الداخل الفلسطيني بين عبيد القصر وعبيد البيدر (2)
صالح لطفي-باحث ومحلل سياسي
تتسارع الأحداث داخل الحلبة السياسية الإسرائيلية، ومعالم صراع بين سكان القصر من الإسرائيليين ساسة وحاخامات ومتنفذين سياسيين ورأس مال منزعج من الأحداث، تشي أننا على مقربة من أحداث جسام سياسية داخل القصر، ستدفع إلى مزيد من الاحتقان بين ساكنته والعبيد، سواء الخدمة داخل القصر أو خارجه ممن يعملون في الحقل، إمّا كحراس للسيد أو تبع له ينفذون سياساته لبقاء حالتي الافتقار والعبودية.
في الوقت الذي تشمر مؤسسات بحثية إسرائيلية، كالمركز الإسرائيلي للديموقراطية، والكونغرس الإسرائيلي، ومركز دراسات الامن القومي وغيرها، عن سواعدها للبحث عن طُرق إبداعية تخرج ساكنة القصر من حالتي انسداد الأفق السياسي وتداعياته الاجتماعية-المجتمعية والاثنية-الدينية، يمارس الساسة العبيد سواء من هم داخل القصر أو حراسه من الخارج، ممن يدعون لخدمة السيد عبر وسائل متعددة من مثل الخدمة المدنية، على سبيل المثال لا الحصر، سياسات الانبطاح والتزلف للسيد، وهذا التزلف شرع يأخذ منحنيات متعرجة ومختلفة منذ أن أوصوا على غانتس، ليتولى رئاسة الحكومة وتشكيلها ومعلوم انه رفضهم وأخرجهم عن الاجماع القومي “الصهيوني”.
نتنياهو ومعه حزبه والتيار الحاريدي، شرعوا في العمل للتحضير لانتخابات مباشرة لرئيس الوزراء، وهم يعلمون أنّ هذا المقترح لن يمرر في الكنيست لأسباب قانونية وأخرى تتعلق في الترتيبات المُستجدة داخل الكنيست، إن على مستوى اللجان أو الرئاسة، وذلك كله للخروج من الانسداد السياسي الذي يعيشه ساكنة القصر، ولن يطول اليوم إن استمرت هذه الأوضاع ليصل إلى اتباعهم في مجتمعهم العريض المفكك سياسيا واخلاقيا واجتماعيا وبدت عليه ملامح الإرهاق والنَصَبْ، والحقيقة الكامنة وراء هذه المحاولات تقول إننا أمام حزب حاكم شرع يفقد السيطرة، فعمد مسرعا نحو تعميد “كما التعميد المسيحي” رئيسه ليكون الرئيس الملهم الذي يقود البلاد، وليس بحاجة إلى مؤسسات دولة، إذ يكفيه رئيس الموساد والشاباك وقائد هيئة الأركان والمستشار لشؤون الامن القومي، تماما كما الحالة العربية الاستبدادية، وبذلك تكون ساكنة القصر قد تشربت بعضا من أخلاق ساكنة قصور دويلات سايكس بيكو لتكون “إسرائيل” فعلا دولة شرق أوسطية بامتياز، محكومة من طبقة/مجموعة اوليغاركية ممسكة بعصب الاقتصاد وشريان الحياة الإسرائيلية، مما يستدعي سؤال الاخلاق والسياسة ومقامات العدل ليس في شأن المجتمع الإسرائيلي، بل بما يتعلق بنا نحن أبناء هذه البلاد، حيث تحاول ساكنة القصر ومن معهم من ارتضوا العبودية تدجيننا عبر سيولة اقتصادية وإحلالية تتجلى بعض معالمها في جعلنا عبيد السوق، سوق الاستهلاك أو كما يصفنا البعض، عبيد السوبرماركت الخاضعين للاوليغاركية الجدية في حقل العبيد. ولتوضيح المعنى فالأوليغاركية “Oligarchy” هي حكم القلة ذات الصالحيات شبه المطلقة. وقد تكون هذه المجموعة أقلية اقتصادية مترسملة بسب علاقات ونفوذ سلطوي وقد تكون في حالتنا المخصوصة في الداخل الفلسطيني، أو جماعة ضغط، أو أقلية عرقية، أو دينية، أو أية أقلية مجتمعية تجمعها روابط تنظيم سياسي، يهدف إلى السيطرة واستثمار تلكم السيطرة للكسب المادي، وفي الحالة الإسرائيلية ومعادلات القصر والعبيد فإن الاوليغاركية تتمثل في مجالس إدارات الشركات الكبيرة والمتنفذة والممتدة داخل الدولة، وتجمعها والعديد من المؤسسات والساسة والبرلمانيين مصالح مشتركة، ولها داخل الكنيست لوبيات، ومن يعبرون عن سياساتها ويهتمون بتمرير مصالحها عبر سن القوانين لصالحها أو عرقلتها في حالات إلحاق الضرر بها. وهي حالة تعبر عن المجتمعات الرأسمالية والصيرورات السياسية الحادثة داخلها من جهة، والتحولات نحو التوحش والتغول المُمَارس من قبل هذا الشركات/ المجموعات لتحقيق أكبر قدر ممكن من الكسوبات المادية التي تتحول الى أداة سيطرة على “القطيع”، للسيطرة على المجتمع الإسرائيلي بكل قطاعاته وذلك لبقاء مجموعة الأسياد في القصر، وأيضا للسيطرة على العاملين في الحقول لدوام عبوديتهم عبر الانفتاح المادي عليهم، وتعبيدهم لهذا الانفتاح ممثلا بقدر كبير من اليُسر الاقتصادي الميسر من طرف البنوك أحد أهم أدوات السيطرة على العبيد وعبر الانفتاح السياسي-الأخلاقي المشرعن مثلا للشذوذ الجنسي، وجعله شيئا خاصا بفاعله مفصولا عن باقي المجتمع الذي يعيش معه، باعتبار الأمر حرية شخصية ضمن توليفات التشيء الذي يعيشه عبيد البيدر ويمارس في الساسة دور سادة العبيد.
الأحزاب العربية منذ أن سلكت طريقها إلى الكنيست ووقعت في حمأتها لم تخرج عن السقف السياسي الذي حددته لها ومن عمل على الخروج أو الإعراب عن اعتراضه أو امتعاضه كان مصيره التحجيم والمواجهة المباشرة من إعلام القصر، الذي يخدم السيد دائما حتى يعود هذا “السياسي/ الحزب/ القائمة ….” عن غيهم في نقد واعتراض السيد.
تشكل بعض الحقائق الاجتماعية المُعاشة في راهننا المخصوص، أسسا قوية بحكم انها تتكرر منذ عقود لبناء نظرية سياسية خاصة في داخلنا الفلسطيني، متأثرة من نظريات السيد والعبد ونظريات ما بعد الحداثة في المواضيع ذات الصلة بالكولونياليات الما بعد استعمارية، باعتبار أن إسرائيل حالة “متقدمة ” لفهم جدل العلاقة القائم بين الديموقراطية الغربية الليبرالية والبُعد القومي الثاوي فيها، ضمن معادلة تُطرح منذ سنوات: دولة يهودية وديموقراطية أو/و دولة ديموقراطية ويهودية ضمن معادلات الدين والقومية والدولة في الحالة الإسرائيلية. في هذا السياق ثمة علامات فارقة في العلاقة مع الآخر “الجوي” الذي يشاركهم الحفل الديموقراطي المتمثل بانتخابات الكنيست مشاركة. لا تهدف المشاركة في إدارة القصر ولا حتى البيدر -ادارته بشكل مباشر- ولأنَّ السيد متنبه لحجم التحولات الميدانية-السياسية-الأخلاقية الجارية في منطقتنا عموما وفي مجتمعاتنا الفلسطينية (نحن عدة مجتمعات تخلقت فيها منظومات تتعلق وضعيتها المرتهنة اليها فهناك مجتمع غزي وآخر مقدسي وثالث في الداخل الفلسطيني ورابع متعلق بالضفة الغربية ثم يشتق من هذه الحيثية، حيثيات أخرى تعبر عن المجتمعات الصغيرة، والتي بدورها لها خصوصياتها وعوالمها الخاصة-) فقد عُمِدَ في العشريتين الأخيرتين الى تعميق قيم وأخلاقيات مشتقة من القيم الليبرالية التي دفع بها الى الحقل ضمن سياسات الانفتاح الاقتصادي التي شُرِعَ بها منذ أوائل ثمانينات القرن، لتصل ذروتها الى هذه اللحظات التاريخية من هرولة عبيد سايكس بيكو الى إسرائيل بأوامر من سيدهم في البيت الأبيض، وهو ما دفع الى تثبيت بعض من المعالم المجتمعية-السياسة-الأخلاقية حيث استحالت الى حالة مُعاشة أسست لبقاء العبودية، بل وجعلها عبودية مختارة يُعضُّ عليها بالنواجذ، حتى لو اقتتل اهل القصر ودخلوا في مواجهات وصدامات داخلية. تشكل الانتخابات والالتهاء بها والعمل الدائم على الانصهار في دهاليزها السياسية والأخلاقية من تحالفات وتعاقد مصالح، بابا واسعا من أبواب السيطرة التي تفرضها مجموعة الاسياد وتلعب الديموقراطية كورقة يتم امتهانها بشكل فظ من طرف ساكنة القصر دورا محوريا في تقنين وموضعة العبودية، سواء لعبيد القصر العاملين في قصور السيد أو عبيد البيدر ممن يبنون ويعمرون ويهتمون بمعاش السيد، سواء كانت هذه القصور تشريعية كالكنيست أو غير ذلك، ولعلي أضرب مثالا على حجم استشراء العبودية بين الخدمة من العرب وخدمة القصر ممن يعملون خارجه خاصة في البيدر أو لنقل الحقل، وذلك فيما يحصل منذ سنوات مع ظاهرة الشذوذ الجنسي، وكيف يتعامل معها عبيد القصر وعبيد البيدر، فكلاهما يرى أن ما يهمه هو استمرار وجوده السياسي، إذ لا فارق عند هؤلاء بين تطبيع الشذوذ الجنسي وجعله قضية مجتمعية-اجتماعية وتطبيع الشره الاستهلاكي الذي يصاب به تحديدا عبيد البيدر، ذلكم أنّ ما يهم الساسة هو البقاء “البقاء السياسي” في الكنيست وان أمكن في السلطات المحلية وبعض النقابات وهناك من يعمل على ضمان مستقبله المادي من خلال صفقات وتأسيس جمعيات ذات صلات مباشرة بالاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة وكندا وبعض دول الخليج، وهؤلاء جميعا تتقاطع مصالحهم الكونية ذات الطابع العالمي مع هؤلاء الساسة الذين يرون أن وجودهم داخل القصر ومتفرعاته المختلفة يمنحهم حق الوجود السياسي ومن ثم الحياة السياسية، وبذلك تكوّنت على مدار عقود مجموعة اوليغاركية هي في حقيقتها اقلواتية داخل المجتمع الكبير تتعاظم قوتها من خلال انتخابها المتكرر للكنيست، حيث تشكل هذه المؤسسة احد فروع القصر المهمة إن لم تكن الأهم بالنسبة لهؤلاء، بحكم ابتعادهم عن فروع أخرى ذات طابع سيادي لا يجرؤ عبيد القصر على الاقتراب منها كمؤسسات العسكر والأمن والخارجية وغيرها. (يتبع).