قاب قوسين أو أدنى من الفرج
الشيخ كمال خطيب
رغم أن المخاض عسير
ما يجري في هذه الأيام من أحداث وما ينزل بالأمة من بلاء، سواءً كان ذلك الذي نراه من ظلم الأنظمة والحكام لشعوبهم، وصل إلى حد القتل والتشريد والتهجير لمئات الآلاف بل الملايين كما حصل وما يزال يحصل في سوريا ومصر واليمن والعراق، وسواءً كان ذلك بخيانة الأمراء والزعماء وتواطئهم مع الأجنبي والعدو وضد مصالح الأمة، كما حصل في مظاهر وأشكال التطبيع بين أنظمة عربية وبين إسرائيل، كما في الحالة السعودية والإماراتية والمصرية، وسواءً كان ذلك بضلال وصمت وانخراس العلماء وصل إلى حد تبرير وفلسفة، بل وإصدار الفتاوى التي تشرعن السياسات والمواقف الخاطئة بل والمعادية لمصالح الأمة. بل وصل إلى حد أن ينخرس إمام وخطيب المسجد الحرام والمسجد النبوي يوم الجمعة الأخير 8/12، فبدل تخصيص الخطبة في هذين المسجدين للانتصار لشقيقيهما الثالث المسجد الأقصى، وبدل أن تهب مكة والمدينة لنصرة شقيقهما القدس الشريف فإن خطبة الجمعة خصصت للحديث عن المسح على الجوارب وبر الوالدين، وكأن القدس ليست هي الأم وهي الأخت وهي العرض المدنس والشرف المهان.
ولقد توج هذا الحال الصعب بقرار الرئيس الأمريكي ترامب وتوقيعه على قرار نقل سفارته من تل أبيب إلى القدس، وشطب وإلغاء أي احتمال لقيام دولة فلسطينية وأن تكون عاصمتها القدس عبر تأكيده على أن القدس هي عاصمة إسرائيل الأبدية والموحدة، وكل ذلك بموافقة وصمت عربي رسمي مريب ومشبوه.
إن هذه الأحداث وتداعياتها تجعل البعض ينظر يائسًا إلى مستقبل القضية الفلسطينية، ويجعل البعض الآخر ينظر يائسًا إلى مستقبل الربيع العربي وثورات الشعوب واحتمال تخلصها من الحكام الفاسدين عبر استمرار هؤلاء بالإمساك بزمام الأمور بل والاستقواء بالأعداء أمريكا وإسرائيل.
إن هذه الأحداث وتداعياتها قد تصل إلى حد أن يظن البعض بل ويصاب بالإحباط من مستقبل المشروع الإسلامي والصحوة الإسلامية، وأنه كلما ارتفع للإسلام شأن في بلد ما وإذا بالأعداء والعملاء يجهضون هذا الحلم.
إننا نقول نعم إن المخاض عسير وإن الألم كبير، وإن ما يجري هو فتن كقطع الليل المظلم ولعلها تجعل الحليم حيران، لكن الذي لا بد من التأكيد عليه أن كل مخاض هو عسير، وأن كل ميلاد لابد أن يسبقه مخاض، وأن مع المخاض آلام ودماء ودموع وزفرات، ولكن الحتمي والأكيد واليقينيّ أن بعد المخاض سيكون ميلاد ينسي كل تلك الآلام والدموع، فرغم أن المخاض عسير، فلتكن على يقين أننا على أبواب ميلاد وأي ميلاد!!
إن مع العسر يسرا
إنه الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان يعلمنا التفاؤل والاستبشار والأمل، في أحلك الظروف وأصعب الأحوال. إنه الذي أوصانا بالتفاؤل ” تفاءلوا بالخير تجدوه”. إنه الذي حرّم علينا التشاؤم واليأس، بل وأعلن الحرب على المتشائمين واليائسين والمحبطين. إنه الذي رغم الجوع والحصار والخوف خلال حصار الأحزاب للمدينة المنورة وإذا به وهو يساهم في حفر الخندق وقد خرجت شرارات بفعل ضرب الحجر الفأس، وإذا به صلى الله عليه وسلم يكبر ويبتسم ويقول “الله أكبر ستفتح علينا قصور فارس، وقصور الروم في الشام وقصور اليمن”. إنه الذي وقبل ذلك وخلال رحلة الهجرة الشريفة، وقد أوشك سراقة بن مالك أن يقبض عليه صلى الله عليه وسلم وعلى صاحبه الصديق رضي الله عنه ليرجع سراقه بهما أسيرين إلى مكة لينال الجائزة الموعوده من قريش، مائة ناقة حمراء لمن يأت بمحمد حيًا أو ميتًا، ومع ذلك وإذا بالنبي صلى الله عليه وسلم يعد سراقه إن هو رجع وإن هو أخفى عن قريش خبرهما فإن له أن يلبسه صلى الله عليه وسلم سواريّ كسرى وتاج ملكه. إنه يعد سراقه بهذا من وسط الملاحقة والمطاردة والخوف لأنه صاحب اليقين واستاذ الأمل وينبوع التفاؤل صلى الله عليه وسلم.
إنه صاحب الهدي المبارك، فيه يجمع بين المتناقضات بلغة الواثق الموقن الذي لا يعرف إلا الأمل وهو يقول: “واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا”، هكذا وفي غمرة وفي أوج وفي أتونِ الكرب يأتي الفرج، وفي غمرة العسر يولد اليسر، ومع ألم الصبر ومعاناته ومع صعوبة الحال إلا أن المسلم يكون في عبادة اسمها عبادة انتظار الفرج كما قال صلى الله عليه وسلم” وانتظار الفرج عبادة ” و” أفضل العبادة انتظار الفرج “.
إنها لحظات انشقاق الفجر وانبلاج الصبح، لا يأتي إلا بعد أشد ساعات الليل عتمة وظلمة، وإنها أشهر وأغلى اللآلئ لا تستخرج إلا من أعماق البحار والمحيطات، وإنها ألذ جرعة شراب تلك التي تأتي بعد العطش الشديد، وإنها أشهى لقمة طعام تلك التي تأتي بعد جوع كافر. فأملوا بربكم خيرًا، وكونوا على يقين أن بعد هذا الليل فجرًا، وبعد هذا العسر يسرًا، وبعد هذا الكرب فرجًا بإذن الله.
سيكتب التاريخ
ما أجمل أن نستحضر التاريخ ليؤنسنا في أحلك ظروفنا. ما أجمل أن نستعين بالتاريخ لنعبر به ومعه مفاوز وصعاب زماننا. ما أجمل أن نستقوي بالتاريخ منه نستلهم المواقف، بها ننتصر بل نهزم حاضرنا السيء والأليم.
إنه التاريخ الذي ما أن نقلّب صفحاته وإذا به يحدثنا عن أمم وحضارات بلغت من القوة أنها أصبحت مضرب الأمثال {ألم تر كيف فعل ربك بعاد، إرم ذات العماد، التي لم يخلق مثلها في البلاد } آية 6-8 سورة الفجر. وإنه التاريخ الذي يحدثنا عن امبراطوريات قد عمّرت لأكثر من خمسة آلاف سنة كالدولة الساسانية الفارسية، ثم ما لبثت أن انطفأت نارها وغربت شمسها. وإنه التاريخ الذي يحدثنا عن دولة الإسلام العظيمة، كان خليفتها يخاطب الغمام أن ينزل في بغداد وإلا فإنه يتحداه أن ينزل حيث ما يشاء، فإن خيره ونفعه سيعود إلى بغداد. وإنه التاريخ يحدثنا عن امبراطورية انجلترا التي ما كانت الشمس تغيب عن ملكها وعن اتحاد سوفييتي عظيم، وما أكثر الأمثلة في جعبة التاريخ وملفاته لو أننا قرأناها.
وإنه التاريخ يحدثنا عن مدينه القدس وقد ولدت وبنيت قبل خمسة آلاف سنة. وإنها القدس العربية المنشأ والمولد. إنها القدس التي عبر منها واعتدى على حريتها ظهرها أكثر من سبعة عشر احتلالًا على مدى تاريخها، وقد مرت من أرض القدس الاحتلال الفرعوني والاحتلال البابلي والاحتلال الفارسي والاحتلال الاغريقي والاحتلال الروماني الاحتلال الصليبي والاحتلال المغولي وغيرهم وغيرهم كثير. وإنهم جميعًا ما لبثوا ورحلوا عن القدس وبقيت هي حيث أراد الله لها أن تكون، لأن القدس ما يزال لها الدور الذي يشرف كل ما قامت به من أدوار. انها القدس التي ستكون عاصمة دولة الخلافة الإسلامية الراشدة. إنها التي سيصلي فيها المسيح عليه السلام، حال نزوله من السماء مأمومًا بخليفة المسلمين المهدي. إنها والتي قريبا منها ستُدَقّ عنق المسيح الدجال
كما رحل كل أولئك المحتلين الغرباء وكما أصبح الحديث عنهم ليس إلا بلغة الماضي فلن يكون الاحتلال الإسرائيلي للقدس طرازًا فريدًا ولا احتلالًا ليس له مثيل. إنه الاحتلال الأخير وإنه الاحتلال الأقصر، وإنه الاحتلال الذي سينضم الى قائمة الاحتلالات التي مرت في القدس ورحلت.
