستقبل. وهو الذي قال: “قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين”، فما من حادثة تمر بنا في هذا الزمان إلا وفي التاريخ أشباهها ومنهج التعامل معها، وفي ذلك يقول الله تعالى: “وتلك الأيام نداولها بين الناس”.
ذكر الله تبارك وتعالى في القرآن سننا في الكون والأمم السابقة والتاريخ لا تتبدل ولا تتغير، وبها يحكم خلقَه ويسير كونه، قال تعالى: “فلن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا”.
“الغلبة للقلة المؤمنة”
ومن هذه السنن التاريخية القرآنية قوله تعالى: “كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين” قد يعجب الناس لها ويستغربون، لكن التاريخ يحدثنا عن ذلك:
فهذه غزوة مؤتة التي خاضها المسلمون ضد جيش الروم، وكان المسلمون يومها ثلاثة آلاف مقاتل مقابل مئتي ألف مقاتل روماني. وهذه غزوة تبوك أيضا ضد الرومان كان المسلمون فيها ثلاثون ألف مقاتل بينما أعداد جيوش الروم النظامية فاقت المليون، أبى الله تعالى إلا أن ينصر القلة الصابرة المؤمنة على الكثرة بـ “الرعب” ألقى الله في قلوبهم الرعب من المسلمين وانتصر المسلمون عليهم، وفي ذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: “نصرت بالرعب مسيرة شهر”.
بربكم، أليس ذات الأمر قاله الله عن يهود بني النضير: “وقذف في قلوبهم الرعب”؟! قبل أيام شاهدنا المقطع المصور لجندي من جنود إسرائيل وهو يجر جرا إلى القتال على حدود غزة، فخاف أن يركب الحافلة التي تنقل الجنود إلى هناك وهم يجبرونه على الذهاب وهو خائف يقول: “هذا شعب بخفش من الموت أنا خايف على حالي”. إنها قوة الإيمان والثبات على الحق في وجه الظالمين هو أهم عوامل النصر من الله تعالى، “يأيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون”.
وهذه الدولة الرومانية التي كانت الدولة الأولى في العالم وتضم بين طياتها من دول العالم المعاصر أكثر من خمسة عشر دولة ابتداء من الجزائر مرورا بتونس وليبيا ومصر وسوريا ولبنان والأردن وفلسطين وتركيا وبلغاريا وألبانيا واليونان وأجزاء من رومانيا، ومناطق شاسعة حول البحر المتوسط، وعدد جيشهم النظامي فقط أكثر من مليون جندي، غراها أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوم أراد فتح الشام بجيش قوامه واحد وعشرون ألف مقاتل مقسم على ثلاثة أقسام.
“لا يعمر فيها ظالم”
ومن هذه السنن التاريخية: “أرض فلسطين لا يعمر فيها ظالم” اجتاحت بلادنا سبع حملات صليبية في أطول حرب عرفها تاريخ الإنسان لمدة 170 عاما بين سنة 1099م حتى سنة 1271م، وشاءت إرادة الله تعالى أن ينتصر المسلمون على جميع هذه الحملات الصليبية. بل لما كانت الدولة الرومانية زعيمها هرقل محتلة للقدس وبيت المقدس انتصر عليهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومها وجاء عمر إلى القدس ليستلم مفاتيح القدس من أسقف القدس صفرونيوس، جاء عمر إلى الشام مع غلامه دون موكب مهيب، واتفق مع غلامه في سير هذه الرحلة أن يركب عمر تارة ويجر الغلام دابته، وأحيانا يجر عمر الدابة ويركب الغلام، حتى وصلا إلى منطقة الجابية، وعند وصوله إلى الشام عارضته مخاضة (ارض فيها ماء وطين) وكانت نوبة الغلام في ركوب الدابة وعلى عمر أن يمشي فحمل نعليه ووضعهما تحت إبطه وأمسك بالدابة وسار في المخاضة، فلما رآه صفرونيوس أسقف القدس قال له: “إن دولتكم هذه باقية على أبد الدهر فدولة الظلم ساعة ودولة الحق باقية إلى قيام الساعة” وفتح عمر القدس وحررها من أكبر جيش عالمي يومها.
وهذه جيوش التتار المغولي هزموا على أرض غزة فلسطين على يد سيف الدين قطز وبيبرس. وفي نظرة إلى نصوص السنة النبوية يبشرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن أعداد المسلمين ستتزايد في الأرض وسيهاجر إليها المسلمون فرارا بدينهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ستكون هجرة بعد هجرة فخيار أهل الأرض يومئد ألزمهم مهاجر إبراهيم”، وفي المقابل فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرنا عن أتباع المسيح الدجال فيقول: “ويتبعه سبعون ألفا من يهود أصبهان عليهم الطيالسة” وأصبهان مدينة إيرانية لا يزيد عدد اليهود فيها اليوم عن ثلاثة آلاف يهودي، مما يعني أنهم سيهاجرون ويكثر عددهم في أصبهان حتى يكون منهم سبعون ألفا يتبعون الدجال، ولعل فيه بشارة بخروجهم من أرض الأنبياء فلسطين، فلا يعمر فيها ظالم.
