من لهذه الوصية في مسيرة المشروع الإسلامي
د. أنس سليمان أحمد
عند رحيل جيش يزيد بن أبي سفيان إلى الشام شيّعه الخليفة أبو بكر ماشيًا وأوصاه بما يلي: “إني قد وليتك لأبلوك وأجربك وأُخَرَّجك، فإن أحسنت رددتك إلى عملك وزدتك، وإن أسأت عزلتك، فعليك بتقوى الله فإنه يرى من باطنك مثل الذي من ظاهرك، وإن أولى الناس بالله أشدهم توليًا له، وأقرب الناس من الله أشدهم تقربًا إليه.
وقد وليتك عمل خالد (خالد بن سعيد بن العاص وقد طلب استعفاءه فأعفاه أبو بكر) فإياك وعبيِّة الجاهلية (يعني التعصب لما كان عليه أهل الجاهلية) فإن الله يبغضها ويبغض أهلها، وإذا قدمت على جندك فأحسن صحبتهم، وابدأهم بالخير وعدهم إياه، وإذا وعظتهم فأوجز فإن كثير الكلام ينسي بعضه بعضًا، وأصلح نفسك يصلح لك الناس، وصلّ الصلوات لأوقاتها بإتمام ركوعها وسجودها والتخشع فيها.
وإذا قدم عليكم رسل عدوك فأكرمهم، وأقلل لُبثهم حتى يخرجوا من عسكرك وهم جاهلون به، ولا ترينّهم فيروا خَلَلَك ويعلموا عملك، وأنزلهم في ثروة عسكرك (ليروا قوة المسلمين)، وامنع من قبلك من محادثتهم وكن أنت المتولي لكلامهم، ولا تجعل سرك لعلانيتهم فيخلط أمرك، وإذا استشرت فاصدق الحديث تُصدق المشورة، ولا تَخْزُن (تمنع) عن المشير خبرك فتؤتى من قبل نفسك.
واسمر بالليل في أصحابك تأتك الأخبار، وتنكشف عندك الأستار، وأكثر حرسك وبدّدهم في عسكرك، وأكثر مفاجأتهم في محارسهم بغير علم منهم بك، فمن وجدته غفل عن محرسه، فأحسن أدبه، وعاقبه في غير إفراط، وأعقب بينهم بالليل، واجعل النوبة الأولى أطول من الأخيرة، فإنه أيسرها لقربها من النهار، ولا تخف من عقوبة المستحق، ولا تلجّنّ فيها، ولا تسرع إليها، ولا تتخذ لها مدفعًا، ولا تغفل عن أهل عسكرك فتفسده، ولا تجسس عليهم فتفضحهم، ولا تكشف الناس عن أسرارهم، واكتف بعلانيتهم، ولا تجالس العبَّاثين، وجالس أهل الصدق والوفاء، وأصدق اللقاء، ولا تجبن فيجبن الناس، واجتنب الغلول فإنه يقرب الفقر، ويدفع النصر، وستجدون أقوامًا حبسوا أنفسهم في الصوامع فدعهم وما حبسوا أنفسهم له”.
فهذه وصية بليغة جامعة تشتمل على توجيهات باهرة في شؤون إدارة المشروع الإسلامي وتثبيت أصوله وتعزيز دوره، وقد قال عنها ابن الأثير في كتابه الكامل: “وهذه من أحسن الوصايا وأكثرها نفعًا لولاة الأمور” ـ ولا يمكن لها أن تصدر إلا عن قلب ولسان تضلعا من أنوار النبوة، وهي وصية ثرية الفوائد وعميقة الدلالات، ولذلك فها أنا أسجل بإيجاز الإيجاز ما ورد فيها من توجيهات قيّمة لحملة المشروع الإسلامي رعاة ورعية:
1) مفتاح حمل المشروع الإسلامي هو تقوى الله تعالى، ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه في بداية تلك الوصية “فعليك بتقوى الله”، فَوَهمٌ ثم وَهمٌ أن نصدّق أن هناك مشروعًا إسلاميًا بلا تقوى الله تعالى، فهي الزاد الأساس الذي يجعل الفرد منّا يوقن أن الله تعالى يرى باطنه مثل الذي يرى من ظاهره، وهي التي تجعل الفرد منّا يحرص على صفاء ولائه لله تعالى وأن يتقرب إلى الله تعالى بعمله، وإلا إذا فُقدَ كل ذلك، فسيتحوّل المشروع الإسلامي إلى مجرد شعارات ولقلقة لسان وبهرجة كلام وبهلوانيات إعلامية وسياسية.
(2إن العامل الساعي على نصرة المشروع الإسلامي مطالب أن يحذر مما حذّر منه أبو بكر رضي الله عنه في هذه الوصية عندما قال: “فإيّاك وعبيّة الجاهلية” أي إيّاك من التعصب الأعمى لما كان عليه أهل الجاهلية، ويمكن لنا أن نقول في هذه الأيام: إيّاك التعصب للأشخاص فإن الشخص غير معصوم وغير آمن من الفتنة، بل أنت مطالب أن تتعصب للحق، فإن الرجال يُعرفون بالحق، ولا يُعرف الحق بالرجال، وكل شخص منا يؤخذ منه ويُرَد إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاحذر يا ابن المشروع الإسلامي، ثم احذر أن يحجبك التعصب لزيد أو لعمرو عن رؤية الحق وتحري الدليل والانتصار للمشروع لا للشخص.
3) وليعلم كل حريص على تغيير هذا الواقع الذي غرقنا فيه والذي يعاني من انحطاط في كل شيء، أن الواحد منّا لن ينجح بإحداث أي تغيير ما لم يصلح نفسه أولًا، ولذلك قال أبو بكر –رضي الله عنه- في هذه الوصية: “وأصلح نفسك يصلح لك الناس” فكيف يقود الناس أعمى؟! إنما يقود الناس البصير، وكيف يعظ الناس من لم يعظ نفسه أولًا؟! المطلوب أن يعظ الواحد منا نفسه أولًا، فإن اتعظت فليعظ الناس، فكيف يداوي الناس عليل؟! إنما يداوي الناس ذو القلب السليم، وكيف يقود سفينة المشروع الإسلامي غشوم، لا يتقن السباحة، ولا يعرف أسرار البحر، ولا يحسن توجيه دفة السفينة، وكم صدق الأمام الجيلاني عندما قال: “يا غلام عظ نفسك فإن اتعظت فعظ الناس”.
4) وليعلم كل صدوق مخلص نصير للمشروع الإسلامي أن ما دون نصرة المشروع الإسلامي محن وفتن، وبأساء وضرّاء وزلزلة، وغربة ووحشة في الطريق، ولا بد من اللجوء الدائم إلى الله تعالى، ودوام الاستئناس به، والتقّوي بذكره، والتزود بطاعته، ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه في هذه الوصية: “وصلِّ الصلوات لأوقاتها بإتمام ركوعها وسجودها والتخشع فيها”، فأي مشروع إسلامي يمكن أن يقوم على قلوب قاسية ومحجوبة وغافلة عن ذكر الله تعالى، وأي مشروع إسلامي يمكن أن يقوم على رجال ينقرون صلاتهم كنقر الديك، ويحرصون على الاستراحة منها، لا الاستراحة بها، ويتقنون فن السهر، ولا يتقنون أدب التشرف بقيام الليل وصلاة الفجر.
5) ثمّ لا بد من الحسّ اليقظ والثقافة الأمنية العالية في هذه الأيام، ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه في هذه الوصية: “ولا تجعل سرك لعلانيتك فيخلط أمرك”.
6) ولا بد من صدق القلب وصدق اللسان وصدق الكلام وصدق المشورة، ولو وضع الصدق على جرح لأبرأه كما قال الأمام أحمد بن حنبل، ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه في هذه الوصية: “وإذا استشرت فأصدق الحديث تُصدق المشورة، ولا تَخْزُن (تمنع) عن المشير خبرك فتؤتى من قبل نفسك” وإلا فإن كذب القلوب والألسن يقضي على المشروع الإسلامي قضاء مبرمًا.
7) ولا بد من الرفق بأبناء المشروع الإسلامي ولين الجانب لهم، وتوقير كبيرهم والرحمة بصغيرهم، ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه في هذ الوصية: “ولا تكشف الناس عن أسرارهم، واكتف بعلانيتهم” وإلا فإن القسوة وفظاظة القلوب وسلاطة الألسن لا تأتي بخير في يوم من الأيام.
8) ولا بد من الحذر من بطانة السوء، والحرص على بطانة الخير، ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه في هذه الوصية: “ولا تجالس العبَّاثين، وجالس أهل الصدق والوفاء” وإلا فإن بطانة السوء ستصنع أجواء المداهنة والرياء والقيل والقال والطبطبة، وهذا يؤدي إلى مقتل المشروع الإسلامي في مهده.
9) ولا بد من الحذر ثم الحذر الشديد من المال العام فإن اليد التي ستمتد إليه لن تلقى إلا الفقر والهوان حتى لو ادّعت أنها من أنصار المشروع الإسلامي، لذلك قال أبو بكر رضي الله عنه في ختام هذه الوصية: “واجتنب الغلول فأنه يقرب الفقر ويدفع النصر”.