العنف في داخلنا الفلسطيني… محاولة اغتيال الدكتور سليمان: النجاة أو الطوفان
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
يَروعُنَا في الداخل الفلسطيني الحجم الهائل الذي افتُتحت به سنة 2021 من أعمال عنف وفوضى واطلاق نار على البيوت، وتعرض للممتلكات وقتل للأنفس ومساع لترويع الناس، وكان منها محاولة اغتيال الدكتور سليمان وهو في أرضه، عصر الخميس الفائت (7/1/2021) في مدينته أم الفحم.
كل ذي لب، دارس للعقيدة الإسلامية، خاصة ما تعلق في أبواب الفتن وأحوال آخر الزمان، لن تخطيء عينه مواءمة النصوص مع ما يحدث في واقعنا المشرقي، ومنه الفلسطيني الذي نعيش، ولكن لا يمكننا، قدرًا ولا سياسة، إخراج ذلك عن جهلنا الكبير في فهم فقه التحولات، وسنن التدافع والتي على ضوئها نفهم تحولات أخلاق الناس والعلاقة القائمة في مجتمعاتنا، إن بين الأخلاق والقيم وتبدلها المستمر نحو مزيد من التردي والانحطاط، وإن في انسحاب الاسرة من دورها في التنشئة والتربية، إلى دور “منحط” مقداره مقدار “رعوي- أي الاهتمام في تقديم المطعم والمشرب فقط”.
لقد خلُصَت الدراسات والابحاث التي أجريت في مجتمعنا في السنوات الأخيرة، في مجالات الأسرة والوالدية، إلى تراجع هائل في دور الاسرة، بسبب تفكك الخلية الحمائلية والانتقال لأسرة نووية، إذ تشير هذه الابحاث إلى أن 76% من الشبيبة ممن هم في خطر، هم من أبناء عائلات تعاني من مشاكل الانتماء للعائلة، والرعاية المقدّمة لهم من الوالدين، وفقدانهم أهلية التنشئة والتربية.
التحولات الجارية في مجتمعنا، دفعت نحو مزيد من الضعف: الضعف في المنظومة القيمية والمعايير التي يرتكز عليها سلوكهم (انظر: المشروع الاستراتيجي لمكافحة العنف والجريمة في المجتمع العربي، لجنة المتابعة العليا لشؤون الجماهير العربية واللجنة القطرية لرؤساء السلطات المحلية، نوفمبر 2019، ص105)، فضلا عن فقداننا السياسة بكونها تدبير للشأن العام والخاص يحتاج الى فعل سياسي تقوده حركة وطنية ذات قيم مرجعية متفق عليها بين كافة المكونات السياسية، ووقوعنا تحت نظام لا يزال يرى فينا الخطر الاستراتيجي الذي يستوجب- وفقا لعقليته- دوام المراقبة ودوام الضغط والتفكيك ضمن سياسات القضم والضم واللم وفرق تسد.
رفض الجريمة مسألة أخلاقية ابتداء..
نحن نواجه العنف في تقديري، لثلاثة أسباب، فقدان الأخلاق والوازع الأخلاقي، وفقدان مَكَنَة الحِوار وفقدان المرجعية. وبفقداننا هذه المرتكزات الثلاثة، تتخلق القابلية للعنف ومن ثم شرعنتها. ويحدث أنْ يتكون لدى “الممارس للعنف/ العنيف” حالات من التجبرُ والسطوة وحب النفوذ والسيطرة، إذ بفقداننا منطق الحوار والفهم، يكون البديل العنف بكل أنواعه، وما يتغشى ممارس العنف من جهل مركب مجتمعي وثقافي وانساني، تتملكه رغبة في التسيد على الآخرين، وحب جارف للسيطرة، وهو ما يدفعه لمزيد من الترويع والخوف حتى يهابه الناس المسالمون، فهو منتهك للقانون وللعرف وللشرع، وبذلك تُنتَزَعُ عنه الانسانية لينتقل من الانسان المُأنسن الى الانسان الابليس مع التأكيد على فقدانه الانسان في ذاته.
