أخبار رئيسية إضافيةأخبار عاجلةمقالات

أوراق في معـــنى العــصيان المـــدني… الـــورقة الرابعــــة

صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
لا يمكننا اليوم في ظل الثورة الرقمية التي نعيش، والتي دخلت حياتنا في كل تفاصيلها وتعقيداتها، أن تكون تعريفاتنا للمواطنة أو للعصيان المدني كما هو في الادبيات السياسية والاجتماعية الكلاسيكية فحسب، وقد أشرت في الورقة الثانية إلى بعض من معالم العصيان في سياق الثورة الرقمية التي نعيش، مما يطرح سؤالا حول المواطنة والعصيان المدني، سواء من حيث التعريف أو من حيث الأدوات الموصلة إلى تحقيق الأهداف المرجوة من وراء العصيان، بغض النظر عن تصوراتنا لجدل العلاقة القائم بين المواطنة وتعريفاتها في الادبيات الليبرالية والاشتراكية وحتى الإسلامية وما ينبثق عن ذلك من أنظمة تعتمد تلكم الأيديولوجيات. ولا يهمنا كثيرًا في هذا السياق الحديث عن أنّ المواطنة تتعلق ابتداء بالنظام الديموقراطي الليبرالي من حيث الأداء والعمل.
في هذه المقالة لا أتطرق إلى المواطنة الرقمية في سياقها المحلي حيث طوّرت الدول المؤمنة بالحوكمة أدوات التعاطي مع مواطنيها في سياقات التوجهات الرقمية واستغلالها لصالح الدولة – تشكل الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل أنموذجا لهذا المعنى في ظروف كورونا – إذ تجعل المواطنة الرقمية المواطن تحت الرقابة الدائمة وهو ما يعزز من سلطة الدولة وبطشها في آن معا، بل وتحويله إلى روبوت توجّهه الدولة كيف تشاء خاصة مع تنامي الرقابة الرقمية للإنسان، بل أتقصّد هنا الحديث عن المواطنة العالمية، ذلكم المصطلح الذي طوّرته الأمم المتحدة في العشريات الأخيرة وازدادت أهميته مع الثورة المعلوماتية والثورة الرقمية التي طفقت تخصف عالم ما بعد الحداثة، وشكّلت أدوات التواصل الاجتماعي في هذا السياق عموده الفقري، تشكل أحد المخارج لنا في جدل العلاقة مع سلطة ودولة تكاد لا تعتبرنا من المواطنين وتعتبر الدم العربي والفلسطيني رخيصا ولا يهمها كثيرًا مستقبل الداخل الفلسطيني والعنف المستشري فيه، إلا بمقدار تأثيرات هذا العنف على المجتمع الإسرائيلي وعلى سمعة الدولة خارجيا، وتأثير ذلك عليها بين الدول الغربية الليبرالية، ومن هنا تأتي أهمية نظريات المواطنة العالمية التي طرحتها الأمم المتحدة وإن كانت محمّلة بالمعاني السلبية في سياقنا الفلسطيني العام والمخصوص، بل وفي رؤيتنا للمنطقة والاقليم لا حيث عولمة قضيتنا وتذويبها في سياق كوني بل ومن حيث اعتبار المواطنة الكونية قد ترافق ظهرها أمميا مع ثلاثة أحداث عِظام ضربت منطقتنا: الحرب الأمريكية على العراق، إعلان العديد من المفكرين الأمريكيين والغربيين أننا دخلنا العصر الأمريكي- عصر الكوكلة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي واتخاذ الإسلام بديلًا عنه في الحرب والمواجهة ودواعي الإرهاب، والشروع في تفكيك منطقتنا لصالح مشروع الشرق الأوسط الإسرائيلي، وكانت مقدّماته المباشرة بعد كامب ديفيد اتفاقية أوسلو التي أجهضت مشروع التحرير الفلسطيني، ومن ثمّ فمثل هذا الطرح الأممي حمّال أوجه ويشكّل التعاطي معه إشكالا معتبرًا، ومع ذلك معلوم أنَّ المواطنة هي القاعدة الأساس للممارسة الديموقراطية باعتبار أنها الوجه الآخر للسيادة القومية ولسيادة الأمّة، وبالتالي ففي السياق الإسرائيلي تكون المواطنة سلعة خاصة بالأغلبية اليهودية التي تعتبر الدولة دولتهم، دولة دينية وقومية، ومن ثم فكل من هو خارج هذه الدائرة وإن حمل الهوية الإسرائيلية، فهو في عداد الرعايا ذلكم أن الكيان السياسي الذي قام على أرضنا ومورثاتنا قاعدته الأساس تنطلق من أنّ الدولة والفرد والمجتمع، كل واحد متداخل بعضه ببعض، ولأنّ المواطنة تنظيم محدد للعلاقة بين الفرد الواحد والدولة بكل مكوناتها وبين الفرد الواحد والمجتمع، فإنَّ هذه العلاقة عضوية بامتياز تمنح الفرد والمجتمع والدولة وجودًا معنويًا وحسيًا وتعاضدا في العلاقة، تتواصل وجدانيا ومعنويا وهو غير قائم بين الفرد العربي الفلسطيني والمجتمع الإسرائيلي ولا مع الدولة، بل أذهب الى ما هو أبعدُ من ذلك أن هذه العلاقة، العلاقة التعاضدية المفترض وجودها بين الفرد والمجتمع في سياقنا الفلسطيني، أي على مستوى الداخل الفلسطيني، الواقع الذي يعيش معه الفرد الواحد وفيه، غير موجودة ماديا ومعنويا بمعناه المتكامل، بل هي علاقة مشوّهة تمامًا كحال مواطنتنا المشوهة التي فرضتها علينا المؤسسة الإسرائيلية، وما العنف الذي يضربنا ليل نهار إلا بيان لهذا الانفصام النكد الذي نعيش.

