هادر ولا يتوقف.. ما المطالب الحقيقية للحراك الجزائري؟
تستمر مسيرات الحراك الشعبي في الجزائر للجمعة 110 على التوالي منذ انطلاقتها في 22 فبراير (شباط) 2019. ولا تزال هذه المسيرات الشعبية المطالبة بالتغيير تحظى بزخم كبير بالنظر إلى استمراريتها بعد سنتيْن من الانطلاقة، وتوقُّفها بسبب جائحة كورونا، ثمَّ عودة المواطنين إلى الشارع في الذكرى الثانية لانطلاق الحراك في 22 فبراير 2021. وتشهد البلاد مسيرات حاشدة في حوالي 17 محافظة على الأقل، أكبرها في العاصمة الجزائر، وقسنطينة، وتيزي، وزو، وعنابة، وبجاية، فيما يجري قمع المسيرات التي تنطلق عقب صلاة الجمعة في محافظات أخرى والتي ترفع مطالب الحراك الجزائري.
ويطرح الكثير من المتابعين تساؤلات حول طبيعة مطالب الحراك الشعبي في الوقت الراهن، خصوصًا بعد انتخابات 12 ديسمبر (كانون الأول) 2019 التي جاءت بعبد المجيد تبون – الوزير الأوَّل السابق في عهد بوتفليقة – رئيسًا للبلاد، وتوجِّه السلطة اتهامات للحراك الشعبي بالعدميَّة ورفض الحلول، بالإضافة إلى الاتهامات المكرَّرة بالاختراق والتوجيه أو التخوين، من طرف مسؤولين ووزراء في الحكومة الجزائرية. فما مطالب الحراك الجزائري في الوضع الراهن؟ وهل من سبيل لتحقيقها؟
«دولة مدنية ماشي عسكرية».. أبرز مطالب الحراك الجزائري
لم يفرز الحراك الشعبي قيادة واضحة أو تنظيمًا مركزيًّا واحدًا يتبنى مطالبه، مثلما كان الحال في السودان مع تنظيم «قوى الحرية والتغيير»؛ وهو ما جعل تحديد مطالبه بدقَّة يبدو أمرًا صعبًا وفتح المجال أمام شيء من الغموض والتأويلات المختلفة، لكن المتابع للحراك الشعبي عن قرب يُدرك أن السبيل لمعرفة مطالب الحراك وتحديدها هو دراسة الشعارات المرفوعة في مختلف المحافظات، وهي متطابقة إلى حد كبيرة ومتَّفقة على تمدين الدولة ورفض عسكرتها، وهو ما يتجلّى في شعار الحراك الأشهر «دولة مدنية ماشي عسكرية» وشعار «ارحلوا» و«الاستقلال والحرية» التي تصدح به حناجر المتظاهرين في كل المحافظات.
ويؤكد المتظاهرون من مختلف التيارات أن هذا الشعار لا يحمل أيَّ عداوة تجاه المؤسسة العسكرية أو أفراد الجيش، وإنما يُطالبون بإبعادها عن الساحة السياسية وتحجيم دور الأجهزة الأمنية والمخابرات من التدخل في الميدان السياسي والقضائي والإعلامي والإداري؛ إذ يرى المتظاهرون أن يد هذه الأجهزة تمتدُّ لجميع القطاعات.
كما يرفع المتظاهرون شعاريْ المادة السابعة والثامنة من الدستور، اللتيْن تنصَّان على أن السيادة والسلطة للشعب؛ ويرون أن الإرادة الشعبية غير ممثَّلة فعليًّا في هرم السلطة؛ إذ إن انتخابات 12 ديسمبر كان قد أعلن عنها قائد الأركان السابق، أحمد قايد صالح، من خطاب داخل ثكنة عسكرية، دون أية استشارة للطبقة السياسية أو ممثلين عن الحراك؛ وهو ما يشير للنفوذ الكبير للقيادة العسكرية في نتائج تلك الانتخابات، بحسب ناشطي الحراك البارزين.
يرى المنخرطون في الحراك أن ما حدث في انتخابات 12 ديسمبر 2019 أبعد ما يكون عن الانتخابات الشفافة التي طمح لها المتظاهرون بعد رحيل بوتفليقة. بل إنها كرَّست استمرارية النظام وأعطته نفَسًا جديدًا فحسب، فـ«السلطة المستقلة للانتخابات» التي سوَّقت لها السلطة بوصفها جهة مستقلة مشرفة على نزاهتها، اتَّضح فيما بعد أن رئيسها قد عيَّنه قائد الأركان السابق؛ كما أن هذه الانتخابات شهدت مقاطعة منطقة القبائل كلِّها، وبرزت تقارير صحفية عن انقسام داخل قيادة الجيش حول المرشَّح الذي سيدعمه «الحاكم الفعلي للبلاد»؛ بل إن هنالك جنرالًا على أعلى مستويات القيادة، وُجهت له تُهم متعلِّقة بمساندة المرشح عز الدين ميهوبي على حساب الرئيس الحالي.
وبالرغم من أن اختصاصات الجيش الجزائري محدَّدة بنص الدستور بالدفاع «عن وحدة البلاد وسلامتها الترابية» بنص المادة 30، وكون رئيس الجمهورية والوزراء مدنيين وليسوا عسكريين، فإن ناشطي الحراك يرون أن تغول الجهاز الأمني والمخابراتي في مختلف المناحي السياسية، وتدخلاته الخفية من خلال الهاتف والإدارة – خصوصًا بعد العودة القويَّة للشرطة السياسية – والنفوذ الحقيقي الذي تملكه هذه الأجهزة العسكرية والأمنية في صناعة القرار، هو ما يعرقل أي انفتاح سياسي حقيقي بحسبهم، خصوصًا وأن هذه التدخلات لا تحمل أي طابع رسمي أو مكشوف، وليست عرضة لأي إجراءات محاسبة أو شفافية، بل تتم غالبًا في الكواليس على شكل تعليمات، في رأي ناشطي الحراك.
شعور حقيقيٌّ بعدم وجود أي تغيير على مستوى السلطة يسود الأوساط الحراكيَّة، خصوصًا بعد إطلاق سراح العديد من وجوه النظام السابق الذين كانوا يوصفون بـ«العصابة»، من بينهم الجنرال توفيق، والحكم بالبراءة لكل من سعيد بوتفليقة، والجنرال طرطاق، وبعض وزراء بوتفليقة؛ وهو ما جعل ناشطي الحراك يحسُّون بأنهم عادوا إلى المربَّع الأوَّل، وأن الثورة المضادة قد نجحت في استرجاع قوَّتها.
يمكن ملاحظة أن الحراك هو فسيفساء شديدة التنوُّع سياسيًّا وأيديولوجيًّا؛ لكن الشريحة الأوسع منه وخزَّانه البشري الرئيسي الذي يمثِّل الغالبية العظمى من المتظاهرين، ليس لديه انتماء حزبي، ولا دوافع أيديولوجية للخروج إلى الشارع؛ بل يستلهمون المقولات الوطنية المتوارثة منذ الحرب التحريرية، كالاستقلال والحرية، ليرسموا مشاركتهم في الحراك بوصفها استكمالًا لمسار التحرُّر، حسب رؤيتهم.
ورغم ذلك نجد الأيديولوجيا مركَّزة بشكل رئيسي في ساحات الجزائر العاصمة من خلال جيوب صغيرة العدد ومتنوِّعة فكريًّا في مظاهرات العاصمة، بحكم كونها واجهة الحراك؛ إذ تظهر شعارات ولافتات لقدماء الجبهة الإسلامية للإنقاذ، والشيوعيين، والنسويات، وناشطي «الحركة البربرية»، والناشطين المستقلِّين.
وبسبب هذا التنوُّع، بقي بدون ورقة واحدة تمثِّل مطالبه، لكن ناشطي الحراك على اختلاف مشاربهم يؤكدون أن مطلبهم الرئيس هو تغيير طبيعة النظام بطريقة سلمية؛ ورفض سياسة الأمر الواقع التي تحاول السلطة فرضها من خلال «قبول الهزيمة» وترك الشارع، ويرى الناشطون في الحراك الشعبي وسيلة لخلق ميزان قوَّة تجاه النظام لإجباره على الانفتاح، خصوصًا كون المسيرات الشعبية هي وسيلة الضغط الوحيدة في ظلِّ المجال العام المغلق، ومنع تأسيس أحزاب جديدة والتضييق على الصحافة، وعدم وجود ضمانات حقيقية لنزاهة الانتخابات حسب المشاركين في الحراك.
ويرفع المتظاهرون أيضًا شعارات تدعو إلى الوحدة والسلمية، ونبذ الخلافات الأيديولوجية داخل الحراك، والتركيز على رحيل ما يسمّونها بـ«العصابة»، وهو ما يجسِّده شعار «مكاش إسلامي مكاش علماني، كاين عصابة تسرق عيناني»، وشعار «ماتخوفوناش بالعُشرية (السوداء) وحنا رباتنا الميزيرية» الذي يُدين استخدام السلطة لورقة الحرب الأهلية في التسعينيات من أجل التحذير من مآلات الحراك الشعبي.
ويضمُّ الحراك في داخله رؤى واتجاهات مختلفة، من بينها من يرى أنَّ المطلب الرئيس هو الاتجاه الثوري التأسيسي، من خلال رحيل النظام وانتخاب مجلس تأسيسي جديد، لكن البعض يرى أن هذا الطرح غير واقعي وغير مأمون العواقب، في حين يرى آخرون أن المخرج الرئيس للأزمة السياسية هو الحوار الحقيقي والجاد بعيدًا عن الحوارات غير الفاعلة التي أجرتها السلطة من قبل، والذي ينبغي أن يسبقه إجراءات تهدئة حقيقية من شأنها إعطاء ضمانات للحراك بأن السلطة جادة في الانفتاح والخروج من الأزمة، بحسبهم.
حراك يرفض الاستسلام.. وسلطة ترفض الاستماع
ويدعو فصيل مهم في الحراك، إلى ضرورة وجود أجواء حقيقية للانفتاح من أجل الخروج من الأزمة السياسية التي تشهدها البلاد، أبرز هذه المطالب هي إطلاق سراح معتقلي الرأي الذين سُجنوا في قضايا مرتبطة بالحراك، والذين لم يشملهم العفو الرئاسي الذي أقره الرئيس تبون في فبراير الماضي، بالإضافة إلى إيقاف المتابعات القضائية والأمنية لمئات الناشطين في مختلف محافظات البلاد.
أيضًا يرى ناشطو الحراك ضرورة فتح الإعلام العمومي لجميع الآراء المُعارضة وعدم استغلاله لشيطنة الحراك واتهام المشاركين فيه بالعمالة والاختراق، كما يفعل وزراء في الحكومة الحالية، والسماح بإنشاء جرائد ووسائل إعلام بدون قيود، وعدم حجب المواقع الإلكترونية المعارضة، والسماح بإنشاء أحزاب وجمعيات جديدة، علمًا بأن هنالك حوالي 10 أحزاب أودعت ملفَّاتها لدى وزارة الداخلية لكنها لم تحصل على تراخيص حتى الساعة، رغم تعهُّد الرئيس سابقًا بأن يكون تأسيس الأحزاب بمجرَّد التبليغ.
كما يطالب المعارضون بالسماح لهم بالتجمُّع في القاعات والفضاءات العامة بدل التضييق الإداري. لكن في المقابل، ترفض السلطة هذا الاتجاه، وما زالت تضيِّق على الحراك الشعبي في أكثر من 10 محافظات، ويغلب الاتجاه الأمني في التعامل مع هذا الحراك الذي يحمل مطالب سياسية، بدلًا من أن يكون التعامل معه على نحو سياسي.
وفي مقابل هذه المطالب والاحتجاجات التي لا تتوقَّف، تبدو السلطة في الجزائر متمسِّكة بخارطة الطريق التي أعلنها الرئيس تبون بعد انتخابه رئيسًا، والمتمثِّلة في تعديل الدستور والاستفتاء عليه – وهو الاستفتاء الذي عرف مقاطعة كبيرة، إذ لم تتجاوز نسبة المشاركة 23%، صوَّت ثلثُه بالرفض للتعديلات – ثم انتخابات برلمانية من المبرمج إجراؤها في يونيو (حزيران) القادم، وقد أعلنت عدَّة أحزاب مشاركتها فيها.
ووسط الاختلاف الحاد في الرؤى بين ورقة طريق السلطة ومطالب الحراك، يبقى الشارع الجزائري يحبس أنفاسه في ظلِّ حراك أسبوعي لا يزال يتمتّع بقدرة كبيرة على الحشد كل أسبوع في العديد من المحافظات، وسلطة متمسُّكة بمنهج يفضِّل التعامل مع الحراك بمقاربة أمنية في المقام الأول.