في مواجهة الجريمة وغلو السلطة…لا مكان للحيادية والحياديين
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
كل مجتمع أي كان، يملك منظومة من القيم التي تنبثق عنها معايير وسلوكيات جماعية، وهذه القيم بدورها تحدد العلاقة بين الأفراد، وكيف يجب أن تكون، وتكمن أهمية القيم أنها تحفظ المجتمع، هويته واستمرار وجوده وتميزه، وفي هذه الحيثية، حيثية التميز، تتجلى الأبعاد الثقافية في هذا المجتمع، برسم أنّ الثقافة حصيلة عملية تفاعل بين الإنسان وبيئته من جهة، وبرسم أنها تحمل سمات تمنحها هذه الثقافة، الاستمرار والتطور والتفاعل مع ما يدخل على المجتمع من جديد، وتتفاعل معه تحت مشروطياتها الخاصة، بحيث تجعل هذه القيم وافدة في مفرزة الاصطفاء، وهذا كله يتم تحت ظرف مجتمعي متفاعل، شرطه انضوائها تحت منظومة القيم التي توارثها المجتمع.
مجتمعنا في الداخل الفلسطيني، تعرض في السبعين سنة التي مضت لحالة من الانكشاف على الآخر الإسرائيلي، الذي هو أيضا بحكم تعدديته الثقافية والقيمية، يعيش أزمته الخاصة، ولكنْ في هذا السياق سياق السيطرة الإشكنازية على الدولة، فقد فُرِضَ علينا نمط خاص من العلاقة مع الدولة، يمكننا تلخيصه في ثلاثة معادلات، معادلة العداء تستوجب التوجس والرقابة والتعاطي معنا وفق منطق الحسم وكأنهم معنا في حرب، وأدوات هذه المعادلة، أدوات أمنية وعسكرية (تاريخيا تم التعامل معنا عسكريا كما حدث في الأيام الأولى ليوم الأرض) وشرطية، ومعادلة الترويض تماما، كما يتم ترويض الحيوانات، وأدوات الترويض، أدوات ثقافية وتربوية وتفاعلية مجتمعية، وأدواتها تعليمية وتربوية وثقافية، وهذه تهدف بدورها إلى تحقيق واحد من ثلاثة أمور، صهر واندماج، أو تحييد وانزواء، بحكم رد الفعل المتوقع والمرتقب، والمواجهة والرفض، ومن خلال هذا الفرز يمكن للمؤسسة الإسرائيلية أن ترسم خارطة بشرية-ثقافية لمجتمعنا وتتعرف على نقاط قوته وضعفه، ومن ثم معالجته وفقا لما تراه مناسبا لسياساتها، أو تفكيك وإعادة بناء، أو تدمير. وشهدت أقليات في العالم، مثل هذه الحالة، حيث تمَّ تدمير بناها الثقافية والأخلاقية وتفكيكها من خلال تدميرها الذاتي، عبر أدواتها العميلة، وهو ما يدفع في سياق سنن التدافع الى المواجهة، ولعل الاحتلال الفرنسي ونمطه الكولونيالي بيان لذلك، ونحن في حالتنا ثمة توجهات ليس فقط لتفكيك المجتمع وجعله يأكل بعضه بعضا، بل الوصول به الى درجة الغليان التي ستدفع فطريا وتدافعيا الى مواجهة أدوات التفكك، في حالتنا الراهنة، أدوات التفكك الخشنة تتمثل في العنف والجريمة، والجريمة المنظمة، والأخيرة كما تكشف عديد الدراسات الدولية التي ربطت الجريمة المنظمة بالإرهاب، اعتبرت الجريمة المنظّمة أحد أدوات أجهزة المخابرات، بل كما قال أحدهم، هي الوجه المظلم لهذه الأجهزة، وفي السنوات الأخيرة تكشفت كثير من العلاقات بين الجريمة وأجهزة المخابرات الدولية، وهذه المواجهة قد تكون خشنة، تماما كما تفكر وتعامل الجريمة المنظمة، وفي تصوري أن بعضَ أرباب السياسات الإسرائيلية يفرك يديه متعجلا الوصول الى هذه اللحظة، ليس حبا في مواجهة الجريمة ومزيد من العنف في الداخل الفلسطيني، بل للذهاب أن هذه الأفعال تصب في دائرة الإرهاب للعودة الى المعادلة الأولى ولكن بصيغ أكثر تطرفا وأشدُّ عنفا.
بين السياسي والمجتمعي…الخزي والعار للحياديين
مجتمعنا في الداخل الفلسطيني، يعيش أزمات متراكمة خلّفتها النكبة والنكسة وما بينهما من حكم عسكري، لكنَّ هذا المجتمع اجترح مجموعة من الأدوات تعينه على الاستمرار في نسق التدافع والمواجهة والثبات، وفي السنوات الأخيرة اجترح سنن الصلاح والإصلاح، وهذه كلها مؤشرات حياة لمجتمعنا في الداخل الفلسطيني، ونحن إذ نرقب حركة المجتمع السياسية والمجتمعية في سياق تقدمه وتراجعه ومرضه ومعافاته، فإنما نشخّص واقعا معقدا، وقد لفت النظر حياد بعض المثقفين من أبناء الداخل الفلسطيني، في الإدلاء بدلوهم في موقفهم من العنف والجريمة ودور السلطة منها، موقف بعضهم من الحراكات الشبابية التي بدأت تتفاعل في الداخل الفلسطيني وواضح انها ستأخذ وقتها الطبيعي والكافي حتى تحقق ثمارها، وهذه الحراكات هي في صياغاتها وتجلياتها نوع من أنواع بناء الذات النضالية للشباب الذين سيقودون مجتمعاتنا في قادم أيامها، وأنظر بعين الإجلال والإكبار لكل مشارك ومشاركة في هذه الحراكات التي يسطّرها جيل يرفض الخنوع والخضوع، ليس لأرباب الجريمة فحسب، بل ولسياسات سلطوية تريدنا عبيدا في سوق نخاسة السلطة، عبيدا نختار عبوديتنا اللاهثة وراء اللقمة والفرج وبهارج دنيا زائلة تمسخ الكرامة. وفي هذه ينزلق كل أولئك المتواطئين من المثقفين والأكاديميين مع الأحزاب الصهيونية، ولا فرق هنا بين يمين ويسار بيدَّ أن اللاهثين وراء الليكود وأحزاب اليمين، قد سقطوا سقوطا مريعا وذروة نفاقهم فاقت كل تصور. وضمن هذه الحيثية ثمة انتقادات لاذعة توجهها القطاعات الشبابية للقيادات السياسية والمجتمعية، وهي انتقادات قلوب ملذوعة حق لتلكم القيادات رهف السمع والإنصات وقبولها وتقبلها، ذلكم أن القيادة هي الوعاء الجامع بغض النظر عن الموقف السياسي والايديولوجي، فالقائد من مهامه المبادرة والمبادأة والمشورة واتخاذ القرار والاستيعاب وقبول النقد مهما كان صعبا وصادما.
لا حيادية في مواجهة العنف والجريمة وتغول السلطة، ومن يقف ويقول ليس لي في الأمر ناقة ولا بعير، وأنا لن يصيبني أذى، فهو واهم من جهة، وسلبي من جهة ومتواطئ إمّا عمدًا أو لا شعوريا من جهة ثالثة، ولذلك فمن واجب المثقفين ان يكونوا على قلب رجل واحد في مواجهة هذا التحدي الطارئ الذي يبدو أنه يعيش دولته وإقبال الشباب التائه عليها.
في هذه المقام، لا بد من طرح ثلاث قضايا ذات صلة بمن يمارسون العنف والقتل، فأمّا الذين يمارسونه من منطلق الظلم والجبروت واعتقادهم أن حماية المؤسسة الإسرائيلية ستجعلهم يمضون في غيّهم كما تناقلت وسائل الاتصال الاجتماعي عن الشاب الجندي الطمراوي الذي أصيب في مواجهته مع قوات شرطية خاصة، فهذه هي مآلاتهم ومن أمثال هؤلاء أولئك العملاء الذين جيء بهم من الضفة الغربية والقطاع ليستمروا في أعمالهم الفاسدة، وهؤلاء يجب فضحهم على رؤوس الأشهاد ومقاطعتهم ولنا في ما صدر من بيان من عشائر مدينة القدس السبت قبل الماضي (23/12/2021) الذين التأموا في ديوان آل غيث وتبيانهم لكيفية نبذ العنف الذي يضرب المدينة المقدسة في مسعى سلطوي مفضوح لإبعادنا عن المسجد الأقصى المبارك، سعيا لفرض وقائع جديدة كما بينت خطابات مؤتمرهم الكريم، العشائر في هذا المؤتمر طرحت مجموعة من القرارات من بينها على سبيل المثال لا الحصر مقاطعة الفسدة والقتلة والمجاهرين بالجريمة وتغليظ الدية في القتل العمد ومقاطعة حملة السلاح ومن يتاجرون به. هذا بيان لكيفية التعامل مع هؤلاء القتلة المأجورين المستأسدين على أهلهم بسلطة فاسدة، فيوم يقف المجتمع صفا واحدا لا تخاذل فيه ولا اختراقات ولا شقوق، والحديث لا يدور عن كل المجتمع فنحن نعلم أن هناك من تورط في المديونيات، وهناك عائلات قبلت أن يكون من أبنائها من يمارسون العنف والخاوة والقروض الربوية الفاحشة وتجار السلاح تحت مسمى حفظ البيضة. والقضية الثانية، هي مسألة التواصل مع الشباب الذين ارتضوا لأنفسهم هذه المسيرة لتبيان مخاطرها وسوء عاقبتها دنيا ودين، فكاتب هذه السطور يؤمن أن خيرا كثيرا يكمن في شبابنا نحتاج إلى معرفة كيفية الوصول إليه عبر مفاتيح يمكننا من خلالها أن نشرع في الحوار والتغيير، مع إدراكنا الى التعقيدات النفسية والاجتماعية التي رمت بكثير من هؤلاء الى أحضان الجريمة والفساد. وأمّا الثالثة، فهي العمل على الأجيال الناشئة والأطفال حتى لا نخسر الأجيال القادمة، خاصة وأننا أمام حقيقة أن هؤلاء الأطفال باتوا يعلمون ما يجري ويدور، ومن ثم فالدور المطلوب أكبر من صراع على مقاعد في الكنيست وتصدر المحافل والإعلام، إنه عمل مهمته الأساس خلق جيل جديد من أبنائنا في الداخل الفلسطيني، مؤسس على قيم وأخلاق، يستوعب متغيرات العصر والحياة الرقمية التي باتت ترافقنا في كل تفاصيل حياتنا، عمل صعب ومقنن ومتراكم، إنه عمل دؤوب كعمل النمل مجلبب بالإخلاص والثبات والمتابعة التي لا تفتر ولا تتوقف تتسم بالمراجعات والتقييم والمثابرة الدائمة ونتائجها لن تكون في يوم أو بعض يوم، بل نتائج هذا العمل تكون طويلة الأمد والى أن نصل إلى تلكم اللحظة تظل سنة المدافعة أداتنا الأساس، وهنا أشير الى ما كتبه السياسي والمفكر والفيلسوف الرئيس البوسني علي عزت بيغوفيتش رحمه الله في معرض حديثه عن المثقفين البوسنيين الذين وقفوا على الحياد حيال جرائم الصرب وحيال الموقف الدولي المتخاذل والموقف الطائفي البغيض لبطرس بطرس غالي امين عام الأمم المتحدة في تلكم الفترة الحالكة من تاريخ البوسنة. ما يلي في مذكراته: “أجِدُ الأطفال رؤيتُهم شديدة الوضوح فيما يتعلق بوطنهم البوسنة، وعن الشعب الذي ينتمون إليه. هذه المفاهيم واضحة في عقولهم وضوحا لا لبس فيه. بينما أسمع من بعض المثقفين ثرثرةً يقال فيها: أنا محايد، الحرب لا تعنيني، أنا فوق هذا كله”، ثم يعلق بيغوفيتش على أولئك المثقفين المتبلِّدين فيقول: “هؤلاء المثقفون المحايدون دائمًا فوقَ شيءٍ ما، خارجَ شيءٍ ما، حتى مع هذا الصراع الدموي الذي قُتل فيه الأطفال، واغتُصبت النساء، هم محايدون. فهل يمكن أن يكون لأي إنسان حقٌّ في الحياد أمام هذا الوضع المأساوي؟!” ثم يضيف بيغوفيتش: “هذا وقتُ نضالٍ، لا وقتَ حياد وسلبية، فالخير والشر لم يتصادما قط بمثل هذا الوضوح الشديد، حتى الأعمى يستطيع أن يميز بين هذا وذاك، ولكن هؤلاء المثقفين محايدون، فيا للعار!!”.
حمى الله مجتمعنا في الداخل الفلسطيني من كل سوء وشر ومؤامرة.