مستقبل المنطقة بين طائرة بن علي وطائرة إل عال
الشيخ كمال خطيب
يوم الخميس الماضي 14/1 كان يوم الذكرى السنوية العاشرة ومرور عقد من الزمان على سقوط وهروب طاغية تونس زين العابدين بن علي مع بداية أول نسمة من نسمات ثورات الربيع العربي، يوم حلّقت طائرته في أجواء البحر المتوسط لا يعرف له وجهة بعد رفض صديقه ساركوزي رئيس فرنسا استقباله، فما وجد غير حكام السعودية يستقبلونه لتنزل طائرته في مطار جدة. ويوم الاثنين القريب 25/1 فإننا سنكون مع الذكرى السنوية العاشرة ومرور عشر سنوات على وصول نسائم الربيع العربي إلى مصر وانطلاق ثورة 25 يناير التي قادت إلى سقوط حسني مبارك طاغية مصر يوم 11/2 وما أعقب ذلك من حركات مباركة انطلقت في اليمن وليبيا وسوريا، فكانت سببًا في سقوط علي عبد الله صالح طاغية اليمن والقذافي طاغية ليبيا، وكادت أن تطيح ببشار الأسد طاغية سوريا لولا التدخل الإيراني السافر والتدخل الروسي السافل وتآمر عناوين ومموّلي الثورات المضادة، السعودية والإمارات وطعنهم بالثورة السورية.
عقد من الزمان، عشر سنوات ابتدأت بتساقط طواغيت تحت أقدام الجموع والجماهير الثائرة، وانتهت بتهافت طواغيت عند أقدام ترامب ونتنياهو في مسيرة تطبيع وذل غير مسبوقة. هؤلاء الذين سقطوا عند أقدام نتنياهو ومشوا كالقطيع في مسيرة التطبيع هم أنفسهم الذين تآمروا على ثورات الربيع وأجهضوها، سواء كان ذلك عبر الانقلاب الدموي الذي قام به السيسي ضد الرئيس الشهيد محمد مرسي في مصر أو كان عبر دعم أمثال السيسي لاقتناص فرصة للاستيلاء على الحكم كما فعلوا بدعم حفتر في ليبيا ومحاولة العبث بتونس واستمرار عبثهم في اليمن الذي أدى إلى اغتنام الحوثيين الفرصة واغتصابهم لصنعاء عاصمة اليمن فعوّضوا ذلك بدعم أمراء حرب فاسدين للاستيلاء على عدن العاصمة المؤقتة.
ومع انتهاء هذا العقد والسنوات العشر على بداية ثورات الربيع العربي فبين قائل إن ربيع الأمل قد تحول إلى خريف الألم، وبين قائل إنها حالة استثنائية ولن تتكرر، وبين يائس ومحبط بسبب تغوّل الطواغيت الجدد وبشاعة جرائمهم بحق شعوبهم وما وصل إليه حال الشعب السوري واليمني والليبي من حروب وانقسامات، وبين ما وصل إليه حال الشعب المصري من مجازر وتهجير وسجون ثم ما عليه الشعب المصري من فقر وجوع وخوف وكتم أنفاس.
أما أنا فإنني أقول غير الذي يقولون، إنني أقول بأن حالة الإحباط والخوف وانعدام آفاق التغيير كانت هي السائدة في كل الأقطار العربية، وأن انطلاق شرارة ثورات الربيع من تونس يوم 17/ 12/ 2010 بإحراق محمد بوعزيزي رحمه الله نفسه ثم تتطور الأحداث سراعًا وتباعًا قد فاجأت وأذهلت ليس تلك الأنظمة الاستبدادية وأجهزتها الأمنية، وإنما هي فاجأت أعتى أجهزة المخابرات في العالم الموساد الاسرائيلي والسي آي إيه الأمريكي ومثيله الروسي، وإن أي من أبرع مراكز الدراسات في العالم لم يحسن قراءة خارطة ما حصل ولم يتوقعها.
