القدس تقبض على الجمر فهل من معين؟!
أميّة سليمان جبارين (أم البراء)
القدس بوابة الأرض إلى السماء، قِبلة العاشقين، ومسكن الفاتحين والعلماء، ترابها جبل بدماء الشهداء، هي الأرض المباركة بتوقيع رباني في سورة الإسراء: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ)، وفي تأكيد ذلك أخبرنا الرسول عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم في الحديث الشريف: (لا تُشدّ الرّحال إلا لثلاثة مساجد: المسجد الحرام، المسجد النبوي، والمسجد الأقصى). وهنالك الكثير والعديد من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تثبت إسلامية هذه الأرض المباركة ووقفها على المسلمين عامة، فهي ملك خاص لجميع المسلمين على مرّ الأزمان، إلا أن القدس (الأرض المباركة) ما زالت ولم تزل محل صراع عقائدي مع اليهود، وقد بيّنتُ بالأدلة الواضحة والبراهين القاطعة في مقال سابق، تحت عنوان (أبجديات الصراع على القدس والمسجد الأقصى) كيف أن هذه الأرض المباركة لم تكن في يوم من الأيام لغير المسلمين، إنما هي وقف إسلامي لجميع أبناء الأمة الإسلامية لا يمكن التنازل عن شبر واحد من هذه الملكية، ولا يحق لأي كان أن يتنازل عنها أو يبيعها أو يوهبها، وبقي هذا الثابت العقائدي واضحا لا يجرؤ أي إنسان على التفاوض عليه، إلى أن تجرأ ثيودور هرتزل واستغل فرصة ضعف الخلافة العثمانية بسبب تراكم الديون عليها، وظهور تركيا الفتاة، والإتحاد والترقي التي كانت تشعل الفتن وتأجج الشعب على العصيان على الدولة والسلطان، فطلب هرتزل من السلطان عبد الحميد الثاني، أرض فلسطين لإقامة دولة لليهود عليها، مقابل أن يقوم أغنياء اليهود بسداد ديون الدولة العثمانية وإعطائها مليونين ليرة، زيادة، ثمنًا للقدس، فكان جواب السلطان عبد الحميد، التاريخي، الذي يكتب بمداد الذهب، حيث قال بما معناه: لن أعطيكم فلسطين حتى يوقع كل المسلمين على تسليمها، كما قال: بعزة المسلم أن القدس لا تقدّر بثمن مادي، ولو دفعتم كل ملايينكم، لأنها بشرى لمعراج رسول الله، وإن لم نستطع حماية عزة القدس، فهذا يعني أننا فقدنا عزتنا. وهكذا، ومنذ سقوط الخلافة الإسلامية، ومنذ ما تسمى اتفاقية سايكس بيكو ومن بعدها وعد بلفور بإقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين حتى إعلان إقامة المؤسسة الإسرائيلية في العام 1948 بدأ الكيان الإسرائيلي يعمل ليلا ونهارا دون كلل أو ملل، حتى استطاع في العام 1967 احتلال مدينة القدس، تأكيدًا و تنفيذًا لما قاله بن غوريون وردده بيغن: (لا قيمة لإسرائيل بدون القدس ولا قيمة للقدس بدون الهيكل)، ومنذ ذلك التاريخ، أي منذ احتلال القدس، وبتوافق مطلق داخل الكيان الإسرائيلي، ما بين أعلى سلم الهرم فيه، حتى القاعدة يعملون سرًا وعلانية وبتناغم سياسي، من أجل هدم قبة الصخرة المشرفة وإقامة هيكلهم المزعوم مكانه، الذي حتى الآن لم يستطع الاحتلال بكل قوته البحثية والتكنولوجية، إضافة للحفريات التي حفرها تحت المسجد الأقصى وقبة الصخرة، أن يثبت وجود حجر واحد أو وجود أي دليل يثبت ادعاءه الباطل، أن قبة الصخرة المشرفة، قد بنيت على أنقاض الهيكل المزعوم. ورغم فشل الاحتلال بإثبات إسرائيلية أو توراتية القدس، إلا أنهم ما زالوا يحفرون الأنفاق التي تسببت بالكثير من التصدّعات في جدران المسجد الأقصى، والمباني المحيطة به، وتسعى سلطات الاحتلال لعزل مدينة القدس عن محيطها من خلال عمليات الاستيطان حول القدس.
فها هو الاحتلال اليوم، بصدد إغلاق مدخل العيزرية، وشق طريق جديد يسمى (طريق السيادة) وبتنفيذ هذا المخطط، سيتم فصل جنوب الضفة الغربية عن وسطها وشمالها، ومع تغول المستوطنات وتكثيف بنائها في محيط القدس، سيتم بناء مدينة القدس الكبرى. وللأسف الشديد، فإن هذه البؤر الاستيطانية تتم تحت أعين خونة العرب والمطبعين، لا بل فكما نعلم أنه ثبت وبالدليل القاطع تورط بعض الدول المطبعة بشراء عقارات من أراض وبيوت مقدسية وسمسرتها للاحتلال الإسرائيلي.
وقد استطاع الاحتلال الإسرائيلي، بكل مدّخراته البشرية، بدءا من رئيس الحكومة، إلى وزراء وصحفيين ومحللين سياسيين، استغلال التطبيع مع الدول العربية، والاستفراد بالقدس والأقصى، وكان أول هؤلاء رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو حين أعلن (عام 2015) أنه عام الصلاة في المسجد الأقصى بالنسبة لليهود، ومنذ ذلك التاريخ والاحتلال يحاول فرض واقع جديد من خلال تقسيم المسجد الأقصى، تقسيما زمانيا ومكانيا، فبداية بدأت قطعان المستوطنين الدخول لساحات المسجد الأقصى في ساعات الصباح الباكر، ويتوجهون فقط إلى القسم الغربي منه، حيث مصلى باب الرحمة وحائط البراق، وبالمقابل يقوم جيش الاحتلال بالتضييق وإرهاب المرابطين وسجنهم ومحاولة كسر إرادتهم في الرباط، لا بل والأنكى من ذلك، حين يخرج علينا بعض ممن يدّعون أنهم دعاة أو وزراء في دول مطبعة ويهتورون في حديثهم بأن القدس أو بالأحرى المسجد الأقصى، مكان عبادة لجميع الأديان، دون استثناء، وهؤلاء طبعا من دعاة الديانة الإبراهيمية الجديدة التي اختلقتها الماسونية العالمية، وكل هذا يحصل تحت أعين العالم المتخاذل والأعمى!! الذي يغض الطرف عن كل هذه الانتهاكات العنصرية والظالمة بحق أبناء الأرض المباركة، لكننا واثقون وموقنون أن الرب الذي منع هدم الكعبة على يدي أبرهة، سيمنع هدم قبة الصخرة على يدي المؤسسة الاحتلالية وكل من يساندها ويقف إلى جانبها. وأول هذه الضربات الإلهية أصابت الأحمق الأمريكي ترامب، الذي أعلن عن نقله للسفارة الأمريكية إلى القدس، متحديا كل المواثيق والاتفاقات الدولية، التي تنصّ بأن القدس عربية، وهو بذلك التصرف الأرعن يساعد الاحتلال بتحويل قضية القدس من قضية عقائدية إلى قضية أرض جغرافية متنازع عليها، وذلك لتهميش وتحجيم قضية القدس والمسجد الأقصى. لكن إن الله له بالمرصاد!! لأن الرصاصة الأخيرة التي أطلقها ترامب على قضية القدس بموافقة خونة العرب من المتصهينين والمطبعين، قد أصابته هو وقتلته سياسيا وذلك بتخلي اللوبي الصهيوني عن دعمه في الانتخابات الأخيرة، وهكذا سقط ترامب وسيسقط معه كل الرؤساء والحكومات التي سقطت في امتحان القدس، وستبقى القدس هي القدس، قضيتنا الإسلامية بالنسبة لنا كمسلمين، وقضية إنسانية بالنسبة لأحرار وعقلاء العالم أجمع.
وأخيرا وليس آخرا، أود أن أؤكد أن القدس والمسجد الأقصى وفلسطين هي الأرض المباركة التي لم ولن تكون لغير المسلمين، ولا يملك أي كان أن يوقع على تنازل عنها مهما بلغت قوته أو جبروته.
في هذا المقام، أود أن أتوجّه بكل التقدير والاحترام لجميع المرابطين والمرابطات من أبناء القدس والداخل الذين منعوا تنفيذ العديد من مخططات الاحتلال في المسجد الأقصى، وينوبون عن أشراف وأحرار أمتنا الإسلامية، وأخص بالذكر شيخ الأقصى، الشيخ رائد صلاح حفظه الله وفك بالعز والنصر أسره الذي كان لنا نعم المعلم والمرشد والموجه لما يحاك من مؤامرات اسرائيلية بحق مسجدنا ومسرانا، وها هو يدفع من سنين عمره ثمنا لذلك. وآخر دعوانا أن صل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه.