المصالحة الخليجية أسبابها توقيتها وانعكاساتها
د. حسن صنع الله
استطاعت العائلات الحاكمة في دول الخليج العربي، من خلال بناء تحالفات مع قوى خارجية معادية للمحيط العربي والإسلامي، المحافظة على أنظمتها الاستبدادية ذات الكيانات الهشة غير الدستورية والتي لا تحوز على تمثيل شعبي ولا تحترم الشعوب ومقدراتها، فَهَمُّها الوحيد كان ولا زال حماية نفسها. وقد دأب حكام تلك البلاد على وأد كل مشاريع التنمية السياسية والاجتماعية، وحاربوا الحريات بمجملها ومنعوا الحقوق السياسية بحجة المحافظة على السلم الأهلي.
منطقة الخليج وبسبب مكانتها الجيوسياسية خُطِّطَ لها، من قبل أعداء الأمة، أن تبقى جزءًا من الصراع الاستراتيجي المستمر، لإدراك هؤلاء أن الصراع في الخليج سيكون له دائما الاثر السلبي على المنطقة برمتها وخصوصًا على القضية الفلسطينية، فإضعاف الجسم العربي يبدأ من هناك. ومن هذا المنطلق تواترت الخلافات بين دول هذه المنطقة، فنذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، خلاف البحرين مع قطر على منطقة الزبارة وجزيرة جنان وفشت الدبل وهو خلاف استمر قرابة خمسين عامًا، حكمت محكمة العدل الدولية في نهايته بالسيادة لقطر على هذه المنطقة، ومنها أيضًا خلاف السعودية والكويت على منطقة الخفجي التي تحوي كميات هائلة من النفط، وأيضًا خلاف السعودية وقطر على ترسيم الحدود دام قرابة 35 عامًا انتهى باتفاقية ترسيم الحدود عام 2001، وكذلك الخلاف بين الإمارات وعُمان على جزيرة مسندم النفطية انتهى عام 2008 باتفاق البلدان على ترسيم كلي للحدود، وأيضًا الخلاف الحدودي الثلاثي بين السعودية والإمارات وعُمان في واحة البريمي وتمت تسوية الخلاف بتوقيع اتفاق عام 1974. الخلاف الأخير بين دول الحصار وقطر أثبت بما لا يدع مجالًا للشك أن هذه الدول لها مطامع في قطر وأن الهدف من تأجيج الخلاف الأخير (2017-2020) معها كان هدفه احتلال قطر والسيطرة على مقدراتها من قبل السعودية، ولكن المصالح الأمريكية والغربية في قطر حالت دون ذلك.
كان واضحًا أنه لا فائز في المواجهة مع قطر، فالخسارة طالت الجميع، وقد دفعت الثمن الشعوب والشركات الخليجية والأسواق، والأهم من ذلك تقويض مجلس التعاون الخليجي وانتهاء مفهوم الوحدة وحرية الحركة. المصالحة الأخيرة من خلال قمة العلا لن تكون كافية من أجل مداواة الجراح، والسلام المصلحي سيؤدي في النهاية إلى تفاقم الخلافات لأن جذور الخلاف لم تُحل والمطامع لم تنته.
لقد ساهمت بعض دول الخليج في تهميش الديمقراطية والتنمية في العالم العربي والإسلامي من خلال تدخلاتها، كما وساهمت في إدخال قوى خارجية الى بؤر الصراع في العالم العربي، فالمشهد الليبي واليمني لا زالا حاضرين، كما لا يمكن أن ننسى التدخلات في المشهد المصري والتونسي.
تأتي المصالحة الأخيرة لاعتبارات تكتيكية أكثر منها نوعية، حيث أنها لم تنه أسباب الخلاف، وعليه فاعتبارات المصالحة وحساباتها خارجية أكثر منها داخلية، وقد لعب فوز الديمقراطيين في أمريكا وموقف الإدارة الجديدة من السعودية وعلاقة الأخيرة بالرئيس السابق ترامب، وإمكانية ابتزازها في ملف مقتل خاشقجي، وموقف الإدارة الجديدة من ملف اليمن، وإغراق السعودية السوق بالنفط الرخيص، دورًا أساس في تعجيل السعودية لحل الخلاف مع قطر، في تنازل واضح من قبل السعودية عن الاشتراطات التي اشترطتها لتسوية الخلاف مع بقية دول الحصار، فبين ليلة وضحاها أصبحت نقطة الخلاف حول الحركات الإسلامية، التي تعتبرها الإمارات مصدر التهديد لاستقرار الخليج، لم تعد ذات صلة، لا بل إن قطر أكدت أنها ستقوم بدعم ما تريده الشعوب، أما فيما يتعلق بالملف الإيراني فحثت قطر دولَ الحصار على الدخول في حوار معها، تلعب قطر فيه دور الوسيط، كما أن القاعدة التركية في قطر لم تُغلق. ولكن في المقابل وافقت قطر على إيقاف دعاوى كانت قد رفعتها أمام منظمة الطيران المدني الدولي ومنظمة التجارة العالمية، ووافقت الأطراف على وقف التصعيد عبر الإعلام.
مما لا شك فيه أن المصالحة الخليجية جاءت لتخدم الإدارة الأمريكية والمؤسسة الاسرائيلية من أجل بناء ائتلاف دولي واسع هدفه وقف النفوذ الإيراني ومنعها من بناء ما يسمى الهلال الشيعي، وبالتزامن أيضًا كبح واحتواء تركيا في المنطقة وخصوصًا في منطقة شرق المتوسط.
أما فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية التي لم تُطرح في محادثات الدول المطبعة مع الجانب الإسرائيلي، فإن إدارة بايدن مهتمة بالمضي قدما بنهج الإدارة السابقة في فرض مزيدًا من اتفاقيات التطبيع في المنطقة، فالاستمرار في مسلسل التطبيع سيكوّن “لوبي” عربيًا إسلاميًا ضاغطًا من أجل التخلص مما بات يسمى خليجيًا عبء الملف الفلسطيني، ومن ثم العمل على تصفية القضية الفلسطينية وتخليص المؤسسة الاسرائيلية من عبء إدارة الصراع. فدول الخليج بالتعاون مع مصر والأردن تسعى حاليًا إلى إفشال المصالحة وفرص الوصول الى وحدة وطنية فلسطينية، مستغلين وجود خلاف بين نهجين الأول وظيفي لا يملك برنامجًا وطنيًا والاخر مقاوم بشتى الوسائل، وكل ذلك بهدف تجديد المسار التفاوضي العبثي لتمرير صفقة القرن من أجل تصفية القضية الفلسطينية.
لقد دُفعت دول الحصار دفعًا إلى المصالحة مع قطر من قبل الإدارة الأمريكية، بهدف الضغط لاحقًا على قطر من أجل التطبيع مع المؤسسة الإسرائيلية، والتي بالرغم من وجود قنوات غير رسمية معها من أجل الملف الفلسطيني، إلا أنها قطعت علاقاتها معها عام 2009 إثر الحرب على غزة وتنفيذ عملية “الرصاص المصبوب”. فالأرباح التي ستجنيها المؤسسة الإسرائيلية من التطبيع مع قطر جمة، أهمها استغلال قطر في الضغط على جماعة الإخوان المسلمين، وإمكانية لعب قطر دور الوسيط في تخفيف التوتر مع تركيا، واستغلال الأموال القطرية في تخفيف الأزمة الاقتصادية في قطاع غزة والضغط على قيادات حماس هناك، هذا بالإضافة الى تأمين احتياجات المؤسسة الإسرائيلية من الغاز المُسال، وفتح السوق القطرية أمام المنتجات الإسرائيلية الزراعية والدوائية والتكنلوجية والأمنية، وبناءً على ما حصل مؤخرًا وجَعل المؤسسة الإسرائيلية مشاركةً فيما يُعرف عسكريًا بالمنطقة الوسطى فتكون المصالحة الخليجية قد خدمت المؤسسة الإسرائيلية بحيث يحق للطائرات الإسرائيلية الهبوط في القواعد الأمريكية في قطر.