في هذه الأيام ينبغي على المسلمين أن لا يبتعدوا عن دراسة تاريخهم المجيد الذي هو مصدر الأمل المنبعث لهذا الواقع المعيش. فالأمة التي تنأى عن تاريخها لا مستقبل لها، ولذلك نجد كثيرا من الغرب يزورون التاريخ ليعظموا قيمتهم في الدنيا ويحافظون عليه عند الأجيال، يقول الدكتور راغب السرجاني: “زرت إسبانيا ورأيت في أحد المتاحف تمثالا لأحد السفاحين في تاريخها، قتل ثلاثين ألف مسلم مدني، ومع ذلك يقيمون له تمثالا ويزورون التاريخ ويجملون تاريخهم ويحافظون عليه عند الأجيال”.
“استفادة غير المسلمين من تاريخنا”:
في الوقت الذي ينغمس المسلمون بدنياهم وماديات الحياة ومتطلبات العيش من الطعام والشراب يتشرب غير المسلمين تاريخ الأمة الإسلامية المجيد ويكرسون أوقاتهم للاستفادة من هذه التجربة المؤيدة بتأييد الله تعالى.
في عام 1948 قال الجنرال يغائيل يادين، الرئيس الثاني لأركان الجيش الإسرائيلي، متحدثا عن كيفية ضرب إسرائيل للجيش المصري وكتب ذلك في مجلة الجيش الإسرائيلي: “أنا قرأت التاريخ وتتبعت كيف دخل صلاح الدين أرض فلسطين فوجدت أنه دخلها من باب غير باب غزة المشهور، وجدت أنه دخلها من باب بئر السبع” الجيش الإسرائيلي بحث عن الطريق الذي مشى فيه صلاح الدين، فهو يقرأ تاريخ ألف عام، فدخل الجيش الإسرائيلي من بوابة بئر السبع واستطاع أن يدرس سلاح الإشارة في الجيش المصري الذي دخل من بوابة غزة يومها، وضربوا سلاح الإشارة في الجيش المصري فانفردوا بكل على حدة وهزموهم.
وهذا الجنرال اللمبي قائد الجيوش الإنجليزية قرأ التاريخ الإسلامي وقال يوم دخل أرض فلسطين عام 1914 وعبر من مصر داخل فلسطين حتى وصل إلى مجيدو: “إن الذي يمتلك هذا الممر يستطيع أن يفتح أرض فلسطين”.
وهذا ماوتسي تونغ قائد صيني شيوعي في حوار مع أحد قادة العرب سأله: كيف تحررون فلسطين؟ وبماذا تحمسون جنودكم؟ قال: نحمسهم بالعودة إلى أرض الأجداد والعروبة وأنها أرض السلف وأرض كذا وكذا. فقال: أخطأتم، بل يجب عليكم أن تحمسوا جنودكم بالجنة، قرأت التاريخ الإسلامي وعرفت أنكم لم تنتصروا في موقعة إلا إذا حفز جنودكم بالجنة، وبغير ذلك تنالون الهزيمة.
وفي هذا الزمان فإن أكبر من يقرأ التاريخ الإسلامي بحذافيره هي المؤسسة الإسرائيلية، ولا أظن أن الحرب على غزة اليوم إلا ولها امتداد تاريخي، فهذه غزة التي لم يستطع شمشون الجبار دخولها ولم يستطع احفاده دخولها ولا حتى حدودها في ثلاث حروب طاحنة، بل تقول عنه التوراة اليوم أنه كان يقتل كل يوم عشرة آلاف من أبنائها ومع ذلك لم يفلح.
وهي غزة التي يعلم اليهود علم اليقين أن التتار المغولي الذي اجتاح كل الشرق الإسلامي ودمر بغداد ووصل إلى الشام حتى قيل: “اذا قيل لك ان التتار يمكن أن يهزموا فلا تصدق” وإذا بغزة تصمد امام التتار وتهزمهم في معركة غزة الشهيرة التي كانت في شهر تموز سنة 1260م. الأمر الذي أدى بعد ذلك بشهرين إلى انتصار المسلمين في نفس العام في معركة عين جالوت، ولما طار الخبر في أرجاء البلاد الإسلامية أن المسلمين في غزة انتصروا على التتار المغولي تحمس أهل دمشق وحلب وغيرهم وانتفضوا ضد التتار وانتصروا عليهم، مما أدى إلى توحيد مصر والشام دولة إسلامية واحدة على يد القائد سيف الدين قطز، والبداية كانت من غزة.
انظر كيف كان الانتصار من غزة سببا في توحيد مصر والشام، هو نفس الأمر الذي قاله وزير الحرب الإسرائيلي بنيامين بن أليعازر يوم سقوط حسني مبارك: “أخشى أن لا يكون ربيعا عربيا بل شتاء إسلاميا عاصفا” بعد ما رأى ثورة الشعب المصري على حسني مبارك.
هي غزة التي انتصرت على الفرس يوم لحقوا نبوخذ نصر ملك بابل وهزموهم، وهي التي لم يستطع الاسكندر المقودني اجتياحها، وهي التي هزمت هيرودوس الروماني.
وكيف تهزم وهي التي قال فيها النبي في آخر الزمان: “وإن أفضل رباطكم يومئذ عسقلان”.
لأجل ذلك كله قال لهم يوما عوديد شالوم الكاتب الإسرائيلي في صحيفة يديعوت أحرونوت: “لا يمكن الانتصار على حماس في غزة/ فغزة مثل الفيتنام وحماس مثل الفيتوكنغ” يقصد المقاومة الشعبية هناك ضد الغزو الأمريكي.
أيها الناس: ثقوا بوعد الله لكم في هذه البلاد التي لا يعمر فيها ظالم، والتي قال فيها سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم: “إن الله تكفل لي بالشام وأهله” ومن تكفل الله به فلا ضيعة له”.
“فستذكرون ما أقول لكم” فأبشروا وأملوا.