ما حاك جلدك إلا ظفرك
دائما في موروثنا الإسلامي والعربي والشعبي، سنجد ضالتنا في فهم المتناقضات التي نعيش والتحديات التي تواجهنا باعتبار أن الحياة حركة، وقد أتحفنا من سبقنا يوم وثّق هذه التحديات معطى وحلا، إمّا في نصوص أو في أمثال، ومن أمثالنا الشعبية (ما حاك جلدك إلا ظفرك) فمن اعتقد أو ظنَّ أن المؤسسة الإسرائيلية ستعمل على قطع دابر العنف والجريمة فهو غارق في وهم طويل، ولم يستفد من العشريات التي مضت، ومن ظنَّ أنّ معسول الكلام الصادر عن قيادات صهيونية تَعِدنا أنها ستحل المشكلة وهي في أوج موجة الانتخابات للكنيست، فهو أيضا واهم ومن اعتقد أنه من خلال العصيان المدني سينهي المشكلة فقد أوقع نفسه في مشكلة أكثر صعوبة وأشدُّ وطأة، ذلك أننا يوم نلجأ إلى العصيان المدني بمعناه الرحب الشامل لقطع العلاقات كلية مع الدولة ومؤسساتها وما ينجم عنها وما يدور في فلكها، فقد أدخل مجتمعنا في دوامة لا أقلَّ منها ما حدث معنا في أعقاب هبة القدس عام 2000 ولأكون مع دعاة العصيان صريحًا بعض الشيء: هل سيكون دعاته على مقدرة وأهلية مثلا لتجاوز مسألة انقطاع الكهرباء الذي يشكل عصب أساس ليس فقط للبيوت بل ولعديد المصانع والورش باعتبار أن شركة الكهرباء هي في جزء منها حكومية بل هي في الرواية الصهيونية الكلاسيكية من مفاخر المشروع الصهيوني، ولا تقتصر القضية على مقاطعة دفع الضرائب فحسب بل ستتعمق لمقاطعة كل ما له صلة في المؤسسة الإسرائيلية، فهل مجتمعنا في الداخل الفلسطيني بكل مكوّناته ومركباته وتعدداته السياسية على استعداد للتفاعل مع مثل هذا الطرح، وفي سياق جدل العلاقة بين العصيان المدني والمواطنة من جهة وما بينهما من اتصال وانفصال والعلاقة مع الدولة من جهة أخرى، ثمة سؤال كيف سيتم التعامل، مثلا، مع سلطاتنا المحلية التي هي في جوهرها مؤسسات مرتبطة بالدولة وتتغذى منها تمويلا ودعما، فهل سيتم مقاطعة السلطات المحلية، وكيف سيتم التعامل مثلا مع الطواقم العاملة من موظفين وعمال في تلكم البلديات، وهذا غيض من فيض القضايا التي ستواجه دعاة العصيان المدني فضلا عن مدى استعداد المجتمع العربي في الداخل الفلسطيني وسبل التعامل والتعاطي معه ومن هي القطاعات التي ستستجيب لهذا العصيان. ولذلك ففي تصوري من السابق لأوانه تناول مثل هذا الموضوع الذي بينتُ بعضا من معالمه التي تمارس واقعا في مناكفة السلطات.
من الاحتجاج إلى الحراك
الحراك الشبابي الذي انطلق في العديد من قرانا ومدننا في الداخل الفلسطيني ومن مدينة أم الفحم حيث أخذ زخما خاصا، استمر منذ سبعة أسابيع وحقق أخلاقيا بحكم أن الأخلاق في هذا السياق من معانيها القدرة على امتلاك الحرية في السياق الديموقراطي المتاح في راهننا المعاش الساعي لتحقيق جزء من العدالة المتمثلة في ظرفيتنا: تحقيق الأمن النفسي والأمان الشخصي والمجتمعي، وهذه القدرة تتجلى بهذا الحراك الشبابي العابر للحدود الحمائلية والحاراتية والحزبية، وهو ما يبشر بخير كثير في مستقبل مدينة أم الفحم ليس فقط فيما يتعلق بمواجهة العنف “الظاهرة” بل وبرسم مستقبل أفضل لمدينة أم الفحم يتعلق بالعديد من القضايا الشبابية والمجتمعية.
لقد نجح الحراك حتى هذه اللحظات بتحقيق منجز أساس يبعدنا عن معنى العصيان المدني في سياق مواطنة مشوّهة، واستغلال الواقع المأزوم الذي أدخلتنا إليه المؤسسة وعديد من القوى التي شاطرت المؤسسة عمليات التشويه والتنكيص السياسيين على المستوى القطري، وذهب بمدينة أم الفحم إلى فضاء رحب يعني استمراره تحفيز الداخل الفلسطيني للانضمام إلى هذا الحراك، وهو رهان من الضرورة بمكان متابعته إذ تراكم العمل النضالي السلمي يشجّع على مثل هذا الرهان.
كأفراد وكمجتمع مشوّه ومتنافر في عديد قيمه وتطلعاته السياسية البرامجية والاستراتيجية، كما ثمة اختلاف في الرؤى الاجتماعية والمجتمعية، يكون الحراك الشبابي ظاهرة مجتمعية هامة راهنا ومستقبلا ومخرجا لأولئك المنادين بالعصيان المدني، فالحراك الشبابي يعمل من ضمن ما يعمل بأدوات تعود للعصيان كما أوضحنا ذلك في مقالات سابقة من هذا المتن، وفي الوقت ذاته قفز عن معاني العصيان وتعاط مع ذات الأدوات ولكن برؤية تقدمية تمنحه حرية العمل ورفع السقف بشكل مرتفع، وهذا الارتفاع المستمر في أشكال الاحتجاج كلها سلمية وإن كانت خشنة إذ تكمن قوة الحراك بلا عنفيته وهو ما تجلى في الأسبوع الأخير- الأسبوع السابع (26/2/2021)، حيث تورطّت الشرطة ومن معها القوات الخاصة والمستعربين في عنف ضد المتظاهرين جلب ردود فعل محلية ودولية ووصل صداها الشارع الإسرائيلي.
ما يهم في الحراك الشبابي الفحماوي أنه أخرج الاحتجاج من طوره التقليدي إلى حال من المبادرات التي تحمل أوجه كثيرة مستقبلا ستدفع المؤسسة الإسرائيلية للتفكير جديا في كيفية الخروج من مأزق هي السبب فيه. هذا الحِراك يراكم نضالا لعل ما حدث من اعتداء شرطي في الأسبوع المنصرم عليه يؤكده، إذ عنف السلطة مقابل لا عنف الحراك ينقله إلى مربع جديد في جدل العلاقة الذي بات يتخلق بين السلطة التي لم تحرك ساكنا في مواجهة العنف المنظم والحراك الشبابي الذي بات يستحوذ على المجتمع الفحماوي، ويبدو أنه سيدخل كل ربوع داخلنا الفلسطيني مع استمرار موجات العنف الذي بات الكثير على قناعات ان السلطات متورطة فيه.
لست هنا في صدد تحليل هذا الحراك راهنه ومستقبله إذ ثمة ضرورة لقراءة التجارب القريبة التي عاشتها مجتمعاتنا العربية والفلسطينية، إذ ثمة شروط موضوعية تدخل في دوائر المدافعة والحتميات التاريخية تستوجب التعاطي معها لتحقيق اكبر قدر ممكن من الإنجازات ضمن منطق استغلال الفرص والمسافات الضائعة والمتولدة من ذات الحراك. لكن ونحن في سياق حراك يمكنه أن يخرج دعاة العصيان المدني من مثلث العصيان- المواطنة- الإقرار بهذه المواطنة والعمل ضمن سقفها ثمة حاجة لدعم هذا الحراك دعما مباشرا وغير مباشر، إذ هو يبشّر ويؤسس لراهن جديد ضمن معادلات شرعت تتخلق في رحم غيب العلاقة مع المؤسسة والمجتمع والكيانات السياسية، ولعل من مبشّرات هذا الحِراك أنه نجح حتى هذه اللحظات العمل على إعادة الروح النضالية التي راهنت المؤسسة على انتهائها خاصة وأنّ فريقا من الساسة في داخلنا الفلسطيني هبطت مستوياتهم في العشريتين الأخيرتين الى مستوى غير مسبوق بسبب سوء الفعل السياسي الكنيستي الذي أدى إلى تدن هائل في مستويات الخطاب والممارسة السياسية، كان آخرها التوصية على غانتس، وهو ما أفقد هذه القوائم بُعدها الأخلاقي في السياق الوطني والمدني.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى