“أم الشباب”… والأحداث الكبرى في الداخل الفلسطيني.. أم الفحم والحراك في مواجهة عنف الشرطة والمجرمين
د. مهند مصطفى: يتصرف الناس في أم الفحم عبر تاريخها على أساس مصالح جمعية فيما يتعلق بالعمل السياسي والجماهيري
د. مهند مصطفى: يتصرف الناس في أم الفحم عبر تاريخها على أساس مصالح جمعية فيما يتعلق بالعمل السياسي والجماهيري
عائشة حجار
تبادر إلى أذهان الكثيرين في الأسابيع الاخيرة التساؤل: “لماذا ام الفحم؟”، ما الذي يميز هذه المدينة ليس فقط لتكون بؤرة الحراك الشبابي الرافض للعنف، بل أن يكون أبناؤها أكثر من تقمعهم الشرطة الاسرائيلية على الرغم من سلمية مظاهراتهم ومسيراتهم.
في الاسبوع المنصرم، كما باقي الأسابيع، وثقت تهجمات الشرطة على المتظاهرين والمارّة في أم الفحم حيث يبدأ قمع المتواجدين في الشارع بشكل يبدو عشوائيًا ودون سبب حقيقي لاستخدام القوة المفرطة. بل تجتهد الشرطة بعد كل قمع أن تصدر مقطع فيديو يلخّص الأحداث حسب روايتها تظهر فيه بعض الإطارات المشتعلة، والفحماويين الغاضبين في اجتثاث للأحداث من سياقها، كما كان يوم الجمعة 26/2/2021، حين تضمن المقطع الذي عمّمته الشرطة الاسرائيلية توثيقًا لغضب رئيس بلدية أم الفحم د. سمير صبحي محاميد، نتيجة لعنف الشرطة ليبدو هو بنفسه شخصًا عنيفا يهاجم الشرطي المسكين بلا سبب. هنا نعود للسؤال من جديد: “لماذا ام الفحم؟”.
لا بد هنا من طرح تاريخ أم الفحم الحافل بالنضال مقابل القمع البوليسي، والمشاهد التي تتكرر كل بضع سنين، فكل جيل من أبناء المدينة عايش عنفًا شرطيًا باسم الحكومات الاسرائيلية المتعاقبة، يسارًا كانت أو يمينًا، وسواء قاد هذه الحكومة حزب العمل أو الليكود أو غيرهما. فمنذ أحداث شهر أيار عام 1958، حين قمعت القوات الاسرائيلية أهالي أم الفحم على خلفية مظاهرة إحياء “الأول من أيار” في تاريخ 3/5/1958، شهدت المدينة عدة ممارسات قمع بوليسية ليس لها مبرر سوى ما ورد في تقرير (لجنة أور) بعد أحداث انتفاضة الاقصى عام 2000 بأن الشرطة الاسرائيلية تتعامل مع العرب على أنهم أعداء، وتستخدم القوة المفرطة ضدهم.
أعادت مشاهد القمع خلال الاسابيع الأخيرة، وخاصة استخدام قوات قمع الاحتجاجات والرصاص المطاطي والمستعربين والمياه العادمة، هذه الذكريات إلى الذهن العربي الجماعي، ولعل ذروتها كانت الهجوم العشوائي على المتظاهرين الذي أدّى إلى إصابة العشرات، كما طال عنف الشرطة منتخبي جمهور منهم رئيس بلدية أم الفحم الذي صرّح أنه “لن يكون للشرطة اي كلام معه حتى تعتذر على تعديها على المتظاهرين”، كما تمّ الإعلان عن وقف عمل الشرطة الجماهيرية البلدية ووقف كل أنواع التعامل مع الشرطة في البلدية على أذرعها وأقسامها المختلفة.
أمّ الشباب
على مرّ تاريخها كانت أم الفحم وما زالت مدينة شابة، تتميز بمعدل الجيل الصغير نسبيًا لسكانها، ونجد الشباب في مقدمة احتجاجاتها، فكان من أبرز أحداث الروحة عام 1998 خروج طلاب المدرسة الثانوية الشاملة ومشاركتهم في الاحتجاج، كما قدّمت أم الفحم اثنين من شبابها شهداء في انتفاضة الأقصى، وبنفس الروح فإن موجة الاحتجاجات الحالية يقودها الشباب تحت مظلة “الحراك الفحماوي الموحد”، وهي مجموعة شبابية غير مسيّسة ولا محزّبة يقودها شبان فحماويون يواجهون قمع الشرطة كل أسبوع، الأمر وصفه الناشط محمد عبد الرحمن محاميد، عضو الحراك الفحماوي الموحد، للمدينة، بقوله: “حراكنا شبابي جاء ليرفع صرخة المجتمع العربي بأكمله رفضًا للعنف والجريمة، نحن نخرج اليوم للأسبوع الثامن على التوالي، لنمارس حقّنا في الاحتجاج ونطالب بحقنا في الحياة، إلا أن الشرطة تقابل الحراك بالقمع غير المبرر، ضاربة بعرض الحائط الحقوق الإنسانية، ومتجاهلة توثيق تجاوزاتها، الذي نراه كل مرة، ويثبت أن رواية الشرطة حول الفحماوي العنيف الذي يتهجم على الشرطي المسكين عارية عن الصحة وكاذبة. نحن في الحراك نعي جيدًا تاريخ الشرطة مع أهالي بلدنا، وما نطلبه من الشرطة أن لا تمارس دورها، الذي يقتصر على قمع الشباب والاعتداء على الاطفال والنساء والمحتجين السلميين. نحن نطالب الشرطة أن تتوقف عن ممارسة دورها المعتاد بقمعنا وتبدأ بممارسة عملها، أن تبدأ بفعل ما ندفع نحن الضرائب مقابله وهو مطاردة المجرمين وردعهم وعدم مساندتهم وتمويلهم والتغاضي عنهم، فهذا هو ما ندفع أموالنا لأجله وليس تجهيز مقاطع إعلامية تحرض علينا.”
