منهاج الأنبياء في مقابل منهاج الأثرياء
محمد شباط
إنّ لكلّ عصرٍ معاركه وتقلّباته بين المدارس الفكريّة، تنضج فيه أفكارٌ جديدة وتنطلق إلى العالم لتحاول تطويع قدر ما استطاعت من البشر إمّا بسُبُل الإقناع وإمّا بسبُل التّخويف أو محاولة تسفيه المعتقد الرّاسخ عند المجتمع المستهدَف، وتندثِرُ مدارس فكريّةٌ أخرى لم تتمكّن من النجاة لسرعة تقدّم العالم علميًّا وفِكريًّا، وأخرى تطرأ عليها تعديلاتٌ وتجديدٌ يواكبُ العصر مع الحفاظِ على الأصول القِيَميّة الثّابتة الّتي أسّست لهذا الفِكر وكانت حجر الأساسَ له.
وليس من الغريبِ أن يكون الدّين من المدارس الفكريّة المنتمية إلى الصّنف الأخير، فنحن لا نلبثُ نرى المتمسّكين بفكرة الدّين وأصوله يجتهدونَ لتجديد التّطبيق الدّيني بشكل استمراريٍّ لمواكبةِ العصر، دون التّفريط بأصول الدّين ووصاياه الأساسيّة الّتي يؤمنون بها.
وليس غريبًا كذلك أن يكون هذا التيّار الفكريّ أكثر التيّارات الّتي تتعرّضُ للهجوم ومحاولات التّسفيه والتّشويه المستمرّة، ولا أنّه أكثر التيّارات الفكريّة ثباتًا وصلابةً كونه معتقدٌ متجذّرٌ منذ الأزل، وكون تعاليمه الأساسيّة تحثّ على الإيثار والتّكاتف والتّكافل الاجتماعيّ، الأمر الّذي لا يصبّ في مصلحة مجتمع الأثرياء الّذين شيّدوا أساسات المجتمع الفردانيّ المستهلِك لزيادة الرّبح، حتّى لو كان على حسابِ اللُّحمة الاجتماعيّة وسلامة النّفس الإنسانيّة.
ولقد برعَ المجتمع الرأسماليّ الحديث باستغلال العلم أيّما استغلالٍ لجني المال وخداع النّاس، فيدًا بيد مع الثّورة العلميّة العاصفة التي برزت في القرن العشرين في مجال العلوم الاجتماعية وعلم النّفس والإنسانيّات، رأى العالم منذ ذلك الحين ازديادًا كبيرًا في مجالات التّسويق والتّجارة، هذه المرة بالضغط على نقاط ضعف الإنسان لجعلهِ آلة استهلاك، مخالفين بذلك كل دستورٍ أخلاقيٍّ مكتوبٍ أو غير مكتوب، خادعين به النّاس بشعاراتٍ طنّانةٍ ورنّانة مثل التّقدّم، ولو وقف أحدنا قليلًا وسأل: “التّقدم إلى أين؟” لسقط القناع عن هذه الخدعة وبانت عورتها وظهرت الفجوة الكبيرة فيها، فليس التّقدم قطعًا من الأمور الإيجابيّة، فالتقدّم هو انتقالٌ من نقطة إلى نقطة إمّا مكانيًّا أو زمانيًّا أو شعوريًّا وإيجابيّة التقدّم منوطةٌ بالهدف، فلو قال لك أحدهم: “هلمّ نتقدّم نحو الهاوية” أتراكَ كنت ترافقه؟ قطعًا لا، إن افترضنا أنّك إنسانٌ سويّ.
وفي خضم هذا الهجوم الشّرس على الإنسان، يبرز الدّين كسدٍّ منيع في وجه مجتمع الأثرياء بخطّته الجديدة، إذ أنّ ركائز الدّين الأساس تتمحوّر حول ترفّع الإنسان عن التّبذير الماديّ والإسراف في الغوص فيه، وتحثّه -وتجبره أحيانًا- على إنفاق ماله ومشاركته مع من هم أقلّ منه ثروة، كالصّدقة والزكاة في الدّين الإسلامي، ربط الله الزكاة بدخول الجنّة حين جعلها ركنًا من أركان الإسلام، وغياب هذا الرّكن تقصيرًا من صاحبه رغم قدرته معناه معاندة هذا الشخص لخالقه، وبالتّالي فقد طلب العقوبة بنفسه. وحثّ الله المؤمنين به في مواضع شتّى في كتبه وعلى لسان رسله بعدم الطّمع لما في الدّنيا وما تمثّله مغرياتها المادّية للبشر، ووعد بخيرٍ منها في حال الطّاعة، فجعل للمؤمن خير الحياة وخير الجزاء فيما بعد الحياة إن هو التزم، ويفضّل الكثيرون هذا المنهاج على المناهج الفلسفيّة الحديثة الّتي تبشّر وتنادي وتؤسّس لمجتمعٍ فردانيّ توهن به العلاقات الاجتماعية والتكافل داخل المجتمع الواحد، والذي من شأنه تشويه وتبديل فطرة الإنسان الّذي عاش منذ فجر التّاريخ في مجتمعات يغلب عليها طابع التّكافل والتّعاضُد من أجل النّجاة، ولهذا الأمر أبعادٌ وأهدافٌ سياسيّة خطيرة لا تقلّ خطورة عن الإطار الأخلاقيّ والماديّ والاجتماعيّ البارز.
هيمنة ونجاح الفكر الفردانيّ تعني بكلماتٍ أخرى موت الفكر الدّينيّ والوطنيّ، أو إضعافه في أكثر الحالات تفاؤلًا. فالمجتمعات التي لا يهتم أفرادُها بأفرادِها ستصبح لقمةً سائغةً في وجه أي نظامٍ محتلّ أجنبيّ أو قمعيٍّ محليّ، ومجتمعنا العربيّ عامّة والفلسطينيّ خاصّة يخوض فترةً صعبةً جدًّا هو فيها في أمسّ الحاجة للتّماسكِ من أجل النّهوض، وكون هذا المجتمع مبنيٌّ بالأصل على أساس دينيّ فإنّ خلط الأوراق المتعمّد الّذي يحصل تارةً بتمويلٍ غربيّ أو إسرائيليّ لسياسيّين ومثقّفين عرب لتشويه فكر النّاس وإقناعهم بجدوى تقليد الحداثة متّخذين التّقدّم في الدّول الغربيّة علميًّا ومدنيًّا كمثال، من شأنه إصابتنا جميعًا في مقتل وهذا الّذي بدأنا نلمسه من غيابِ العامل المبدئي عند الكثيرين بعد موجة التّطبيع الأخيرة.
ولم تزل المحاولات تتهافت لتحجيم دور الدّين ومكانته في حياة مجتمعنا العربيّ والفلسطينيّ؛ حتّى بدأنا نرى ازديادًا في أعداد المجنّدين في صفوف جيش الاحتلال وفي صفوف الشّرطة الإسرائيلية القمعيّة من العرب، وحتّى عاينّا ارتفاع الخوف في قلوب العرب من مدّ يد العون لضحايا العنف والقتل، وكلّ هذا التردّي الأخلاقيّ والخيانة الظّاهرة والخوف والفساد المتفشّي في المؤسسات المحليّة والبلديّة ليس سوى لتأثّر أصحابها بالفكر الماديّ الفردانيّ، فقد زاد هذا الفكر من جرأتهم على سرقة وخيانة إخوانهم في الدّين والوطن لملء جيوبهم أو للحصول على شروط حياةٍ مريحةٍ ممّن احتلّهم وقتّل شعبهم، فأيّ ذلّ وأيّ هوان … وكم نحن بحاجةٍ لوضع النّقاط فوق الحروف والعودة والتمسّك ودعم الدّين ليعود إلى الواجهة ويقود النّضال الشعبيّ العادل الّذي نستحق.