ولما أن الثورات المضادة التي خطفت آمال وبدّلت أحلام الشعوب وفعلت ما لم يفعله طواغيت ما قبل الربيع فإن حجم الغضب قد زاد وأن ملامح صراع الهوية قد تجلّت بشكل غير مسبوق. إن حقيقة هؤلاء الحكام وولاءاتهم المعادية لهوية الشعوب قد انكشفت، فلم يعد السؤال هل نحن مقبلون على تغيير أم لا وإنما السؤال كيف ومتى؟!
إنني يملؤني اليقين والثقة أننا على أبواب مرحلة تغيير فاصلة، إنها لن تكون ربيعًا عربيًا وإنما شتاء إسلاميًا قارصًا كما تخوّف من ذلك يومًا “بنيامين بن اليعازر” وزير حرب إسرائيل بعد سقوط صديقه الحميم حسني مبارك، لمّا قال: “أخشى ألا يكون هذا ربيعًا عربيًا وإنما أن يعقبه شتاء إسلامي عاصف”.
وإذا كان بن علي قد هرب إلى السعودية لاجئًا ومات هناك فإن مضيفه وأشباههم من الطواغيت لم يجدوا هذه المرة مكانًا يهربون إليه من غضبة الشعوب التي ستلاحقهم.
إنني يملؤني اليقين أننا بين يدي إرهاصات تغيير ورياح غضب توشك أن تزمجر لتقتلع هؤلاء الطغاة والفاسدين، وستكون صدمتهم ومفاجأتهم أكثر بكثير بل بما لا يقارن مع حجم صدمتهم من أحداث بدايات ثورات الربيع العربي في مثل هذه الأيام قبل عشر سنوات بالتمام والكمال.
إن هؤلاء ليس أن فسادهم وطغيانهم قد اقتصر على ظلم الشعوب وإذلالها وقهرها، وليس أنه قد اقتصر على الردة عن منجزات ما تم تحقيقه بفضل ثورات الربيع، وإنما وصل بهم الأمر إلى الردة عن معاني الدين وثوابته، وطعنوا في هوية الأمة وعقيدتها وأعلنوها حربًا سافرة على الإسلام دين الأمة وروحها الذي تحيا به، وعليه فإن غضب الشعوب هذه المرة سيكون غضبًا مركبًا بين الانتصار للدين والانتصار للحقوق.
وعليه فيا كل الطغاة المتجبرين، إن عشر سنوات هي ليست كثيرة في عمر الشعوب ولكنها كثيرة وعظيمة في حجم الغضب الذي أودعته في صدور المظلومين والمقهورين، هذا الغضب الذي حتمًا سينفجر في وجوهكم. وإذا كان بن علي قد وجد مكانًا يهرب إليه، فيقينًا أنكم لن تحظوا بمثل ما حظي به وستقفون قريبًا أمام محكمة الشعوب العادلة، ولن ينفعكم عندها لا نتنياهو الذي سارعتم للانحناء عند قدميه ولا ترامب الذي كان يشير إليكم بالسوط كما يشير البهلوان في السيرك إلى قردته المدربين، وفيهم وعنهم قال الشاعر:
ظنّ الطغاة بأن نار جحيمهم أقوى من الإيمان بالقرآن
لا والذي جمع القلوب بشرعه لا لن يطول تجبّر القرصان
أسد العقيدة لن يداس عرينها ستهب كالإعصار كالطوفان
ستموج تقتلع الطغاة لتعتلي فوق العروش شريعة الرحمن
موسم الهروب الكبير
في شهر أيلول من العام 2019 كان مطار بن غوريون يشهد احتفالًا نوعيًا، ليس لاستقبال أمير من أمراء الإمارات والسعودية فهؤلاء في تلك الفترة كانوا لا يصلون إلا خلسة إلى تل أبيب وقد تغير الحال بعدها بعدة أشهر يوم أعلن عن توقيع اتفاقية سلام مع الإمارات وأصبحت الطائرات تروح وتغدو وعليها الأمراء والزعماء.
لكن ذلك الاحتفال المميز كان لاستقبال طائرة جديدة من طراز بوينج 787 اشترتها شركة إل عال الإسرائيلية وقد انضمت إلى الأسطول الجوي الإسرائيلي وهي الثانية عشر من هذا الصنف الحديث.
ولأن تلك الطائرة قد تم إطلاق اسم “أورشليم الذهب” عليها فقد دعي لحفل استقبالها رئيس بلدية القدس الحالي “موشيه ليؤون” والذي سبقه “نير بركات” ووزير المواصلات “بتسليئيل سمورطتش” والحاخام الأكبر لإسرائيل السابق “شلومو عمار” وغيرهم إضافة إلى فرق فنية واستعراضية من القدس وصلت خصيصًا لذلك الاحتفال.
وفي يوم الجمعة 27/9/2019 أي بعد أيام من ذلك الاحتفال فقد تناولت صحيفة هآرتس العبرية ذلك الحدث عبر تقرير موسع امتد على أربع صفحات من ملحقها السياسي أعده الصحفي “موران شرير- מוראן שריר” الذي أسهب فيه بالحديث عن مواصفات تلك الطائرة التي تزن 200 طن والتقنيات الحديثة التي تشغّلها، ثم تحدّث عن الهدف من تسميتها باسم “أورشليم”، فليست الاعتبارات للبركة فقط خاصة وأن حاخام اسرائيل الأكبر “شلومو عمار” قد جاء للمباركة الطائرة وقراءة التعويذات التوراتية داخلها وعليها، وإنما الاعتبارات هي سياسية من الدرجة الأولى لتلك التسمية باسم أورشليم.
لكن الأهم مما ورد في ذلك التقرير وهو ما أبرزه ذلك الصحفي في كلمات طبعت بخط مميز وبارز لتكون هي ملخص التقرير، هي تلك الروح المتشائمة والمحبطة التي لم ولن تنقذها لا طائرة ركاب من طراز 787 ولا طائرة حربية من طراز الشج F35 حيث يقول الكاتب: “كم نحن مشغولون بالتفكير بالسفر إلى الخارج هذه الأيام نحن الإسرائيليين، فحينما لا يكون إلا الفلسطينيين عن يميننا والبحر عن يسارنا، وذكرى محطات الإبادة النازية في أوشفيتس دائما في رؤوسنا وذاكرتنا، فليس لنا عندها إلا الطائرة هي فرصتنا للهروب. صحيح أن قلوبنا معلقة بأورشليم ولكن أرجلنا وأقدامنا تصطف في طوابير على بوابة سفارة البرتغال” حيث الدلالة واضحة بذكر سفارة البرتغال، لأن البرتغال واسبانيا قد سنّتا قوانين تسمح لكل يهودي إسرائيلي يثبت أن أجداده كانوا من اليهود الذين سكنوا في اسبانيا فيحق لأحفاده الحصول على جواز سفر لهاتين الدولتين، حيث كثيرين من الاسرائيليين هذه الأيام يتوافدون على سفارات اسبانيا والبرتغال لتقديم طلبات الحصول على جوازات سفر تلك الدول، حتى إذا كان اليوم الذي يضطرون فيه كما قال الكاتب للهروب فيسهل عليهم عند ذلك ركوب الطائرة والسفر للإقامة في تلك الدول.
وهذا ما سبق وأوصى به “أبراهم بورغ” رئيس الوكالة الصهيونية ورئيس الكنيست السابق في كتابه الذي صدر في العام 2007 وكان بعنوان -أن تنتصر على هتلر- لما قال: “أنصح كل شاب اسرائيلي يستطيع الحصول على جواز سفر إلى أي دولة اخرى فليفعل”.
سينتصرون علينا، هذا حاصل لا محالة
“لا أعرف كيف سيكون الخلاص – אני לא רואה איך יוצאים מזה”. هذه العبارة هي عنوان المقابلة التي أجرتها صحيفة هآرتس العبرية قبل سنتين تقريبًا وتحديدًا يوم 11/1/2019 مع المؤرخ والمستشرق الإسرائيلي “بيني موريس” عميد كلية دراسات الشرق الأوسط في جامعة بن غوريون في بئر السبع بعد أن خرج إلى التقاعد ليس وقد بلغ من العمر سبعين سنة فقط، إنه يميني التفكير والهوية والسياسية والدينية، وإنما هو من مؤيدي نتنياهو وإن كان في مقتبل العمر قد حمل فكرًا يساريًا معتدلًا كما يقول. صحيح أنه خاض في تلك المقابلة في موضوع الأقليات وكيف تعاملت معها الدول لكن تركيزه كان حول نظرته ورؤيته المستقبلية لمستقبل اسرائيل والذي يراه أسود بل قاتم السواد، ليس في تعاملها مع الأقلية الفلسطينية فيها وإنما كيف سيصبح الاسرائيليون أقلية وكيف يتم التعامل معهم.
إن هذا المستشرق اليهودي الإسرائيلي يتحدث عن اليوم الذي سيصبح فيه الإسرائيليون أقليه بين ملايين العرب والمسلمين، أقلية حسب قوله ملاحقة أو مذبوحة، ومن يستطع من اليهود الاسرائيليين النجاة فإنه سيهرب إلى أمريكا أو إلى الغرب. “هم حتمًا سينتصرون علينا، هم سيتغلبون علينا وهذا حاصل لا محالة” بهذه العبارة ختم المستشرق بيني موريس مقابلته التي سماها الصحفي الذي أجرى المقابلة “عوفر إدرات – עופר אדרת” بأنها نبوءة آخر الزمان.
نعم إن مستقبل المنطقة إلى خير بإذن الله تعالى، وإن هذا الربيع العربي الذي تآمروا عليه سيأتي من بعده شتاء إسلامي يعصف بكل المتآمرين وأسيادهم، وأن هذا ليس مجرد أمل أو أمنية وإنما هو وعد الله الآتي.
إننا متفائلون من حيث هم متشائمون بل وغارقون في التشاؤم والسوداوية، وعليه فإن مستقبل المنطقة بل مستقبل الأمة تبرز ملامحه فيما كان قبل عشر سنوات بهروب بن علي بطائرته إلى جدة وسقوط أمثاله من الطواغيت، هذه النسخة الأولى من الربيع العربي والجولة التي ستعقبها جولة أشد منها لا تبقي من الطواغيت ولا تذر بإذن الله تعالى.
وليس هذا وحسب بل إننا نستمد تفاؤلنا وثقتنا بالمستقبل الزاهر من ذلك الإحباط والتشاؤم والسوداوية لا يعيشها العامة من الإسرائيليين، بل إنها التي تلفّ ويغرق بها عليّة القوم من أصحاب الفكر والثقافة والفهم السليم لما يجري في المنطقة.
فإذا كانت وجهة طائرة بن علي إلى جدة فإن وجهة طائرات إل عال ستكون إلى اسبانيا والبرتغال وغيرها وفق قراءة الصحفي والباحث “موران شرير” أو أنها ستكون إلى أمريكا وأوروبا وفق قراءة المؤرخ والمستشرق “بيني موريس”.
نعم ليس ولم يعد السؤال هل هذا سيكون أم لا؟ ولكن السؤال كيف ومتى، وحتى كيف ومتى فقد يراها كثيرون أنها بعيدة ويراها أهل الفراسة أنها قريبة قريبة.
{إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا}.
{وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا}.
{إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ۚ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ}.
نحن إلى الفرج أقرب فأبشروا.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون