أوراق في معنى العصيان المدني… الورقة الثالثة
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
سؤال المواطنة والعصيان المدني..
سؤال المواطنة والعصيان المدني، سؤال مطروح في أروقة علماء السياسة والاجتماع والحقول المنبثقة عنهما منذ أمد بعيد، باعتبار أن العلاقة بينهما علاقة جدلية تُرسَمُ على ايقاعات النظم السياسية وكيفية تعاملها مع سؤال العصيان المدني، وقد كثرت الدراسات السياسة ذات الصلة بالمواطنة والحقوق بالعلاقة بين الدولة والمواطن ومسائل الحقوق والواجبات، ويلحظ تطور مستمر لهذه المعاني في تلكم الادبيات خاصة ذات العلاقة بالديموقراطية والليبرالية ومحدثاتها، إذ يميل العديد من الفلاسفة السياسيين إلى أن العصيان المدني وإن كان حقا مكفولا ومقبولا بل وواجبا في ظروف معينة واستثنائية، إلا أنه في سياق الدولة الليبرالية يحاطُ بعديد الملاحظات برسم أن الدول من واجبها أن تكفل حقوق المواطنين وفي مقدمتها الحق السياسي الذي يشكل حجر أساس يُعبرُ من خلاله عن مظلوميته وسبل وضع الحلول لتجاوزها، ويتعمق هذا الحق عندما يصطدم ببعد أخلاقي لا يمكن للدولة تجاهله كما هو الحال في حالتنا نحن في الداخل الفلسطيني، في مسألة الأمن الشخصي والمجتمعي المهدد من غول العنف والجريمة المنظمة، إذ تصبح مسألة حماية الدولة للمواطنين مسألة تتجاوز البعد السياسي والقانوني والحقوقي إلى الأخلاقي، وفي حالة تلكؤ الدولة فإن الجهة المتضررة من حقها الأخلاقي عندئذ وبعد أن استنفذت سبل دفع الدولة لحمايتها، أن تقوم هي بحماية ذاتها بذاتها وهو ما سيخلق إشكالا قانونيا مع الدولة بزعم التجاوز والقفز عنها وأخذ القانون إلى يد دعاة العصيان أو من يقود المجموعات المتضررة (في حالتنا كافة المجتمع في الداخل الفلسطيني) وهذه قضية بحد ذاتها تشكّل واحدة من القضايا المُشكلة في جدل العلاقة القائم مع السلطة في ظل انها تعتبر المجتمع الفلسطيني من الأسئلة المفتوحة، وفي هذا السياق اعتبر أستاذ العلوم السياسة بنيامين نويربنجر علاقة الدولة مع “الأقلية العربية الفلسطينية” ليست فقط سؤالا مفتوحا بل ونقطة سوداء في جدل العلاقة القائم بين النظام كنظام ديموقراطي ليبرالي تعددي، حيث ترى إسرائيل نفسها كذلك، باعتبار أن الديموقراطية الليبرالية تكفل حقوق الأقليات وتحمي هذه الحقوق وهو ما لا يحدث في علاقة هذه الدولة مع هذه الأقلية (الديموقراطية الإسرائيلية: الجذور، التطورات، الأزمات، الجامعة المفتوحة، 2016، ص98) إذ تعتبر إسرائيل نفسها من المنظومة الديموقراطية الغربية وشكّلت المواطنة وفقا لفهمها الطوباوي اليهودي والصهيوني، الحجر الأساس في العلاقة بين هذا “اليهودي” في كل أماكن تواجده والدولة التي قامت من أجله، وبذلك يكون كل يهودي في العالم مهما كان موطنه وما يحمله من جنسية تلكم الدولة، مواطنا إسرائيليا يتقدم على ساكنة هذه البلاد الأصليين وسكانها الشرعيين، وهذا بحد ذاته أحد قضايا جدل الاخلاق والسياسة في هذه الحيثية التي هي ليست حِكْرا إسرائيليا كما يتضح من ممارسات الدول الغربية الديموقراطية مع الأقليات التي تعيش فيها، أو مع الأقليات التي وفدت إليها في مراحل ما بعد الاستعمار وحصلت على الجنسية وقدمت خدمات لتلكم الدول فاقت مواطنيها الأصليين- الحالة الفرنسية كمثال فاقع على ذلك، وتتكشف باستمرار حجم الشِقة بين التنظير والممارسة في هذه النُظُم الديموقراطية وكيف تنظر الى الآخر سواء داخل تلكم الأوطان أو خارجها، ولعل موقف هذه الدول من الربيع العربي واصطفافها إلى جانب أنظمة الفساد والاستبداد يكشف جانب من الاخلاق السياسة المؤدلجة لهذه النظم- ولذلك ظهر في السياق الإسرائيلي مبكرا مصطلح المواطنة المنقوصة وسبل تطبيع العقل والنفسية العربية على القبول والتعامل معه، وشكّلت هذه العلاقة وصمة سوداء في مسيرة الديموقراطية الإسرائيلية كما يراها العديد من علماء السياسة الإسرائيليين وغيرهم من السياسيين.
المواطنة إسرائيليا غير المواطنة في النُظُم الديموقراطية، فهي حصرية وتميزية وفوقية، وفي الوقت ذاته تمنح الأقليات- تتعاطى مع الداخل الفلسطيني بناء على ما تقتضيه السياسات والحاجة والمصالح العليا، فأحيانا يكون التعامل على أساس طائفي صرف أو/وأساس حيزي- جغرافي، وفي أحيان أخرى على أساس بشري-طائفي/ داخلي: بدو، مسلمون، دروز، للمسلمين وللمسيحيين: أرثوذكس، كاثوليك. ودائما الشركس خارج هذه المعادلة. وهكذا- نوعا من المواطنة وتصرُّ هذه المؤسسة على دفع هذه الأقليات على قبول هذه المواطنة والاحتفاء بها وتمجيدها (كمثال عيني على ذلك مسائل الخدمة المدنية بين الشباب والفتيات والخدمة العسكرية بين المسلمين والمسيحيين) وذلك ضمن سياسات الكي والتخلية/الهدم والتحلية/البناء. وفي السياق الإسرائيلي ثمة علاقة وطيدة بين المواطنة والهوية القومية أي الهوية اليهودية وكيفية تعريف الدولة لذاتها، ونجد أن هذه الفلسفة الإسرائيلية القائمة على تقعيد ديني لها نظيرها المؤسس في الفكر الفرنساوي الجمهوراني الملكي، فقد كتب الفيلسوف الفرنسي تشارل رينوفييه (1815-1903) في كتابه المؤسس للعلاقة بين المواطن والدولة/الجمهورية ما يلي: “… المواطن مَدِينُّ للدولة/ الوطن، فالمواطن الصالح ليست حياته إلا واجبا طويلا- أي اتجاه الدولة “ص. ل- الموجز الجمهوري للإنسان والمواطن 1848، ص87”.. وقد ربط رينوفييه الحرية بالمواطنة في سياق سياسي- أخلاقي فأشار الى أن “الحرية، هي المقدرة والقدرة على فعل كل ما لا يضر بالغير وكل ما لا يتعدى على حقوق الغير. مصدر سابق ص88” وبذلك تم تحديد مسبق لحركة المواطن ضمن سياجات معروفة مسبقا تسمى التعدي على حقوق الآخرين، وقد تطور هذا المفهوم والمعنى خلال المئتين سنة الأخيرة ودخل في حوار داخل أروقة الفلسفات الأوروبية، وهو ما يظهر في ملاحظات كثيرة في جدل العلاقة بين المواطنة والعصيان المدني، وذهاب العديد من هؤلاء المنظّرين إلى عدم جواز القيام بالعصيان المدني أو أي شكل من أشكال الاعتراض باعتبار أن هذا الانسان المواطن مدين للدولة بوجوده أصلا تحت سقفها وسمائها.
المواطنة ليست منة من الدولة
عمليا، تشكّل فكرة المواطنة القضية الجوهرية والاساس في العلاقة مع النظام مهما كانت خلفياته الأيديولوجية، ولذلك سعى العديد من الباحثين لتحديد معالمها وأبعادها وكيفية ممارستها، وتشكل المساواة والعدالة والحرية والكرامة الأسس التي تقوم عليها هذه المواطنة باعتبار أن المواطنة هي تمتع الفرد بعضوية بلد “ما” ويترتب على هذه العضوية امتيازات وحقوق تكفلها الدولة تقابلها التزامات من طرف “المواطن” اتجاه الدولة، وتستند هذه المقولة الى طروحات مارتيان (1882-1973) في كتابه “الانسان والدولة” إذ يقول في سياق العلاقة بين الشعب المكون من أفراد والدولة: “إنَّ الشعب فوق الدولة والشعب لا يوجد من أجل الدولة بل الدولة توجد من أجل الشعب (انظر، المجلد التاسع من المؤلفات الكاملة لجاك وريسا مارتيان، كتاب: الانسان والدولة ، ص25)، ومن: “ثم لا تتبلور في الواقع صفة المواطن كفرد له حقوق وعليه واجبات، بمجرد توفر ترسانة من القوانين والمؤسسات، التي تتيح للمواطن التمتع بحقوقه والدفاع عنها في مواجهة أي انتهاك واستردادها إذا سلبت منه، وإنما كذلك بتشبع هذا المواطن بقيم وثقافة القانون، التي تعني أنَّ الاحتكام إلى مقتضياته هي الوسيلة الوحيدة للتمتع بالحقوق وحمايتها من الخرق. (انظر، مفهوم تعريف المواطنة في الموسوعة السياسية”. وبالتالي فالمواطنة ليست منةَّ تتكرّم بها الدولة على الفرد الذي يعيش على أرضها ويحمل جنسيتها إذ به تتقوم الدولة وتصير شيئا محسوسا وقائما وبدونه تصبح دولة فاشلة لا قيمة لها، ولذلك تصبح مسألة العصيان المدني بعيدا عن سقف المواطنة قضية جوهرية يوم تفشل الدولة التي قامت من أجله في حمايته، ومن ثم فالسؤال في وضعيتنا نحن أبناء الداخل الفلسطيني في ظل أن إسرائيل قامت من أجل اليهود، هل نحن نحتج على دولة لم تحمنا لأنها أساسا قامت لحماية اليهودي (منّا ومن غيرنا وبالتالي يصبح وفقا لهذا الفهم العنف المستشري بيننا أداة من أدوات حمايتها لشعبها اليهودي) وترى أن وجودنا مسألة خطأ تاريخي ارتكبته الحركة الصهيونية وميلشياتها في لحظة تاريخية ما عادت تتكر.
سؤال المواطنة المنقوصة..
في السياق الإسرائيلي تتميز علاقة المواطنة بالعصيان المدني في الظرفية التي نعيش نحن أبناء الداخل الفلسطيني بالتناقض والتحدي من نوع مميز، فلا نحن حاصلون على مواطنة كاملة ولا نحن على استعداد للتخلي عن المواطنة المنقوصة لصالح سبيل وواقع مُحدث خاص بنا وبصيرورتنا، فقد ربط الساسة منّا منذ قيام إسرائيل على انقاض شعبنا المشرد وأرضه المنهوبة وجودنا بالقبول بالواقع الجديد، والعمل تحت ظروف ومشروطياته، والمجتمع الفلسطيني في الداخل الفلسطيني ليس مستعدا اليوم التنازل عن الحقوق التي يتمتع بها لأسباب تطورت على مدار العقود السبعة الخالية، وراكم المجتمع في الداخل الفلسطيني وجودا بات فيه عدم الاستعداد للتخلي عن هذه المواطنة المنقوصة واضحا سواء لأسباب تتعلق بوضعيتهم التي يعيشون أو للتطورات التي حصلت في العشريات الأخيرة في عالمنا العربي والقضية الفلسطينية، مما يعني ابتداء أن كل عصيان مدني سيكون في حقيقته في سياقات هذه المواطنة (التي هي مكون في الديموقراطية الإسرائيلية الإثنية/العرقية والتي في حالة أبناء الداخل الفلسطيني كما أشرت منقوصة) إقرارُّ واعتراف بهذه المواطنة المنقوصة من جهة الدولة/إسرائيل والتزام واعتراف منهم أيضا بتبعات هذه المواطنة التي تفرضها المؤسسة الدولة (المؤسسة باعتبار ما يصدر عنها من تشريعات والدولة باعتبار بعديها الجغرافي- البشري والنظامي وما ينبثق عنها من أدوات حافظة للدولة وتشريعاتها).
ثمّة سياق من الضرورة التطرق له ونحن نتناول جدل العلاقة بين المواطنة والعصيان المدني، في أنّ فكرة العصيان المدني لم تكن وليدة اللحظة التي نعيش فقط، أي لحظة استشراء العنف، بل تم طرحها في أكثر من موقع وزمان على مستوياتنا في الداخل الفلسطيني، مما يعني أنّ فكرة العصيان المدني حاضرة في العقل السياسي العربي الفلسطيني في الداخل، وهذا بحد ذاته اعتراف ضمني من طرف من يطرح موضوعة العصيان المدني بالمواطنة “الإسرائيلية” واعتراف ضمني بكل التحورات التي حدثت معنا كفلسطينيين في الداخل الفلسطيني منذ قيام إسرائيل إلى هذه اللحظة، وهو ثالثا اعتراف بهزيمتنا أمام المشروع الصهيوني الذي أنشأ إسرائيل “الدولة اليهودية” على حساب الحيزين البشري والجغرافي الفلسطينيين، وهذا بحد ذاته مساجلة أخلاقية بين من يعتقد أننا جزء من مشروع دولة “إسرائيل” وبين من يعتقد أننا ما زلنا إلى هذه اللحظات خارج “الاجماع الصهيوني” وبين من يعتقد أنّ علاقاتنا مع الدولة علاقة تحرير، ولذلك يعتبر هذا السؤال أخلاقيا بامتياز إذ تتطلب الإجابة عليه جرأة من أولئك الذين يرون بالعلاقة مع إسرائيل علاقة “عداء/تحرير” أو بحد أكثر تخفيفا علاقة أننا خارج الاجماع الصهيوني، من ثم يتسلح بطروحات المواطنة باعتبار إسرائيل ديموقراطية وليبرالية ويقدّم مشاريع مثل دولة المواطنين ودولة كل مواطنيها ودولة المساواة، ليتجاوز الاجماع الصهيوني ويهودية الدولة، فهؤلاء طروحاتهم تُقِرُّ بالمواطنة (المنقوصة) والتي يستعملونها لتحقيق مطالبهم عبر أطروحة العصيان المدني، إذ الأصل في تدبير السياسة والتحرير مع مستعمر وافد أن تكون العلاقة علاقة ثورة ورفض للوجود مهما طال الزمن وبلغت التضحيات، وهو ما لم يحدث وفي تصوري لن يحدث مع العربي في الداخل الفلسطيني خاصة وأن الليبرالية الإسرائيلية في العشريات الثلاثة الأخيرة قد منحته من “نعمائها” المادية بشكل “فردي” ما لا يستطيع التنازل عنه وما الاحتجاجات ضد العنف بكل أشكاله خاصة ذات الأثر المجتمعي الذي ينعكس مباشرة على الفرد إلا بيان لذلك (على سبيل المثال لا الحصر لم نجد من يطرح مسألة العصيان المدني في ظاهرة العنف ضد النساء والتي تشكل في جوهرها انتكاسة أخلاقية وقيمية في حيثياتها العميقة تفوق العنف المستشري هذه الأيام ولم يرق الموقف في هذه القضية وبقي في دوائر ما يسمى المنظمات والجمعيات النسوية العلمانية الطابع).. في هذا السياق تحديدا يطرح سؤال المواطنة الرقمية في سياقها الكوني/العالمي كما تطرحه منذ عقدين منظمة الأمم المتحدة واليونسكو بحيث تكون المواطنة الرقمية هي الحل الأمثل لأولئك الذين يسعون لتحقيق مطالبهم المتعلقة في ترهل الدولة في مواجهة العنف، إذ في سياق السيولة الكونية المتعلقة بالعلاقات الدولية خاصة داخل النُظُم الليبرالية والعلاقة مع الأقليات في تلكم البلدان ومسائل رفع مستوياتهم التعليمية والمعيشية، تلعب المواطنة الرقمية دورا أساس على اعتبار أنّ هذه المواطنة متجاوزة للدولة كذات ومتجاوزة للنظام السياسي باعتباره عضوا في سياق جمعي كوني كما هو حال إسرائيل ووجودها في منظمات دولية مثل الأمم المتحدة واليونسكو ومنظمات مثل الـ “Ocd” واهتمام إسرائيل ليس بسمعتها فحسب بل وبالتأثير على سياسات هذه المنظمة وغيرها من المنظمات الأممية.