أخبار رئيسيةأخبار عاجلةأخبار وتقاريرعرب ودولي

«جيش لحد».. «جيش العملاء» الذي صنعته إسرائيل ثم تركته في وجه العاصفة

في مايو (آيار) 2000، وفيما كانت مظاهر تعم أرجاء لبنان فرحًا بانسحاب القوات الإسرائيلية من الجنوب، كان بضعة آلاف من اللبنانيين وعائلاتهم على موعد مع المجهول، بعد أن فشل رهانهم على الإسرائيليين، وصار أغلبهم مخيرين بين الاعتقال أو المنفى، هؤلاء هم عناصر «جيش لبنان الجنوبي»، أو ما عُرف إعلاميًا وشعبيُا بـ«جيش لحد».

«صُنع في تل أبيب».. إسرائيل تؤسس «جيش لبنان الجنوبي»
في مطلع السبعينات، كانت الساحة السياسية اللبنانية على صفيح ساخن، فقد تفاقمت التوترات بين مسيحيي الطائفة المارونية، يساندهم في ذلك بعض المجموعات الشيعية والدرزية من جهة، وبين المقاتلين الفلسطينيين الذين نقلوا ثقلهم العسكري إلى لبنان (بعد خروجهم من الأراضي الأردنية إثر أحداث أيلول الأسود عام 1970 التي اشتبك فيها الجيش الأردني مع مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية)، مدعومين بقسم كبير من المسلمين السنة في لبنان، والقوى اليسارية و«التقدمية» وفي مقدمتهم «الحركة الوطنية اللبنانية» بزعامة وليد جنبلاط.
أسفرت التوترات عن اشتعال فتيل القتال بين الطرفين في 13 أبريل (نيسان) عام 1973، فيما عُرف بـ«الحرب الأهلية اللبنانية»، وهي الحرب التي استمرت نحو 15 عامًا، وتدخلت فيها قوى إقليمية ودولية عدة، وفي مقدمتها إسرائيل وسوريا، وتبدلت فيها التحالفات مرارًا، وراح ضحيتها وراح ضحيتها نحو 150 ألف قتيل، و300 ألف جريح، و17 ألف مفقود، فيما شرد حوالي مليون شخص من منازلهم، وفاقت الخسائر المادية للحرب 100 مليار دولار.
لم تكن إسرائيل بعيدة عن المواجهات المشتعلة التي تعصف جارتها الشمالية، فاصطفت إلى جانب الميليشيات المسيحية المحاربة للفلسطينيين واليسار ووفرت لها العون والسلاح في مواجهة عدوها اللدود قوات منظمة التحرير، والقوى العروبية، قبل أن ترعى تل أبيب في عام 1976 تشكيل ميليشيا عرفت باسم «جيش لبنان الجنوبي»، بقيادة ضابط لبناني يُدعى سعد حدّاد، الذي كان رائدًا في الجيش مسؤولًا عن منطقة البقاع في الجنوب وفي عام 1982، قررت إسرائيل التدخل بشكل مباشر في المعارك، فاجتاح الجيش الإسرائيلي لبنان وصولًا إلى بيروت في عام 1982، بقيادة وزير الدفاع آنذاك آرييل شارون.
حظيت قوات جيش لبنان الجنوبي بالرعاية الإسرائيلية، في حين غضت السلطات الأمنية والجيش اللبناني الطرف عنها، وفي عام 1979 أعلن حدّاد تأسيس ما سمّاه «دولة لبنان الحر» في الجنوب اللبناني، ولكن خطوته فشلت في نيل أي اعتراف دولي أو محلي بدولته، قبل أن تخبو تمامًا مع وفاة سعد حداد بمرض السرطان في عام 1984، ليحل محله في قيادة «جيش لبنان الجنوبي» أنطوان لحد، والذي ظلت تلك الميليشيا تنسب إليه حتى اليوم فيذكرها الجميع باسم «جيش لحد».

أنطوان لحد.. رجل إسرائيل الأول في الجنوب اللبناني
ولد أنطوان لحد عام 1927، لأسرة مسيحية لبنانية، من الطائفة المارونية، وتخرج من الأكاديمية العسكرية العام 1952، ليلتحق بعد ذلك للعمل في الاستخبارات العسكرية، وبين عامي 1971 و1975، أوفد في بعثة دراسية إلى مدرسة الأركان العامة في باريس، ثم عاد إلى لبنان ليتولى منصب القائد المساعد ثم قائد منطقة البقاع في الجنوب، ووصل إلى رتبة الجنرال، وقد شارك في الاشتباكات التي اندلعت بعد اجتياح الإسرائيليين للبنان عام 1982، والتي كان يتصرف فيها الجيش اللبناني كميليشيا مسيحية شكلت دعمًا ضمنيًا لإسرائيل.
ترك أنطوان لحد صفوف الجيش اللبناني حين قامت الحكومة بإعادة هيكلة الجيش في عام 1983، وبعدها بعام، حظي برضى الإسرائيليين ليتولى قيادة جيش لبنان الجنوبي بعد وفاة سعد حداد، كانت الميليشيا في ذلك الوقت قد وصلت إلى درجة كبيرة من التفكك والانهيار، فأعاد لها لحد الحياة من جديد، مستغلًا في ذلك مهاراته السياسية وعلاقاته الواسعة والنفوذ الذي راكمه في أوساط الدوائر السياسية والعسكرية والدينية في بيروت.
تمكن لحد من إعادة هيكلة «جيش لبنان الجنوبي»، فضم إليه عناصر جديدة من المسيحيين والدروز والشيعة، وتمكن من توفير التوفير اللازم لدفع رواتب المقاتلين (إلى جانب الدعم الإسرائيلي، ظلت الحكومة اللبنانية تصرف مخصصات لـ«جيش لحد» حتى توقف ذلك التمويل عام 1990 إثر انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية)، بلغ عدد جنود الجيش نحو 6 آلاف مقاتل، كان أغلبهم من مدن وفى الجنوب اللبناني، حيث كانوا يوزعون على ثكنات قريبة من قراهم، كما امتلكوا آلات حربية متطورة بما في ذلك دبابات وأسلحة مدفعية.
لعب «جيش لبنان الجنوبي»، دورًا بارزًا في الدفاع عن الإسرائيليين في جنوب لبنان، إذ كان يشكل درعًا واقيًَا للمحتلين ضد هجمات الفصائل الفلسطينية، كما لعب دورًا في حماية الحدود الإسرائيلية من هجمات الفدائيين الفلسطينيين الذين دأبوا على تنفيذ عمليات في الداخل الفلسطيني المحتل، كما أدار الجيش سجونًا في جنوب لبنان جرى فيها حبس خصوم الجيش الإسرائيلي وتعذيبهم، وقد بلغ التعاون الميداني الوثيق بين جنود الجيش الإسرائيلي وعناصر «جيش لحد» أن الجنود الإسرائيليين كانوا يركبون مع اللبنانيين في عربات واحدة، الأمر الذي عرض رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين إلى استجواب في الكنيست بخصوص هذا الموضوع.

«بيت العنكبوت».. كيف انهار جيش لحد؟
نجاح أنطوان لحد في إعادة تنظيم جيشه، وتثبيته كقوة مطلقة في الجنوب اللبناني، لم تدم لوقت طويل، سيما بعد توسع نشاط حزب الله المدعوم من الحرس الثوري الإيراني، وتزايد عملياته في الجنوب اللبناني ضد الأهداف الإسرائيلية، وضد «جيش لحد» بالتبعية، وفي عام 1988، تعرض أنطوان لحد لمحاولة اغتيال نفذتها فتاة مسيحية منتمية إلى الحزب الشيوعي اللبناني، دخل على إثرها إلى المستشفى لعدة أسابيع.
ازدادت مشاكل «جيش لبنان الجنوبي» الحرب الأهلية اللبنانية من نهايتها بحلول نهاية الثمانينات، وهو ما تكلل بتوقيع «وثيقة التوافق الوطني اللبناني» المعروفة باسم «اتفاق الطائف» عام 1989، والتي أنهت سنوات من الاقتتال الداخلي اللبناني، فاصطلاح الفرقاء اللبنانيين، وسكون صوت الحرب، بالتوازي مع الجرائم الإسرائيلية بحق سكان جنوب لبنان، زاد من عزلة لحد، فتوقف الدعم المالي الذي كان يتلقاه من السلطات اللبنانية، وأضحى النظر إليه هو وجنوده باعتبارهم مجموعة من «الخونة» المتعاونين مع العدو.
في يناير (كانون الثاني) 1996، ذهب لحد إلى إسرائيل، والتقى برئيس وزرائها شيمون بيريز، الذي أكد له استمرار الدعم الإسرائيلي لجيشه، وفي الشهر نفسه، وجهت له المحكمة العسكرية اللبنانية تهمة «التعامل مع العدة»، ليحكم عليه بالإعدام غيابيًا في ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه.
بحلول نهاية التسعينات، كانت قوات لحد تئنّ على وقع هجمات حزب الله، في الوقت الذي تخلى فيه الإسرائيليون عن تقديم العون الكافي له، وسط التكهنات بانسحاب إسرائيلي وشيك، حاول لحد الحصول على عفو تشريعي عنه وعن رجاله من الدولة اللبنانية لكن طلبه قوبل بالرفض، فقد حكم عليه بالإعدام غيابيًا بعد الانسحاب الإسرائيلي، كما طالب الإسرائيليين حال الانسحاب بضمان استمرار دعمه بالمال، والسلاح والذخيرة، مع إبقاء الحدود بين الجانبين مفتوحة بين الجانبين، لكن نداءاته تلك لاقت آذانًا صمّاء.
وتعرض جيش لحد لانتكاسة ضربة قاسية حين اضطر إلى الانسحاب من جزين على وقع ضربات دامت لشهور حزب الله في يونيو (حزيران) 1999 لم يتلق خلالها النجدة من إسرائيل، إذ خرج أنطوان ليعلن قرار الانسحاب وقد بدى جليّا أن نجمه في أفول، كما تعرض لضربة قاصمة مع اغتيال عقل هشام، وهو الرجل الثاني تنظيميًا في الجيش بعد أنطوان لحد، والعقل المدبر الحقيقي له.

ما مصير عناصره بعد الانسحاب الإسرائيلي؟
في مايو 2000، انسحب الجيش الإسرائيلي من جنوب لبنان، وهي اللحظة نفسها التي انهار فيها جيش لحد وتفكك تمامًا، كان الجميع يدركون ألا بقاء لـ«جيش لبنان الجنوبي» بدون إسرائيل، هرب آلاف من المنتسبين إلى جيش لحد مع عائلاتهم إلى الخط الحدودي، ومنها إلى داخل إسرائيل، بعد أن تلقوا أوامر إسرائيلية بإطلاق نيران أسلحتهم حتى الطلقة الأخيرة. أما من بقى منهم، فقد تم القبض عليهم وتسليمهم إلى السلطات اللبنانية التي برأت ساحة البعض، فيما حكمت على البعض الآخر بتهم الخيانة.
الهاربون من ميليشيا لحد إلى إسرائيل حيث لا زالوا يعيشون فيها إلى اليوم معظمهم في بلدات ومدن حيفا ونهاريا وطبريا وكرمئيل وكلها في شمال البلاد، ولم يتمكنوا من العودة إلى لبنان، وفي حين تلقى الضباط السابقون وقادة الميليشيا بيوتا ومساعدات مالية، فإن الآخرين لم يتمتعوا بالمميزات ذاتها، وظلوا يعانون من صعوبة التأقلم مع المجتمع الإسرائيلي وقلة فرص العمل، وهو ما دفع البعض منهم إلى الهجرة إلى دول غربية، فيما حاول عدد قليل العودة إلى لبنان بعد سنوات من المنفى، حيث قدّموا إلى محاكمات صدرت فيها أحكام مخففة غالبًا.
كما أقر الكنيست قانونًا يمنحهم وأبناء عائلاتهم «بموجبه استحقاق الحصول على مواطنة إسرائيلية، وسرت عليهم تعليمات قانون التأهيل كأنهم أفراد من جيش الدفاع الإسرائيلي» – بحسب وصف القانون، كما أقر في عام 2021 قانونًا يمنح جنود جيش لحد الشارة العسكرية أسوة بجنود الجيش الإسرائيلي.
أما أنطوان لحد نفسه، فقد حاول اللجوء إلى فرنسا، لكن السلطات لم تسمح له بالإقامة فيها، فولى وجهه شطر إسرائيل، حيث أقام في فندق بتل أبيب مع عائلته، وكانت السلطات الإسرائيلية تؤمن له المصاريف والحماية عرفانًا بجميله، قبل أن يفتتح فيها في أكتوبر (تشرين الأول) 2003 مطعمًا سماه «بيبلوس»، وقد سجل لحد في مذكراته التي أسماها «في قلب العاصفة: 50 عامًا في خدمة وطني لبنان».
قصة «خذلان» إسرائيل له ولميليشياته، وتداعيات قرار حكومة تل أبيب «المتسرع» بالانسحاب من الجنوب، وتوفي لحد في باريس في سبتمبر (أيلول) عام 2015، عن عمر يناهز 88 عامًا، وفي منتصف عام 2020، مع مرور ذكرى 20 عامًا على الانسحاب الإسرائيلي، أقامت إسرائيل على الحدود الشمالية احتفالية أسمتها «تقدير وتكريم قادة جيش لبنان الجنوبي»، دعا فيها العشرات من قادة وضباط جيش لحد، فيما اعتبره تكريمًا لأشخاص خدموا الجيش الإسرائيلي لعقود.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى