قادت الولايات المتحدة العالم في مجال التكنولوجيا منذ الأيام الأولى للحرب الباردة، وعلى مدى ما يسمى بالقرن الأميركي احتلت الفضاء وقادت ثورة الإنترنت وقدمت إلى العالم أبرز الابتكارات.
وفي الأعوام الأخيرة، بذلت الصين جهودا مثيرة للإعجاب للتربع على عرش الريادة التكنولوجية عالميا، واستثمرت مئات المليارات من الدولارات في تطوير الروبوتات وتقنيات الذكاء الاصطناعي والإلكترونيات الدقيقة والطاقة الخضراء وغيرها.
في تقرير نشرته مجلة فورين أفيرز (foreign affairs) الأميركية، يقول الكاتبان كريستوفر داربي وسارة سيوال إن مخاوف واشنطن من التقدم التكنولوجي الصيني تتركز بالأساس على الجانب العسكري، في حين أن القدرات الدفاعية ليست سوى جانب واحد من صراع الريادة التكنولوجي بين القوى العظمى.
وحسب الكاتبين، تلعب بكين لعبة ذكية للغاية، حيث تستخدم الابتكار التكنولوجي وسيلة ناعمة لتحقيق أهدافها دون الحاجة للجوء إلى الحرب. وتبيع الشركات الصينية حاليا البنية التحتية اللاسلكية لشبكات الجيل الخامس في مختلف أنحاء العالم، وتسخر البيولوجيا التركيبية لتعزيز إنتاجها الغذائي، وتسابق الزمن لصنع رقائق إلكترونية أصغر وأسرع.
وفي مواجهة الطموحات الصينية، دعا المشرعون في الولايات المتحدة إلى اتخاذ إجراءات حكومية أقوى لحماية ريادة الولايات المتحدة، منها زيادة الإنفاق على البحث والتطوير، وتخفيف قيود التأشيرات، ودعم المبتكرين، وبناء شراكات جديدة في الداخل والخارج.
لكن المشكلة الحقيقية للولايات المتحدة أعمق بكثير، كما يراها الكاتبان، إذ إن لديها فهما خاطئا للتقنيات الأكثر أهمية وكيفية تعزيز قدراتها. ومع أن الأمن القومي يأخذ أبعادا جديدة، والمنافسة بين القوى العظمى تنتقل إلى مجالات مختلفة، فإن الحكومة لم تستطع حتى الآن أن تواكب التطورات.
ففي مثل هذه البيئة، تحتاج واشنطن إلى توسيع آفاقها ودعم نطاق أوسع من التقنيات، ولا يتعلق ذلك فقط بدعم التقنيات ذات التطبيقات العسكرية، ولكن أيضا بتطوير التقنيات ذات الاستخدامات المدنية مثل الشرائح الدقيقة والتكنولوجيا الحيوية. وتحتاج واشنطن أيضا إلى مساعدة التقنيات الحيوية غير العسكرية لتحقيق النجاح التجاري، وتمويل القطاعات التكنولوجية التي يرفض القطاع الخاص تمويلها.
صعود وهبوط
في العقود الأولى من الحرب الباردة، أنفقت الولايات المتحدة مليارات الدولارات لتوسيع بنيتها التحتية العلمية. تولت هيئة الطاقة الذرية، التي تأسست عام 1946، مسؤولية مختبرات الأسلحة النووية، وموّلت مراكز البحوث الأكاديمية. كذلك، أُعطيت وزارة الدفاع، التي تأسست عام 1947، ميزانية ضخمة خاصة بالبحوث، كما كانت الحال بالنسبة لمؤسسة العلوم الوطنية.
وبعد أن أطلق السوفيات القمر الصناعي “سبوتنيك” (Sputnik) عام 1957، أنشأت واشنطن الإدارة الوطنية للملاحة الجوية والفضاء التي تُعرف بوكالة “ناسا” (NASA) للفوز بسباق الفضاء. كما تأسست وكالة مشاريع البحوث الدفاعية المتقدمة، التي تم تكليفها بمنع حدوث مفاجآت تكنولوجية مستقبلية. بحلول عام 1964، كان البحث والتطوير يستحوذ على 17% من إجمالي ميزانية الإنفاق الفدرالي التقديرية.
لكن مع مرور الوقت، فقدت الحكومة ريادتها في مجال الابتكار التكنولوجي. وفي عام 1964، كانت الحكومة الأميركية تنفق 1.86% من إجمالي الناتج المحلي على البحث والتطوير، ولكن بحلول عام 1994 انخفضت النسبة إلى 0.83%. خلال هذه الفترة، تضاعف استثمار الشركات الأميركية الخاصة في البحث والتطوير.
ويضيف الكاتبان أن أغلب عمليات البحث والتطوير والابتكار لم تكن تحدث في مختبرات الشركات الكبيرة ولكن في الشركات الناشئة الممولة من القطاع الخاص، حيث كان مستثمرو رأس المال المجازف على استعداد لتحمل المخاطر. ظهرت هذه الشركات التي تعتمد على رأس المال المجازف لأول مرة في سبعينيات القرن، وحققت بعضها نجاحات لافتة مثل شركتيْ آبل (Apple) ومايكروسوفت (Microsoft)، ولكن لم يحقق هذا النمط من الاستثمار نجاحا واسعا إلا في التسعينيات مع ظهور الإنترنت.
أدى صعود رأس المال المجازف إلى خلق قدر كبير من الثروة، لكنه لم يعزز بالضرورة من الأمن القومي للولايات المتحدة، حيث اهتمت الشركات الرائدة بالبرمجيات الأقل تكلفة، ولم تركز كثيرا على التقنيات الأكثر تعقيدا مثل قطاع الإلكترونيات الدقيقة.
خارج المعادلة
يشير الكاتبان إلى أن التمويل الحكومي للأبحاث التكنولوجية في القطاعين العام والخاص واصل انخفاضه بمرور السنوات، واحتفظت وزارة الدفاع بأكبر نسبة من التمويل، لكن تلك الجهود أصبحت مشتتة عبر مختلف الوكالات والإدارات، وكل منها يسعى لتحقيق أولوياته الخاصة في غياب إستراتيجية وطنية.
ومع هروب أفضل الباحثين إلى القطاع الخاص، تقلصت الخبرات والكفاءات العلمية في الوكالات الحكومية. كما تدهورت العلاقة بين الحكومة والشركات الخاصة، حيث لم يعد القطاع الحكومي عميلا رئيسيا للعديد من الشركات الرائدة.
بالإضافة إلى ذلك، أدت العولمة إلى تراجع الهيمنة التكنولوجية الأميركية على المستوى العالمي، مع الصعود القوي للصين في مجال التكنولوجيا الاستهلاكية.
ومما زاد الأمور تعقيدا أن الابتكار نفسه قلب المفهوم التقليدي للتكنولوجيا في مجال الأمن القومي. وأصبحت التكنولوجيا ذات استخدام مزدوج أكثر من أي وقت سابق، حيث تُستخدم التقنيات ذاتها في القطاعين المدني والعسكري.
أدى ذلك إلى ظهور نقاط ضعف جديدة، وإثارة المخاوف بشأن أمن سلاسل التوريد الخاصة بالإلكترونيات الدقيقة وشبكات الاتصالات. ورغم أن التقنيات ذات الاستخدامات المدنية أصبحت تشكل تحديا كبيرا للأمن القومي، فإن الحكومة الأميركية بقيت خارج المعادلة، حيث يُشرف القطاع الخاص على هذه الصناعة بالكامل.
قصة الصعود الصيني
كانت هذه التحوّلات في مجال الابتكار التكنولوجي ستبدو أقل أهمية إذا بقي العالم أحادي القطب، ولكنها تكتسي اليوم أهمية بالغة في ظل صعود الصين منافسا جيوسياسيا للولايات المتحدة على قيادة النظام الدولي.
فقد تحوّلت الصين على مدى العقدين الماضيين من بلد “يسرق” التكنولوجيا ويقلّدها، إلى بلد يعمل على تحسين التقنيات الموجودة وابتكار المزيد.
استثمرت الصين بشكل كبير في مجالات البحث والتطوير التكنولوجي، حيث زادت حصتها من الإنفاق التكنولوجي العالمي من أقل من 5% عام 2000 إلى أكثر من 23% عام 2020. وإذا استمر النسق الحالي، من المتوقع أن تتفوق الصين على الولايات المتحدة في مجال الإنفاق على التكنولوجيا بحلول عام 2025.
وقامت الإستراتيجية الصينية على “الاندماج بين العسكري والمدني”، في ظل تنسيق وتعاون كامل بين القطاع الخاص ووزارة الدفاع. وتدعم الدولة جهود الوكالات العسكرية والمؤسسات المملوكة للدولة والشركات الخاصة ورجال الأعمال لتطوير التقنيات التكنولوجية للاستخدامات المختلفة.
وقد يأتي الدعم في شكل منح بحثية أو قروض أو برامج تدريبية أو توفير أراض ومساحات مكتبية، حيث تنشئ الحكومة الصينية مدنا جديدة بالكامل مخصصة فقط لشركات الابتكار التكنولوجي.
ويُظهر استثمار الصين في تكنولوجيا شبكة الجيل الخامس كيف تسير الخطط الصينية عمليا على أرض الواقع. في الحقيقة، تشكل معدات شبكة الجيل الخامس أساس البنية التحتية للشبكات الخلوية الجديدة في مختلف أنحاء العالم، وقد برزت شركة “هواوي” (HUAWEI) الصينية كشركة رائدة عالميا في هذا المجال، حيث تقدم منتجات عالية الجودة بسعر أقل من منافسيها الفنلنديين والكوريين الجنوبيين.
وقد استفادت الشركة من الدعم الحكومي الضخم، الذي بلغ 75 مليار دولار، في شكل إعفاءات ضريبية ومنح وقروض وخصومات على ملكية الأراضي. كما استفادت هواوي من مبادرة “حزام واحد طريق واحد” التي تقدم قروضا سخية للدول والشركات الصينية لتمويل مشاريع البنية التحتية الأساسية في عديد من الدول.
ويضيف الكاتبان أن الاستثمارات الصينية الضخمة في مجال الذكاء الاصطناعي بدأت تؤتي ثمارها بشكل واضح، حيث أصبح الباحثون الصينيون ينشرون أبحاثا علمية في هذا المجال أكثر من نظرائهم الأميركيين.
وإلى جانب التمويل السخي، يرجع جزء كبير من نجاح الصين في مجال الذكاء الاصطناعي إلى قدرة الشركات والمطورين على الوصول إلى كميات هائلة من البيانات.
ومن بين هذه الشركات عملاق التجارة الإلكترونية “علي بابا” (Alibaba) وشركة “تينسنت” (Tencent)، التي طورت تطبيق “وي تشات” (WeChat)، وشركة “بايدو” (Baidu)، التي بدأت كمحرك بحث ولكنها تقدم الآن مجموعة كبيرة من المنتجات عبر الإنترنت، وشركة “دي جيه آي” (DJK)، التي تهيمن على سوق الطائرات المسيّرة، وشركة “سينس تايم” (SenseTime)، التي توفر أنظمة التعرف على الوجه لشبكة المراقبة الحكومية، ويُقال إنها شركة الذكاء الاصطناعي الأعلى قيمة في العالم حاليا.
من الناحية القانونية، فإن هذه الشركات مطالبة بالتعاون مع الدولة لأغراض استخباراتية، وهو عبارة تفويض واسع للحكومة يُجبر الشركات على مشاركة البيانات لأسباب متعددة. وتشمل تلك المعلومات أساسا المستخدمين خارج الصين.
ويرى الكاتبان أن الشركات الصينية نسجت شبكة عالمية من تطبيقات جمع البيانات التي تجمع المعطيات الخاصة للمستخدمين، ويمتدّ تعطش الصين للحصول على البيانات الشخصية حتى إلى معرفة الحمض النووي.
ومنذ تفشي جائحة كوفيد-19، قامت شركة “بي جي آي” (GBI) -وهي أكبر مزود للتسلسل الجيني في الصين- بإنشاء نحو 50 مختبرا جديدا في الخارج مصممة لمساعدة الحكومات في اختبارات الكشف عن فيروس كورونا.
أبدت الصين اهتماما كبيرا بالتكنولوجيا الحيوية، رغم أنها لم تلحق بركب الولايات المتحدة في هذا المجال. وفي ظل تطور الحوسبة والذكاء الاصطناعي، يمكن أن تساعد الابتكارات في مجال التكنولوجيا الحيوية في حل بعض التحديات الأكثر إرباكا للبشرية، بدءا من الأمراض والمجاعات، وصولا إلى إنتاج الطاقة ومكافحة تغير المناخ.
ويُقدّر “معهد ماكينزي العالمي” (McKinsey Global Institute) للبحوث قيمة تطبيقات التكنولوجيا الحيوية في غضون العشر سنوات إلى 20 سنة المقبلة بما يصل إلى 4 تريليونات دولار. لكن هذه التكنولوجيا لها جانب مظلم أيضا، إذ ليس من المستبعد أن تقوم بعض الجهات الفاعلة بتطوير سلاح بيولوجي يستهدف مجموعات عرقية معينة.
وفي ظل الأسئلة الأخلاقية المثيرة للجدل، مثل حدود التلاعب بالجينوم البشري، فإن هناك مخاوف حقيقية من أن تسيطر الصين على التكنولوجيا الحيوية عالميا، وتكسر كل الضوابط والمعايير الأخلاقية في هذا المجال.
ففي عام 2018، قام العالم الصيني هي جيانكوي بتعديل الحمض النووي لطفلين توأمين، مما أثار ضجة دولية. وقد وصفته بكين بالباحث “المارق” وعاقبته. لكن ازدراء الحكومة الصينية لحقوق الإنسان وسعيها إلى التفوق التكنولوجي، يؤشران -حسب الكاتبين- على أنها قد تتبنى نهجا متساهلا تجاه مثل هذه الممارسات الخطيرة.
مستقبل المواجهة
تعهد الرئيس الأميركي جو بايدن باستعادة الولايات المتحدة مكانتها في قيادة العالم، ودعا إلى زيادة الإنفاق الفدرالي على البحث والتطوير، بما في ذلك رصد حوالي 300 مليار دولار للتركيز على التقنيات المتقدمة لتعزيز القدرة التنافسية للولايات المتحدة.
وحسب الكاتبين، فإن تحديد الأولويات التكنولوجية من أعلى هرم السلطة سيجعل من الإستراتيجيات المستقبلية أكثر فاعلية، ويمهد الطريق لسد الفجوات على مستوى الاستثمارات في القطاع الخاص بين مختلف المجالات التكنولوجية، وتوسيع الدعم الحكومي لعمليات التسويق.
ويرى الكاتبان أنه إذا اختارت الولايات المتحدة الاكتفاء بالتركيز على التقنيات ذاتها، فسوف تخسر الكثير على صعيد اقتصادها وأمنها ورفاهية مواطنيها، وتسمح للصين باعتلاء عرش القيادة العالمية دون قيود.
المصدر: فورين أفيرز