نعم سيكتب التاريخ يومًا قريبًا أنه كان في القدس احتلال اسمه الاحتلال الإسرائيلي.
قاب قوسين أو أدنى
إنه الفارق الكبير بين من يقرأ الأحداث بلغة الأرقام ولغة المحللين والكتّاب السياسيين، وبين من يقرأها بنفس اللغة ولكن يضيف إليها لغة السماء والنصوص الشرعية، ويراها بمنطق الايمان ويقيّمها وفق منطق التاريخ كذلك.
إن من يقرأ الأحداث تجري من حولنا بلغة المحللين والكتّاب فإنه لن يرى إلا سوادًا يلفه سواد، وبالتالي فإنه أقرب إلى اليأس والإحباط والقنوط، واستحالة أن يتغير هذا الحال.
وأما من يقرأ الأحداث بلغة النصوص الدينية ويفهمها بمنطق الإيمان ويراها بعين التاريخ الثاقبة، فإنه سيكون أقرب إلى الأمل والتفاؤل، بل إنه يصل إلى اليقين بأن دوام الحال من المحال وأننا في ساعات الليل التي تسبق الفجر، وأننا إلى الفرج أقرب بإذن الله تعالى.
صحيح أنها سهام غادرة كثيرة مصوبة إلينا، وأنها خناجر صدئة كثيرة تدق صدورنا، وصحيح أننا نواجه أعداءً غارقون بالحقد والكراهية واننا ابتلينا بعملاء غارقون بالعمالة حتى فوق آذانهم، وصحيح أن خيبتنا ببعض العلماء وصلت بالبعض أن يصنفهم ويضعهم في خانة علماء السوء وعلماء السلاطين بل العلماء المنافقين الذين يبيعون دينهم بعرض من الدنيا.
لكن هذه السهام كلها مجتمعة قد صوبت إلينا في يوم من الأيام و أكثر من مرة، وأنها السهام التي تكسرت وتحطمت على صلابة عقيدة الأمة، وصبر وصدق أبنائها، فلطالما رمانا بسهام الكيد والغدر الصليبيون والتتار وحتى عملاؤهم من الفاطميين والفرق المنحرفة، بل وعملاؤهم من خلفاء وأمراء طاب لهم العيش تحت أقدام الغريب، ولذّ لهم ما كانوا يجمعونه ويتلقونه من فتات موائده.
نعم لقد تجاوزنا كل تلك الظروف، وكان الإسلام في كل مرة يقف وينهض مثل عنقاء الرماد ومثل المارد الذي يفر الأقزام من أمامه، يملأ قلوبهم الرعب من هول ما يروا من عظيم بأسه وقوته.
أيها المتطاولون، أيها الأعداء أيها العملاء، وأنا على يقين أنكم تعلمون أن مارد الاسلام قد قام، وأنه قد نهض وأنه ينادي فى الكون، أنا لم أمت، إنكم تعلمون أن الذي نام قد استيقظ، وأن الذي كبا قد نهض، وأن الذي مرض قد تعافى. وأنه غبي من كان يعتقد أن الإسلام قد مات وشيّع الى مثواه الأخير.
أيها المتشائمون أيها المحبطون أيها المثقلون باليأس، انفضوا عنكم غبار التشاؤم، واخلعوا عن عيونكم النظارة السوداء، وانزعوا عباءة اليأس التي تلفعتم بها، وانظروا إلى المستقبل نظرة الأمل، واعلموا بل كونوا على يقين أننا قاب قوسين أو أدنى من الفرج والنصر والفتح المبين، وإن غدًا لناظره قريب.
رحم الله قارئا دعا لنفسه لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون