بيـــن القدس، باب العــمود ويافا.. روايــة أخرى
صالح لطفي-باحث ومحلل سياسي
هبة باب العمود استدعت سيلا من التحليلات السياسية من أطراف فلسطينية وعربية وأجنبية، ومن مؤسسات وازنة دارت رحاها حول مركزية القدس وتأثيراتها السياسية العابرة للقوميات ولدويلات سايكس بيكو، فضلا عن تفصيلات داخلية لساكنة القدس وتعلق أحوالها بهذه الهبة. واحتفت عديد القوى العربية والإسلامية والقومية بهذه الهبة، وشهدت أدوات التواصل في منطقتنا العربية سيلا من المقالات والتغريدات والمنشورات تتباهى بهذه الهبة وتتنسم من خلالها رياح الحرية والكرامة، وهو ما يشير إلى تشوق أمتنا من محيطها إلى خليجها الى الحق والحرية والكرامة والعدل والعدالة، وهذا بحد ذاته مهم بذاته ولغيره.
العديد من المحللين ربط بين الانتخابات التي تم تأجيلها في مناطق السلطة والقطاع، وبين أحداث القدس وما يجري في القطاع واستغلال الفصائل للهبة لتحصيل مكاسب سياسية، وذهب آخرون إلى المناداة بترك القدس بعيدًا عن شطط الساسة وتجاذباتها فلسطينيا، والعديد من المحللين من الإسرائيليين وغيرهم تحسّب من تدهور الأوضاع على الجبهة الجنوبية وما سيجره من مواجهات دامية مكلفة للقطاع ولمركز وجنوب البلاد، والتلميحات والتصريحات من أطراف مقربة من طرفي الصراع، المقاومة وإسرائيل، أنهم ليسوا معنيين بحرب ومواجهات ذلكم أن كل الخطوات في منطقتنا باتت محسوبة ومقدّرة، وواضح أن ملف القدس سيدمر كل تلكم الحسابات، فيما تحسب آخرون من صناع القرار والمقربين منهم، من أن تتحول المواجهات في القدس إلى مواجهات ذات بعد ديني تستدعي عندئذ الضمير الديني عند الفلسطينيين والعرب، وهو ما سيهدد عروش الحكام العرب، خاصة وأنّ من يضرب على دفع الكراهية والعنصرية وقتل العرب هم أطراف دينية يهودية، وهو ما سيدفع البعد الديني بين المسلمين إلى الواجهة مجددا.
كل ما ذُكر وحُلل صحيح وهو محط نظر وفهم عميقين لقراءة تدحرج كرة الثلج المقدسية، التي باتت تشكل وبحق بارومتر الحالة العربية والصراع الفلسطيني الإسرائيلي فيما تبقى منه، إذ بعودتها إلى المشهد والساحة من جديد، تعيد القدس القضية الفلسطينية إلى ألقها وتضعها في نصابها الصحيح، ليتأكد المؤكد أن القدس وفي القلب منها المسجد الأقصى المبارك، روح القضية الفلسطينية، وأنها تسكن في ضمير كل فلسطيني، فهي الإجماع الفلسطيني المخترق للأيديولوجيات وللطوائف وللسياسات في الحالة الفلسطينية.
بين يافا والقدس..
ثمة علاقة بين القدس ويافا، فكلاهما مدينتان فلسطينيتان أخذتهما النكبة على حين غرة، فقطعت تطورهما المديني والحضاري، وإذا كانت يافا قد انتكبت مرة، فإنَّ القدس نُكِبّت مرات عام 1948 وعام 1967، ومنذ نكبة عام 1948 والاحتلال الإسرائيلي يستهدف المدينة المُقدسة بشرا وحجرا وتاريخا، تماما كما فعل في مدينة يافا، والحسابات التي على ضوئها تؤسس المؤسسة الإسرائيلية سياساتها ما زالت سارية المفعول تتلخص بتهويد البلاد: تهويد المكان والزمان، ومنطقهم الذي يحكمهم المقولة المشهورة: أرض أكثر وعرب أقل، وهو ما يذكرنا بسياسات التفكيك الداخلية التي تستعملها المؤسسة الإسرائيلية للإجهاض على كل محاولات بناء الذات الإسلامية والقومية والوطنية، ولقد ذكَّرنا بهذه القاعدة النائب الصهيوني-الديني بتسليئيل سموتريش في جلسة قائمته البرلمانية يوم الاثنين الماضي، عندما قال إن “العرب مواطنون في دولة إسرائيل حاليا على الأقل ..” مبينا أن الترانسفير مازال قائما، بل ويمثل صلب الفكرة الصهيونية-الدينية.
الصراع في مدينة يافا يدور على هويتها ووجودها، كما الصراع على ساكنتها ومساعي تفريغها منهم، تماما كما القدس، فالمؤسسة الإسرائيلية وعبر ذراعها “التنفيذي غير الرسمي” ممثلا بالمستوطنين، يزحفون إلى مدينتي القدس ويافا حيث الوجود العربي، لخلق مسمار جحا، تمهيدا لتنفيذ سياسات الطرد البطيء والمنظم المبني على سياسات التضييق والتحرش والقمع والتفكيك وتهويد الحيز وتحويل من يتبقى فيه إلى مجرد أدوات وعبيد في قصر السيد. فكما أن الاحتلال سعى لتدمير البنية المجتمعية في يافا عبر إفساد الشباب وتدميرهم سلوكيا وأخلاقيا وإغراقهم في عالمي المخدرات والرذيلة، حتى تسهل طرق التغول ومصادرة الأرض والحضارة والمكان، تماما يفعل في مدينة القدس وظنّت المؤسسة للحظة بأن سياساتها نجحت في ذلك، وأن مسألة قطف ثمار تلكم الجهود قد قاربت، خاصة وأن ملف القدس والاقصى بات تحت سيطرة التيار الديني الصهيوني في إسرائيل، فإذا هي تصطدم بشباب مستوعب لحجم الإشكال الذي يعيشه مجتمع الوافدين المستوطنين، بل ومستوعب لحجم الكراهية المبثوثة لدى أجيالهم المؤدلجة التي تم تفريخها وتربيتها تربية عنصرية فاشية في بؤر الاستيطان والمدارس الدينية وحلقات التربية السياسية الحزبية والتربوية-التعليمية، لذلك رأينا شباب يافا والقدس تواجه عصا الاحتلال بصدر مفتوح وبكرامة عالية لم يعشها عرب ما بعد الغارة على ربيعهم، وقد تجلّت معالم هذه المواجهة في ظل استعداداتهم لمواجهة مستقبلهم الذي تحسمه هذه اللحظات مجموعات من المتطرفين الذين باتوا يتحكمون في سياسات الجغرافيا- السكان في القدس ويافا.
كلمة السر..
كلمة السر بين يافا والقدس هي النكبة.. النكبة وتداعياتها والتي من تجلياتها الراهنة مساعي المستوطنين المدعومين حكوميا من التغلغل في جسد تلكم المدينتين تحت حماية وسطوة البوليس والمخابرات.
لقد سعى الاحتلال الإسرائيلي في القدس للسيطرة المطلقة على ساحة باب العمود، ليس من أجل النظام بقدر ما يتعلق الامر بتهيئتها كبؤرة استيطانية تقع تحت سيطرة المنظمات الفاشية الإسرائيلية، وعادة ما تستغل المؤسسات ذات الشأن الإسرائيلية الأحداث لفرض سياساتها، أو جعل تلكم الاحداث فتاشات لسياسات اشد واخطر تتعلق بردود الأفعال وحجمها، فالاحتلال من هذه الناحية أراد السيطرة على باب شرياني للبلدة القديمة وللمسجد الأقصى المبارك، وبالسيطرة عليه كإغلاقه على غرار باب المغاربة، يكون الاحتلال قد شرع بنفيذ سياسة الكماشة التي يعتمدها منذ عدة عقود بحق البلدة القديمة والمسجد الأقصى، فبعد فصل القدس عن الضفة الغربية وبعد فصل القدس القديمة عن احيائها وبعد تأسيس العديد من البؤر الاستيطانية داخل البلدة القديمة وبعد سياسات القضم والتضييق والاخلاء داخل البلدة القديمة، إمّا بالعربدة والعسكرة والاستيلاء، وإمّا بضرب شبابها أخلاقيا وتمدد المتطرفين في احيائها، كمقدمات لتغيير وجهها الحضاري، آن الأوان للتحكم المطلق بمداخلها وقريب من هذا يحدث في مدينة يافا “المنكوبة” فقد عمدت المؤسسة إلى دفع مستوطنين الى مدينة يافا بهدف تغيير وجهة البلد وهويتها ومن ثم لإخلائها عبر دفع السكان للهجرة منها.
لم يكن توقيت أغلاق ساحة باب العمود امام المصلين عفويا تماما كما أن مواجهات مدينة يافا مع سوائب الشرطة وحرس الحدود والمتطرفين لم يكن كذلك عفويا. بل ثمة خيط دقيق يربط بينهما مرتبط بعمق المأساة التي تعيشها المدينتان، إنها النكبة وما خلفتها من جراح وتداعيات لا تزال قائمة يُضاف إليها سياسة القتل البطيء للجغرافيا وللإنسان.
هذا التحليل لا يبعد النجعة عن جوهر الصراع المتعلق بالوجود وبجذره، فالاحتلال يمارس سياسات الاحلال من منطلقات دينية وباتت الأبعاد الدينية ثاوية في أنفاس المجتمع الإسرائيلي، وبات التيار الديني الصهيوني والحاريدي يسيطران تقريبا على المشهد السياسي ويتغلغل التيار الديني الصهيوني في مفاصل الحياة الإسرائيلية تغلغلا لا تخطئه عين المراقب.
المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تقوم بعمليات جس نبض بين الفينة والأخرى لتتفهم جهوزية الشارع العربي وكيف يتعامل مع هذه الفتاشات التي عادة ما تكون خلفها سياسات وإجراءات تفرض واقعا جديدا، ولعل ما حدث في باب العمود من تلكم الفتاشات التي تفحص فيها المؤسسة الأمنية عدة قضايا مجتمعة وتفككها بناء على سلم مقاصدي خاص بمصالح الاحتلال استراتيجيا. والقدس عادة ما تكون تلكم الفتاشة على المستويين الفلسطيني والعربي والإسلامي وقد تشجع الاحتلال في رمي عديد الفتاشات بعد تورط دول عربية كالسودان والامارات في التواطؤ ليس على القضية الفلسطينية، بل وعلى القدس والمسجد الأقصى، وبالتالي سمح الاحتلال لنفسه خاصة بعد الردة الرسمية على الربيع العربي والحرب السافرة التي تعلنها أنظمة سايكس بيكو على الشعوب العربية، لفحص عديد السناريوهات المتعلقة تحديدا بالقدس وكانت حادثة باب العمود وإغلاقه لفحص استعداد الشباب المقدسي لتقبل مثل هذا الإجراء ولفحص موقف دول عربية والموقف الفلسطيني برمته، كما سعت لجس نبض الشارع في الداخل الفلسطيني.
فوجئ الاحتلال من صلابة وصرامة وجلادة الشباب المقدسيين واستعدادهم لمواجهة سوائب الفاشية المتطرفة المنسوبة للصهيونية الدينية وللحاردية المتصهينة التي تتطرف مواقفها وتتوحش في تصرفاتها عندما تكون تحت الحماية المباشرة وغير المباشرة، وفوجئ من منسوب الشجاعة، سواء في مواجهة الشرطة الإسرائيلية ومركباتها المختلفة، أو المستوطنين من مجموعات لهفا وكاخ وغيرهم، وفوجئ الاحتلال من حجم النَفَس الديني والقومي العربي لدى هؤلاء الشباب الذي أنشدَّ للسوريين ولكل المظلومين ليتحول الشباب المقدسي مثالا جامعا ومُذّكِرا بحقوق المستضعفين في منطقتنا، وكانت الثالثة ردود فعل اليافويين المحتقنين أصلا من تعامل السلطات والشرطة معهم على أساس فاشي وعنصري في ظل سياسات الحصار المفروضة على السكان واستجلاب العملاء مقابل مساعي تفريغها من ساكنتها، وكما أن الرصيد الديني والشعور القومي العربي كان عاليا في القدس، كذلك كان عاليا في يافا وهذا يعيدنا إلى المربع الأول، ومفاده أن الحقوق لا تموت بالتقادم وإن سرقها الطغاة والبغاة وساعدهم عليها الأباطرة المُعاصرون.