من خلال قراءاتي لمسارات العنف في مجتمعنا، فإنَّ أنواع العنف قاسمها المشترك، الجهل، فحيثما وجد العنف فُقِدَ الحوار، وإذا كان الحوار يستلزم الحجة والدليل، وهو عين العقل فإنَّ ضده الجهل، وبذلك يكون الجهل صنو العنف بل وزاده، ومن ثم فهو ضد العقل، وعليه فالعنف والعقل متضادان.
لطالما تساءلت كيف يجرؤ إنسان على قتل أخيه الإنسان، وأن يمارس ضده أنواعا من العنف لا يتصورها إنسان سوي، ولقد وجدت أن الجواب لا يحيد عن واحد من أسباب ثلاثة: الكراهية والحقد والحسد المكنونة في نفسية الممارس للعنف، اتجاه المُعَنَفْ، وهذه التشكيلة تعمي البصر والبصيرة وتميت الضمير، وحب التسلط والسيطرة والنفوذ وجني المال وحيازته الى درجة الهوس والعبودية له، وأخيرًا الاستبداد المجتمعي والجهل، وهما رأس كل ضلالة وفجور، وعليه فالعنف هو اجتماع للجهل والظلم وموت الضمير.
الجريمة أي كانت واي كان نوعها، مرفوضة عقلا وشرعا ونفسا وعُرفا وأخلاقا، ولا يجوز لأي كان أن يبررها ويفلسفها، وما يحدث في داخلنا الفلسطيني من انفلات مجتمعي، أفرز العديد من أعمال العنف، بحيث تعددت أنواعه وخلفياته ومدياته وآثاره البشرية والنفسية والمادية.
في السياق الإسرائيلي، مارست المؤسسة العنف علينا كفلسطينيين ولا تزال، والمُشكلْ أنه نشأ من بيننا من استمر في سياسات المؤسسة الإسرائيلية، منتقلا بالعنف المؤسسي إلى عنف مجتمعي سعت إليه السلطة وأوغرت بعض الضَّالين للاستمرار بهذه الممارسات العنيفة، وهذه المجموعات إذ تمارس العنف، فالمطلوب منها أن تنشره أفقيا وعموديا، أفقيا على مستوى المجتمع وعموديا على مستوى الاعيان، ولذلك فكل قتل وإطلاق نار تتحمل مسؤوليته الشرطة ومن يدور في فلكها.
إسرائيل ليست بدعا عن الدول الاستعمارية على مدار التاريخ، فقد استفادت من تجارب الآخرين، وسخّرت معاهدها الفكرية والبحثية والعلمية لدراسة المجتمع الفلسطيني، وفككته تفكيكا دقيقا، طال كل تفاصيل الحياة، وهذا ما تفعله المؤسسة الإسرائيلية.
محاولة اغتيال الدكتور سليمان أحمد…
لا يمكننا أن نقرأ محاولة اغتيال الدكتور سليمان القائد الفحماوي والقيادي الإسلامي، دون أن نتطرق إلى سياسات الشرطة وأجهزتها المختلفة ذات الصلة وفشلها “المتعمد” بالكشف عن الجرائم والقتلة التي ترتكب يوميا في مجتمعنا الفلسطيني، فالشرطة كانت وستبقى أداة قمع سلطوية تتعامل معنا من منطلقات أيديولوجية تعتبرنا أعداء، والعدو كل أنواع المواجهة مسموح استعمالها ضده، وبالتالي يصبح شعار مواجهة الوجود الشرطي ورفضه في مدننا وقرانا، أمرا أخلاقيا قبل أن يكون سياسيا، وفي الوقت ذاته لا يمكننا أن نخرج عن ما ذكرته في متن هذه المقالة من جدل العلاقة القائم بين العنف والاخلاق ومفاعيله في المجتمع وفي مقدمتها الجهل.
لست هنا بصدد الحديث عن شخصية الدكتور سليمان أحمد، فالله حسيبه ورقيبه، وكل من عايشه يعرفه جيدا، فهو ممن حمل معنى الرجولة بقيمها الشرعية والعرفية ولا أزكيه على الله. والذي حدثَ معه هو محاولة قتل مكتملة الأركان، تستوجب عدم السكوت عنها، ليس بسبب الشخص وسيرته ومكانته فحسب، بل وبسبب ما ذكرت آنفا من علاقة السطوة وحب السيطرة والمال والظلم وشهوة الاستبداد، وهو ما يدفعنا كمجتمع مسالم “مدني” في العلاقة مع مثال هذه الحالة إلى واحد من ثلاثة، الاستكانة للجريمة والقبول بها والسكوت عليها أو مواجهتها مع الادراك التام لحجم التضحيات التي ستقدّم في مثل هذه الحالة أو مداراتها ألى درجة النفاق.
في الحالة الاولى والثالثة، ستكون النتائج النهائية للأجيال القادمة كارثية، ذلكم أن السكوت عن الحق معيار للذل والخنوع وللشيطانية، وهو ما يستوجب تغيرا جوهريا في المنظومات الفكرية والاخلاقية والقيمية الناشئة عنهما، ومن ثم استبدالها بقيم أخرى تستكين للجريمة والمجرمين، وعندئذ نفقد خاصيتنا وهويتنا الاسلامية والعروبية، ويساعد على تمكين هذه الحالة وضعيتنا الراهنة التي نعيش اجتماعا وسياسة، تقابله مساعي المؤسسة الاسرائيلية الرامية إلى تفكيك مطلق لمجتمعنا، وجعله يمتص كل انواع التشوهات الاخلاقية والقيمية، وفي مقدمتها التشبع بقيم الليبرالية الاسرائيلية الساعية لفصل الفرد/ الانسان عن مجموعته البشرية، وعقله الجمعي، وخلق الانسان المشيء (أن يتحول الانسان الى شيء وكل ما سوى الانسان والحيوان شيء، أي تتحول العلاقات بين الناس الى علاقات غير شخصية “جامدة” وذروة التّشيّؤ حالة التسلع التي يعيش، وأن تتحول حياته الى حياة مادية استهلاكية تفقده معنى وجوده)، ولذلك لم يبق أمان إلا المواجهة، والمواجهة مكلفة جدا، ولكنها هي الخلاص مما نحن فيه، والمواجهة عمل منظم ودؤوب يجمع بين العديد من الافكار والاعمال والمسوغات الجامعة للعرف والشريعة والعادة والقانون والبأس والعزة، ولكي يتحقق ذلك هناك حاجة ماسة لمراجعات فكرية-اجتماعية-تربوية وثقافية، كما الحاجة الى العمل، إذ القول بعيد عن العمل جلد للذات ونوع من انواع النفاق ولا يقوم بذلك فرد ولا جماعة بعينها، بل المجتمع بكل مركباته ومكوناته، فمجتمعنا اليوم بين حالتين لا ثالث لهما النجاة أو الطوفان.
أبيات مهداة للدكتور سليمان وكل المظلومين
(من دفاتر محمد المختار الشنقيطي في رائعته دموع الندي)
هو الفجر يمزج بين السطورْ
دموعَ الندى وابتسامَ الزهورْ
فلا تبتئسْ إن ألـمَّتْ بنـا
خطوبٌ تُذيب قلوبَ الصخورْ
تداعتْ علينا فلـول الدُّجَى
وظنَّت من الجهل أن لَّن نَحُورْ
بلى إن موكب أشواقنــا
لآت بكل الـمـنى والسرورْ
سندفُن آلامَنا في الـحَشَـا
ونَكْتـمُ آهاتِنا في الصـدورْ
ونعْـبُر للنور ملءَ الخُطَـى
ونبذل أرواحَـنا في العبـورْ
ففي السفح من أُحُدٍ مَضْجَعٌ
يشِعُّ على كل قلب جَسـورْ
فيشحن باللـحن أرواحـنا
لتشدوَ باللحن خُضْرُ الطيـورْ
وريـحُ صَبا نجْـدِنا لم تـزلْ
تُضَـمِّخ أرواحنا بالعـطورْ
فتزرع تحت الضلوع جـوًى
ونيرانَ شـوق تكاد تفـورْ
سنرجع للدار مهما تكــن
صروف الليالي وكَرُّ الدهورْ
سنمسح بالكف دمعَ الندى
ونغمر أزهارنــا بالحبــورْ