“المشتركة”… سياسات وتساؤلات
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
مع اقتراب الجولة الرابعة لانتخابات الكنيست في آذار القادم، ترتفع حمى ووتيرة الجدل السياسي في البلاد عموما والداخل الفلسطيني خصوصا، وتتبدى حالة من السيولة السياسية، خاصة في ظل تراجع مستمر للقائمة المشتركة، وفقا لما تشير إليه استطلاعات الرأي حتى هذه اللحظات. مع تأكيدي أن هذه الاستطلاعات مُشكَل أمرها.
لست هنا في معرض التعرض لمن هو السبب في هذا التراجع، ذلكم أن هذا الموضوع مبحثه حقلي وليس مجرد تحليلات، لكنْ المؤكد أنَّ القائمة المشتركة تمرُّ في أسوأ مراحل وجودها، وظنّي أنه ما من أحد من السياسيين في الداخل الفلسطيني، ممّن يحملون همّا وطنيا وروحا نضالية، وإن كان من المقاطعين لانتخابات الكنيست، أي كانت خلفيات هذه المقاطعة، توقّع أن تصل حالة المشتركة إلى ما آلت إليه، خاصة في ظل التلاسن الجاري بين قطبيها الجبهة والحزب الشيوعي، والاسلامية الجنوبية.
ثمة حاجة الى دراسة الصيرورات والسيرورات التي عاشتها المشتركة منذ تأسيسها وإلى هذه اللحظات، دراسة تفكك وتحلل هذه الظاهرة التي جمعت متناقضات فكرية وأيديولوجية وسلوكية، تحت سقف المصلحة العليا للجماهير العربية في الداخل الفلسطيني، علما أنَّ حظوظا انتخابية صرفة كانت سببا لتشكيل القائمة.
كل من رافق مسيرة وصيرورة هذه القائمة، ما كان يتمنى أن تصل بمسلسل انزلاقاتها إلى حد التوصية على مجرم حرب اعتبر قتله للفلسطينيين من مواد وشرعية وجوده السياسي والانتخابي، بل ورفض أن يكونوا شركاء له ولو من الخارج كقوة مانعة كما فعل.
وصلت الأمور بين القائمة المشتركة إلى حد سيء لا يخفى على المراقبين للعملية السياسية وتحركاتها، سواء كانت علنا أو في الخفاء، كان آخر تجلياته ما قام به الدكتور منصور عباس من تواصل مباشر مع الليكود ورئيسه نتنياهو، والذي في تصوري لم يكن وليد اللحظة، وهو موضوع ثمة حاجة لدراسته بموضوعية وشفافية في سياق رؤية تاريخية سياسية لمنهجية وتفكير الحركة الاسلامية الجنوبية، وهذا ليس موضوعنا في هذه المقالة ولا في غيرها من المقالات، بل محله مراكز الأبحاث ودراسة السياسيات، ومع ذلك، فهذا العمل السياسي الصادر عن النائب عباس لم يكن قاصمة الظهر في هذه المشتركة، فقد سبقه كما ذكرت آنفا التوصية على مجرم حرب، وسبقه زيارة أيمن عودة للكونغرس الأمريكي، رمز الإمبريالية العالمية ورمز التغول والوحشية ومناصرة الاحتلال، وقد اعتبر البعض هذه الزيارة مهمة لتبيان حقيقة ما يعانيه الفلسطينيون في إسرائيل، وآخرون اعتبروها ذرائعية سياسية (الذرائعية أو البرجماتية: فلسفة تعتقد صلاح الأفكار والطروحات منوط بتتبع واقتفاء أثر نتائجها العملية)، وضمن منطق الواقعية السياسية (أقصد بالواقعية السياسية عكس المثالية وهي من حيث الممارسة صنو الممكن في السياسة) التي هي أحد أبرز سمات النائب العربي، وهي بالتالي تشكل نهجا سياسيا يمارسه كل من دخل الكنيست.
الجدل الذي دار ولا يزال بين مكوّنات القائمة المشتركة والانزلاقات التي وقعت بها هذه القائمة، سواء من خلال سلوكيات بعض نوابها السياسية الفردية، أو ما ارتضته القائمة، أو مركب من مركباتها، هو في حقيقته تعبير عن العقل السياسي لهذه القائمة أو لمركباتها أو لأفرادها. مع التأكيد على وجود فلسفة سياسية لبعض مكوّنات هذه القائمة، إن في العمل السياسي وأدواته داخل الكنيست وأروقتها ولجانها، وإن في التعاطي مع المؤسسة الحاكمة بما فيها مكتب رئيس الوزراء ومن يقف على رأسه، ولهذه الفلسفة أخلاقيات وأجندات تسعى لتنزيلها واقعا مُعاشا، بغض النظر عن النوايا الكامنة وراء هذه الفلسفة ومساعي تنزيلها.
ما يحدث في المشتركة، هو في أحد جوانبه صراع خفي بين الجبهة التي آمنت بالمساواة واعتبرت نفسها جزءا من اليسار الإسرائيلي، وراهنت عليه ورفعت شعار إسقاط نتنياهو كغاية سياسية تريد من خلالها المشاركة السياسية مع هذا اليسار، ووافقتها في ذلك مكوّنات المشتركة، وجرّتهم إليه، وبين الإسلامية الجنوبية، التي لا ترى فرقا بين اليمين واليسار والمركز وتعتمد سياسة المصلحة في التعاطي مع هذه التيارات، وتريد من سياساتها تحقيق أكبر قدر ممكن من الحقوق المدنية للفلسطينيين في الداخل، مدركة استحالة تحقيق مصالح وطنية في دولة يهودية لا تزال تنتظر لحظة الخلاص من هذه “الأقلية” إن تحققت فرصة تاريخية حقيقية. وتكمن خطيئة بعض المحللين السياسيين المحسوبين على مكونات المشتركة، في أنهم يفرّقون بين اليسار واليمين والمركز الإسرائيلي، متجاوزين حقيقتهم الصهيونية واتفاقهم الاساس على المبادئ الرامية إلى بقاء اسرائيل وتجذرها، مقابل ضبط وتفكيك واحتواء “الأقلية العربية”، وبذلك يمكن القول إن خطاب الجنوبية تجاوز هذه الظاهرة التفسيرية، متقدمًا خطوة إلى الأمام في تعاطيه مع السياسة الاسرائيلية من رؤيته الخاصة به للمؤسسة والتعاطي معها، وفقا لتصورات تلكم الحركة القائم على منطقي المصالح والمفاسد، بعيدا عن أدلجة السياسات مع “إسرائيل” كونها ذات قائمة وموجودة يتعامل معها الجميع بما فيهم أعضاء الكنيست العرب، بغض النّظر عن ماهيات هذا التعامل، وكيف يتم، وهو محل نقاش كما يبدو سيعلو صوته مستقبلا في ظل ما يذهب إليه أيمن عودة على سبيل المثال لا الحصر، من أن قوة المشتركة وتَغَيرِ السياسات عند البعض اتجاهها- مثال على ذلك لبيد ويعلون- واستعدادهم للشراكة الائتلافية معها ينبع من تفريقهم بين مكوّناتها فحنين زعبي “مثلا” العضو السابق وبالطبع من يمثلها في السياسة والسلوك السياسي وتدبير السياسات، مرفوض على مركز الخارطة السياسية وبذلك ستعلو اصوات مستقبلية تتعلق بجدل العلاقة المتوقع بين هؤلاء والمشتركة سواء في معايير الشراكة والائتلاف أو في القيم الناظمة لهذه العلاقة.
إن حنق مكونات المشتركة- ليس بالضرورة كافة المركبات- على الدكتور منصور عباس- وليس بالضرورة على كافة أعضاء القائمة الموحدة- يكمن أنه غرّد خارج سربها، خاصة ما تعلق بإسقاط نتنياهو، ولذلك فقد شنّت الجبهة هجوما كاسحا على الجنوبية وعلى شخص الدكتور عباس دون ذكر اسمه، فذكرت في بيانها: “.. في هذا السياق بات واضحًا أن استراتيجية نتنياهو هي إخضاع الجماهير العربية لحالة الوعي الزائف من خلال عمليات التطبيع الإقليمية، وتطويع هذه الجماهير كجزء من “عرب الخليج” وفك ارتباط الجماهير العربية بقضية الشعب الفلسطيني. وبات واضحًا أن بعضًا من قيادات الشق الجنوبي للحركة الإسلامية قد تورّط في التواطؤ مع هذه الاستراتيجية، ومع أهداف نتنياهو وحزب “الليكود” لتفكيك القائمة المشتركة”. وهو تصريح لا يخدم بالضرورة بقاء القائمة على الأسس التي قامت عليها ووقّعها رؤساء القوائم المكوّنة لها وإن طالب عودة ببقاء الموحدة والالتزام بما تم التوقيع عليه من مركباتها متجاهلا شرط القائمة الموحدة الذي طرحته الحركة في بيانها الأخير كشرط لبقاء المشتركة.
تساؤلات..
هناك حاجة ماسّة لبحث آثار هذه الإشكالات والمشاكل داخل القائمة المشتركة على جماهير الداخل الفلسطيني، سواء في سياقات سياسية أو متابعة هموم وقضايا مجتمعنا، وفي مقدمتها القضايا المطلبية الحارقة، كالاعتراف بالمسطحات والاعتراف بالقرى غير المعترف بها في النقب وقضايا هدم البيوت وقانون كيمنيتس أو في قضايا جوهرية استراتيجية ترتقي لِئَنْ تكون في مصاف الهم الوطني كقضايا العنف والجريمة، أو بحث خطة 922 وما نُفِذَ منها وتداعياتها أو فيما يتعلق بثقة الناس في العمل السياسي، بل ولا أبعد النجعة إذا تناولنا مسألة المناعة السياسية للإنسان العربي في الداخل الفلسطيني، خاصة في ظل استبطان الواقعية السياسية والذرائعية السياسية كفلسفة راهنة للعمل السياسي أو/ و عزوف الشباب والناشئة عن العمل السياسي ولجوء بعضهم إلى فضاءات لا تعود بالخير على مجتمعنا، راهنا ومستقبلا، وإلى فضاءات سياسية قد تفاجئ العامة والخاصة مستقبلا، بسبب الفراغ السياسي الذي خلقته المشتركة ومركباتها.
معلوم لكل من راقب العملية السياسية في الداخل الفلسطيني، أن القائمة المشتركة لم تكن ضرورة سياسية ولا مصلحة استراتيجية تتعلق بهموم الناس، بل كانت حاجة انتخابية بعد أن ارتفعت نسبة الحسم الى 3،25% وتماهت غالبية ابناء الداخل الفلسطيني مع هذه الوحدة متشوفين إلى أنها خطوة نحو تحقيق ذات جمعية للداخل الفلسطيني تتخلق مستقبلا نحو حركة وطنية فلسطينية تتداخل فيها كافة الأطر السياسية تحت مظلة لجنة المتابعة. وما يشار إليه من حالة انقسام واختلاف وخلاف داخل المشتركة يضع سؤالا كبيرا حول الخطاب السياسي في المشتركة ومسألتي “الأنا” الحزبية والشخصية التي تتغلب فيما يبدو على المصلحة الجمعية والهَّم المجتمعي، هذا إلى جانب ضرورات فحص هذا الخطاب ودوره في حالة الاختراق الصهيوني الذي بتنا نرى بعضا من معالمه محليا، كما يطرح سؤال آخر حول مسألتي النضوج السياسي داخل المشتركة لتحقيق حالة من التواصل المجتمعي الذي يؤسس لمجتمع أكثر وعيا بواقعه وحاضره، بحيث يكون متفهما لعمل مشترك ليس فقط لخلق حالة تضامنية، بل لخلق حالة عمل تفضي الى تغييرات عملية تصب كسوبها في مصلحة الداخل الفلسطيني عموما.
ثمّة من يزعم أن المشتركة كانت سببا في عدم نجاح نتنياهو من تشكيل حكومة أو على الاقل في عدم الاستقرار السياسي لحكوماته منذ أن تشكلت هذه القائمة وإلى هذه اللحظة، وأنه يستغل فرصة تاريخية يعيشها العرب في الداخل الفلسطيني لشق المشتركة والإجهاز عليها، باعتبارها عقبة كؤود في مسيرته السياسية، وهذا الكلام فيه بعضُّ من بعضِ الحقيقة وليس كاملها فهو سعى لتفكيك المشتركة منذ لحظة ميلادها وهذا صحيح ليس بسبب أنها تعيقه سياسيا بقدر الخلفية الإيديولوجية التي تحركه كما تحرك كل القائمين على الاحزاب الصهيونية من المركز واليمين وبقايا اليسار، فمجرد الوحدة هو خلاف لنظريات اللبرلة السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي يؤمن بها ويدعو لها الليكود منذ ثمانينات القرن الماضي، إذ القاعدة الاساس تذرير المواطن العربي والتعاطي معه فردا لا مجموعة، ولذلك فكل جسم حي جمعي هو مقلق للمؤسسة الاسرائيلية هذا إلى جانب النظرية الجابوتنسكية اتجاه العرب في هذه البلاد، المبنية على أساس ايديولوجي يراوح سياسات المشاركة السياسية والترانسفير، وهو ما سأتطرق له لاحقا.
من كتاب “الرقابة الشاملة: نشأة السياسات الإسرائيلية في إدارة السكان ومراقبتهم والسيطرة السياسية تجاه الفلسطينيين” للبروفيسور أحمد سعدي، يتساءل في الفصل السابع: “لعل إعطاء السكان الخاضعين تمثيلًا سياسيًا قد رمى إلى غايات أخرى غير تمكينهم من أن يكون لهم أثر في النظام السياسي! نحن رأينا أن الأنظمة الاستعمارية، على سبيل المثال، وفي مقدمها النظام الاستعماري البريطاني، عمدت إلى تعزيز النخب المحلية الكومبرادورية – أو الوسيطة – في المستعمرات. مع ذلك، ظلت هذه النخب زمنًا طويلًا تؤدي أدوارًا غير النضال من أجل التحرير. فهل ينسجم دور أعضاء الكنيست العرب، الذين انتُخِبوا ضمن قوائم الماباي (الحزب الحاكم) بصورة خاصة، مع هذا التفسير لدور النخب المحلية في ظل الاستعمار؟”. وفي اعتقادي أن السؤال ما زال مفتوحا ولم يغلق وما هو صحيح بالنسبة لأعضاء الكنيست العرب المتصهينين-أي المنتسبين تاريخيا لقوائم تابعة للماباي أو انتخبوا في قوائم تلكم الحركات والاحزاب- هو صحيح تماما بالنسبة لأعضاء الكنيست المنتخبين من قبل قوائم واحزاب عربية، وطبعا راهنا، القائمة المشتركة التي اشتغل عديد أعضائها في السنوات الاخيرة ككومبرادور-وسيط- مع السلطات.