«فورين بوليسي»: «أشباه الموصلات».. محور جديد لسباق التكنولوجيا بين أمريكا والصين
يتناول هذا التقرير الخاص الذي نشرته مجلة «فورين بوليسي» أهمية صناعة أشباه الموصلات في سباق الابتكار بين أمريكا والصين، وما يرتبط بها من الجغرافيا السياسية وتحديدًا الدور التايواني في هذه التقنية المتقدمة.
تعد أشباه الموصلات، المعروفة باسم «الرقائق»، مكونًا أساسيًّا للنمو الاقتصادي والأمن والابتكار التكنولوجي. وعلى الرغم من أنها أصغر من حجم طابع البريد، وأرق بعشر مرات من شعرة الإنسان (10 نانومتر)، ومصنوعة مما يقرب من 40 مليار عنصر، فإن تأثير أشباه الموصلات في التنمية العالمية يفوق تأثير الثورة الصناعية.
من الهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر، وأجهزة تنظيم ضربات القلب، إلى الإنترنت والمركبات الإلكترونية، والطائرات والأسلحة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت؛ تنتشر أشباه الموصلات انتشارًا واسعًا في الأجهزة الكهربائية ومجال رقمنة السلع والخدمات، مثل التجارة الإلكترونية العالمية.
ويتزايد الطلب على هذه الصناعة باطِّراد؛ نظرًا إلى أن القطاع الصناعي يواجه العديد من التحديات والفرص، فالتقنيات الناشئة مثل الذكاء الاصطناعي، والحوسبة الكمومية، وإنترنت الأشياء، والاتصالات اللاسلكية المتقدمة، لا سيما شبكة الجيل الخامس، كلها تتطلب أجهزة تتمتع بأحدث التقنيات المتوافقة مع أشباه الموصلات.
بيدَ أن جائحة كوفيد-19 والنزاعات التجارية الدولية تضغط على سلاسل التوريد وسلاسل القيمة في هذه الصناعة، فيما تهدد المعركة المحتدمة بين الولايات المتحدة والصين حول التفوق التكنولوجي بتقسيم سلسلة التوريد أكثر، مما يساهم في حدوث تشظٍّ تكنولوجي واضطراب كبير في التجارة الدولية.
حصان طروادة الصيني لانتزاع التكنولوجيا الأمريكية
على مدى عقود من الزمان، كان للولايات المتحدة قصب السبق في صناعة أشباه الموصلات، بسيطرتها على 48% (أو 193 مليار دولار) من حصة السوق، من حيث الإيرادات، ابتداء من عام 2020. ووفقًا لشركة «IC Insights»، فإن ثمانية من أكبر 15 شركة لأشباه الموصلات في العالم توجد في الولايات المتحدة، ومن بينها احتلت شركة «إنتل» المرتبة الأولى من حيث المبيعات.
في المقابل، تعد الصين مستوردًا صافيًا لأشباه الموصلات، وتعتمد اعتمادًا كبيرًا على الشركات المصنعة الأجنبية – لا سيما تلك الموجودة في الولايات المتحدة – لتمكين معظم تقنيتها. إذ استوردت الصين رقائق بقيمة 350 مليار دولار في عام 2020، بزيادة نسبتها 14.6% مقارنة بعام 2019.
لكن من خلال مبادرتها «صنع في الصين 2025» والمبادئ التوجيهية لتعزيز تطوير الصناعة الوطنية للدوائر المتكاملة، على مدى السنوات الستة الماضية، عززت الصين جهودها باستخدام الحوافز المالية والملكية الفكرية ومعايير مكافحة الاحتكار لتسريع تطوير صناعة أشباه الموصلات المحلية، وتقليل اعتمادها على الولايات المتحدة، وترسيخ مكانتها دولةً رائدة عالميًا في مجال التكنولوجيا.
ومع احتدام المنافسة بين الولايات المتحدة والصين، خاصة في عهد إدارة ترامب السابقة، شددت الولايات المتحدة ضوابط تصدير أشباه الموصلات، من خلال تبني سياسات ترخيص أكثر صرامة، لا سيما تجاه الكيانات الصينية. وفي هذا السياق، تستمر المخاوف بشأن استحواذ الصين على التكنولوجيا الأمريكية من خلال سلاسل التوريد المدنية، ودمجها مع القدرات العسكرية وتقنيات المراقبة الصينية.
تايوان.. على خط النار بين أمريكا والصين
في خضم الصراع بين هاتين القوتين العظميين العالميتين، تأثرت شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات «TSMC»، وهي شركة رائدة في هذه الصناعة، وتمتلك 51.5% من سوق المسابك وتنتج الرقائق الأكثر تقدمًا في العالم (10 نانومتر أو أصغر). وتدعم شركة تايوان الشركات الأمريكية والصينية مثل «آبل» و«كوالكوم» و«برودكوم» و«زيلنكس»، وحتى وقت قريب، كانت هذه الشركة تزود أيضًا شركة «هاواوي»، لكنها قطعت علاقاتها مع الشركة الصينية العملاقة في مايو (أيار) 2020؛ تحت وطأة القيود التي فرضتها وزارة التجارة الأمريكية على موردين شركة «هاواوي»، على خلفية مخاوف أمنية.
وأصبحت تايوان أيضًا نقطة محورية على رقعة الجغرافيا السياسية؛ لأن تحركات إدارة ترامب لتعزيز العلاقات الأمريكية-التايوانية أدت إلى تصعيد حدة التوترات في مضيق تايوان، وزيادة النشاط العسكري الصيني في المنطقة، ما يمثل اختبارًا لقوة عزم إدارة بايدن.
وتشكل هذه العوامل مجتمعة مخاطر كبيرة على أحد المفاصل الرئيسية لصناعة أشباه الموصلات العالمية؛ إذ تمثل تايوان جزءًا من النظام البيئي المعقد لهذه الصناعة، وتجسد على نطاق أوسع مدى الصعوبة المتزايدة التي تواجهها الشركات والدول في البقاء بمعزل عن الجغرافيا السياسية.
ومع تصاعد الخلافات الجيوسياسية والتجارية والتقنية، واستمرار جائحة كوفيد-19 في إلحاق الضرر بسلاسل التوريد وسلاسل القيمة، تحاول شركات أشباه الموصلات تأمين عملياتها التصنيعية عن طريق تخزين الإمدادات أو نقل مرافق الإنتاج، مما يؤدي إلى تعطيل الصناعة ككل.
ونظرًا إلى المكانة المحورية لصناعة أشباه الموصلات في قلب المنافسة الإستراتيجية والتكنولوجية بين الولايات المتحدة والصين، تواجه هذه الصناعة باستمرار مجموعة من الإجراءات الوقائية للتعريفة الجمركية وغير الجمركية التي تهدد الإنتاج والقدرة التنافسية للصناعة.
وفي هذا الصدد، يفحص التقرير الخاص الذي نشرته مجلة «فورين بوليسي» العلاقة الاقتصادية الإستراتيجية المتطورة بين الصين وتايوان والولايات المتحدة على صعيد صناعة أشباه الموصلات، ويدرس التحديات الاقتصادية والأمنية المتزايدة التي تواجه الجهات الفاعلة الرئيسية من القطاعين العام والخاص في هذه الصناعة، ويحدد الفرص المتاحة أمام إدارة بايدن في إطار سعيها إلى تعزيز القدرة التنافسية للولايات المتحدة بموازاة احتواء الطموحات التكنولوجية للصين.
أشباه الموصلات: نقاط رئيسية
– تمثل أشباه الموصلات العمود الفقري للطموحات التكنولوجية المتبادلة بين الولايات المتحدة والصين. وتعد أشباه الموصلات نقطة ضعف تكنولوجية حرجة لكل من الصين والولايات المتحدة – اللتين تعتمدان بعضهما على بعض- وكذلك تايوان، في صناعة أجهزة أشباه الموصلات المتطورة.
– على الرغم من الاستثمارات الضخمة التي تضخها الصين، يُستَبعد تمامًا أن تمتلك بكين قدرات تصنيع مستقلة لأشباه الموصلات في غضون السنوات الخمسة إلى العشرة القادمة. فالشركات الصينية غير قادرة على التنافس مع شركات الدرجة الأولى بسبب محدودية وصولها إلى المعدات والبرمجيات المطلوبة لتصنيع أشباه الموصلات، كما أن افتقارها العام إلى المعرفة الصناعية يعوق تطويرها لسلسلة توريد تتمتع بالاكتفاء الذاتي.
– ستصبح تايوان مركزًا للتوترات بين الولايات المتحدة والصين. وبالنظر إلى دورها المركزي في تصنيع أشباه الموصلات وسلاسل توريد التكنولوجيا، من المرجح أن تستفيد الصين من نفوذها الاقتصادي من خلال فرض قيود تجارية، وتوظيف المواهب والقدرات السيبرانية لمهاجمة الشركات الرئيسية، من أجل الحصول على الملكية الفكرية الأساسية لأشباه الموصلات اللازمة لتعزيز صناعتها المحلية.
– القيود الأحادية التي تعزز انعدام الثقة بين الشركات في البلدين وحكومتيهما تخاطر بفك الارتباط الاقتصادي. ذلك أن التدابير الاقتصادية الأحادية التي فرضتها الولايات المتحدة على أجزاء من سلسلة التوريد، لا سيما الشركات المصنعة مثل شركة تايوان لتصنيع أشباه الموصلات، عززت القلق بين الجهات الفاعلة الخاصة والعامة بشأن تأثير الإجراءات التي يتخذها قادة الولايات المتحدة على سلاسل التوريد العالمية والقدرة التنافسية للشركات.
وإدراكًا منها لنقاط الاختناق ومواطن الضعف الحرجة، بدأت بعض الشركات في تقييم نماذج الإنتاج الجديدة، وتنويع الاستثمارات والموردين؛ للالتفاف على السياسات الاقتصادية الأمريكية، وهو ما يمكن أن يقوِّض صدارة الولايات المتحدة في هذه الصناعة.
– سيكون التعاون بين إدارة بايدن والشركات الأمريكية محوريًّا لتحقيق التوازن بين الأمن القومي والمصالح التجارية. وبالنظر إلى أن الأطر متعددة الأطراف، الخاصة بتنظيم قواعد صناعة أشباه الموصلات، لا تشمل تايوان أو الصين، يمكن لإدارة بايدن تعزيز المنتديات الحالية لتمتين العلاقات الاقتصادية الأمريكية-التايوانية من خلال حوار شراكة الرخاء الاقتصادي، وتمتين العلاقات الصينية-الأمريكية من خلال الحوار الاقتصادي الإستراتيجي.
كما أن إعادة تقييم قوانين الضرائب الحالية، وعمليات منح التصاريح بموجب القانون الفيدرالي «الهواء النظيف»، الذي يثني الشركات حاليًا عن الاستثمار في المصانع الموجودة في الولايات المتحدة، سيكون مهمًّا أيضًا لجذب الاستثمار وتعزيز القدرة التنافسية للولايات المتحدة في هذا القطاع.