نموذج يحتذى به
في حديث مع “المدينة”، قال الدكتور مهند مصطفى، الباحث والمحاضر الجامعي ومدير مركز “مدى الكرمل”، إن: “أم الفحم تتميز بأنها مدينة فيما يتعلق بالعمل السياسي والمشاركة السياسية، يتصرف الناس فيها على أساس مصالح جمعية فيما يتعلق بالعمل السياسي والجماهيري، لذلك قبل كل مرة وبكل ما يتعلق بالعمل السياسي والمشاركة الجماهيرية يتصرف أهالي ام الفحم بوعي جماعي مديني بعيدًا عن كل وعيّ ضيق، حمائلي جهوي مناطقي. نرى ذلك في الحراك الشبابي المبارك الأخير. نجح هذا الحراك بسبب وعي الحراك والشباب ومثابرتهم، وهذا الوعي لا يمكن إلا أن ينبع من انتماء لهوية جماعية، وأيضا بسبب الالتفاف حوله من الناس، البلدية ورئيسها، الحركات السياسية واللجنة الشعبية وغيرها، لذلك يقدّم هذا الحراك نموذجا احتجاجيا لحراكات أخرى، نجاحه في دائرتين دائرة الشباب وحراكهم، ودائرة الدعم لهم، وهذا يعلمنا كيف نبني حراكات ناجحة في أماكن أخرى. بناء على ذلك أرادت الشرطة كسر هذا النموذج، تعاملت الشرطة في السابق مع حراكات شبابية أخرى، فالحراك الفحماوي ليس أول حراك شبابي في العقد الأخير، ولكن ما يميزه، هو وجود هاتين الدائرتين معًا في عمل متكامل ومتفاهم، وإعطاء الثقة للشباب من الدائرة الثانية أنكم قادرون على قيادة الحراك. فضلا عن الوعي المديني في الجانب السياسي الذي ميّز أم الفحم في أغلب فتراتها التاريخية”.
وأضاف: “الشرطة أرادت كسر وقمع هذا النموذج الذي لم تتعود عليه، ولم تتعود لوجود هاتين الدائرتين، لأن انتقال هذا النموذج من الاحتجاج إلى بلدات أخرى، سيقدّم نمطًا مهمًا من أنماط النضال والاحتجاج في المجتمع الفلسطيني”.
شرطة استعمارية مقابل مدينة ريادية
يتابع د. مصطفى: “كشف هذا الاحتجاج مركزية أم الفحم السياسية في المجتمع الفلسطيني في الداخل، وهذه ليست اللحظة الوحيدة التي تكون فيها أم الفحم مركز العمل السياسي في الداخل، ولكنها لحظة مهمة بعد سنوات من تراجع العمل الاحتجاجي وعزوف الناس عموما والشباب خصوصا عن العمل الجماهيري وعن قضايا الشأن العام. ويمكن ملاحظة أن الاحتجاج جاء على خلفية قضية ساهمت تدريجيا منذ انتفاضة القدس والأقصى في كسر العمل النضالي وتفكيك المجتمع من الداخل، أي قضية الجريمة والعنف، بمعنى أن هذا الحراك يخرج بشكل مباشر ضد الجريمة والعنف، ولكن تأثيره غير المباشر هو قطع عملية تراجع العمل الاحتجاجي والنضالي والشعبي وعزوف الناس والشباب عن الشأن العام المشترك منذ عام 2000. إذا فهمنا أهمية هذا الحراك في هذا العمل، نفهم بسهولة لماذا تريد الشرطة قمع الحراك الفحماوي، لأن الحراك الفحماوي قادر بسبب كل ما ذكرته أن يشكل نموذجا لا الشرطة ولا المؤسسة الإسرائيلية تريده أن يكون كذلك. لذلك تفكر الشرطة مثل اي مؤسسة استعمارية باستعمال العنف والقمع لكسر الحراك. لأنها لا تتعامل معنا كأعداء فحسب، وإنما تريدنا مجتمعا خاضعا وضعيفا، واستعمال العنف في سياق شرطة استعمارية هو تعامل معنا على أننا يجب أن نصل إلى مجتمع ضعيف وخاضع، ولا يمكن لها أن ترانا غير ذلك، لذلك تعتقد أنها تستطيع كسر الحراك بالعنف والقمع، مثل تفكير اي شرطة استعمارية”.
إن الاضطهاد الاسرائيلي لأبناء المجتمع العربي عامة، وأم الفحم فيما يتعلق بالسياق الحالي، أمر دارج نجده يتكرر كل عقدين أو ثلاثة، فلا بد هنا من ان نتساءل هل يمكننا أن نعوّل على هذه الأجهزة لحل مشاكلنا؟ أم أنه حان الوقت لننتقل إلى عقلية المجتمع العصامي الذي يناضل ليقتلع شوكه بيديه؟ وإلى متى سنبقى نعتقد أن خدمات الشرطة والوزارات المختلفة هي منّة علينا شكر من يقدم لنا فتاتها، مع أننا ندفع لقاءها مالًا وأرضًا، وقد ندفع أحيانًا دمًا غاليًا؟