تحليل نقدي: كيف حاول الإعلام كتابة حدث تدنيس مسجد ومقام النبي موسى؟
عائشة حجّار
مع وقوع حدث تدنيس مسجد ومقام النبي موسى بأبعاده الاجتماعية، الدينية، والسياسية، كان دور وسائل الاعلام المختلفة لترسم الحدث وتنقله إلى الجمهور بصيغ مختلفة، تتسابق فيها على تسطير الرواية التاريخية، الاجتماعية والدينية لهذا البناء التاريخي. أعرض هنا المحاولات المختلفة لكتابة قصة الحدث كل حسب انتماءاته، والمفارقات المختلفة التي بناها الإعلام خلال أسبوعين من الغضب الجماهيري ومحاولة إماتة القصة إعلاميًا.
من “دي جي” الى “فنانة”
منذ النهار الأول، بعد انتشار مقاطع الفيديو التي وثّقت تدنيس مسجد ومقام النبي موسى، بدأت السلطة الفلسطينية بامتصاص الغضب الشعبي وتحويله عنها. فكانت الخطوة الأولى الإعلان عن “لجنة تحقيق” صورية قدّمت تقريرها خلال أقل من ثلاثة أيام، بدون أي توصيات جريئة لمعاقبة المسؤولين ذوي السلطة والمناصب. وكانت الخطوة الثانية اعتقال الـ “دي جي” التي أدارت الحفل، سما عبد الهادي، ليتوجّه الغضب الجماهيري إليها كأنها المسؤول الوحيد عمّا حصل مع أنها حلقة في سلسلة من التواطؤ والاستغناء عن الثوابت. هكذا، تحوّلت سما إلى وجه الحفل الوحيد، وكان يجب “تلميع” شخصها لتجنيد بعض التعاطف.
بشكل غير معتاد اختارت بعض الأجهزة الاعلامية تغيير وصف سما من “دي جي” إلى “فنانة”، مع أن هذه الكلمة لا تستخدم عادة لوصف مدير الحفلات، إلا أنها كلمة “ألطف” ويمكن للمجتمع المحافظ أن يبتلعها بدون استنكار. استخدام هذا المصطلح يصبغ أيضًا الحفل بصبغة أخرى، فمن تجمع ماجن لأشخاص يرقصون على وقع موسيقى صاخبة، يتحوّل الحفل إلى فعل فني ذو بعد ثقافي، خاصة أنه أرفق في التقرير، أن الحفل كان ضمن تصوير فيلم يعرض الآثار الفلسطينية. بل تطرفت بعض الاجهزة الإعلامية والجمعيات لجعل الحفل يبدو نشاطًا نضاليًا وطنيًا.
اختلاق قضية نسوية
في استغلال غريب ومثير للشبهات لاعتقال سما عبد الهادي، حوّلت جمعيات مثل “كيان- تنظيم نسوي”، سياق الحدث ليكون قضية نسوية!!، حيث اهتمت بإظهار سما بمظهر المرأة مهضومة الحقوق التي تعتقل لأنها تطالب بحريتها. مع أنه يصعب إيجاد أي رابط بين الاستياء الجماهيري من التعدي على حرمة مسجد، وكون أحد المشاركين في هذا الاعتداء امرأة. إضافة إلى ذلك، فإن اعتقال سما، وجعلها بذلك ورقة تين يوارى بها تقصير السلطة الفلسطينية بكافة درجاتها وأجسامها، سهّلت على الإعلام تصوير المشهد على أنه لفتاة تقف وحيدة أمام حشود غاضبة، هذه الصورة التقليدية لاستخدامها في استعطاف الجماهير والتي كثيرًا ما تنجح في مهمتها.
نسيانها بمجرد معاقبة هذا الفرد أو إبعاده عن عيون الجمهور. الخطورة في هذا النوع من الخطاب الإعلامي، هو أن هذه الاعتداءات يمكن أن تتكرر بسهولة، طالما نجد شخصًا واحدًا نصوره كالمذنب في كل مرة ويصب الجمهور غضبه عليه كل مرة. لذلك، من المهم التعامل مع سما على أنها تشكّل جزءا من منظومة كاملة وليست شخصًا يتحرك وحده.
من “استياء شعبي” إلى “بعض المسلمين الفلسطينيين المتدينين”
بالرغم من توافد آلاف الفلسطينيين إلى المسجد بعد تدنيسه، واستمرار المئات بالحضور إليه لاحقًا، إلا أن الاعلام عرض الحدث على انه إمّا شعبي أو مجرد حدث يتعلق بمجموعة صغيرة، حسب توجه كل جسم إعلامي. فلم يكن بالإمكان تجاهل أعداد المستائين من وقاحة المدنسين واستخدام مسجد كقاعة احتفال سواء في الشبكات الاجتماعية أو خارجها، الأمر الذي تناولته أجسام إعلامية كقناة الجزيرة مثلًا، والتي تحدثت عن الغضب الظاهر بين مستخدمي الشبكات الاجتماعية، إلا ن شبكات مثل BBC البريطانية اختارت عرض المعترضين على إقامة الحفل على أنهم “بعض المسلمين الفلسطينيين المتدينين” الذين “قالوا إن المناسبة كانت “غير محترمة“. لتعرض القناة الاعتراض على أنه أمر يتعلق بأقلية هناك يشك بمصداقية ادعاءاتها. من المهم هنا الإشارة الى أن BBC العربية هو مشروع إعلامي بدأ عام 1938 كوسيلة لبث وجهة النظر البريطانية الى المناطق العربية وكإحدى الأدوات لتمكين الانتداب البريطاني من السيطرة على الجماهير العربية وفكرها، وما زالت هيئة الاذاعة البريطانية تقوم بهذه المهمة حتى اليوم، تمامًا كما بدأت تفعل أجسام مثل “إسرائيل بالعربية” في السنوات الاخيرة.
من “نصرة للمقدسات” إلى “تخريب”
في تصريح غير موفق، قال الناطق باسم الداخلية الفلسطينية غسان نمر، إنه سيتم ملاحقة كل الذين ظهروا بالفيديوهات وخرّبوا 12 غرفة فندقة في مقام النبي موسى، لأن هذه ممتلكات عامة. الأمر الذي تبعه انتقادات ساخرة وغاضبة فلسطينية كثيرة. فنمر أورد تصريحه في تجاهل مزعج للصور التي نشرت للشباب الفلسطيني الذي أمَّ المسجد ولطبيعة المجتمع الفلسطيني المسلم. حاول نمر، مثل الكثيرين، تصوير رد فعل الشبان على تدنيس المسجد كفعل تخريبي عنيف ومتهور، إلا أنه تعجل في هذه المحاولة التي فشلت، لأن القراء والمشاهدين الغاضبين رأوا في أفعال الشبان المعترضين على تدنيس المسجد رد فعل متوقع وطبيعي لهذا الفعل.
لا بد هنا من الإشارة، إلى أن الاجهزة الاعلامية للسلطة والناطقين باسمها اخطأوا، كالعديد من الأجسام الإعلامية، بالاستهتار بجمهورهم ومحاولة “بيعهم” ادعاءات سطحية تتجاهل مشاعرهم وقناعاتهم. وهنا أشير إلى أحد أهم شروط نجاح أي حملة إعلامية: احترام الجمهور، وهذا الأمر تفتقر إليه العديد من المنظومات الحكومية.
امتداد للرباط
تداول نشطاء وإعلاميون في الشبكات الاجتماعية مقطع فيديو للمرابطة خديجة خويص “تقلب” طنجرة المقلوبة التي باتت من ايقونات الرباط في المسجد الاقصى. ويمكن أن يعتبر البعض إحضار الطعام وتصوير الطناجر من الأمور السخيفة، إلا أن صنع طعام تراثي (خاصة أن المقلوبة من رموز المطبخ العربي)، له علاقة مباشرة بالهوية التي يحملها صانع ومتناول هذا الطعام. كما أن صور حفلة “تكنو” تلبس المكان ثوبًا غربيًا غريبًا عليه، فإن صور المقلوبة والمرأة المحجبة تلبس المكان ثوبًا فلسطينيًا اسلاميًا. كما أن حضور المرابطات إلى المسجد جعلت لنصرته بعدًا مشابهًا لنصرة المسجد الاقصى، وأظهرت الربط ووحدة المصير بين المقدسات.
إظهار أيقونات نصرة الاقصى وحضورها في مسجد مقام النبي موسى وغيره من المقدسات المنتهكة، هو طريقة لعرض الهوية الدينية للبلاد التي تعترض على انتهاك حرمة آثارها ومعالمها الإسلامية أيًّا كان المنتهك.
قد يقول قائل إن العبرة ليست فيما يقوله الاعلام، إنما فيما يحصل على أرض الواقع، لكن إثارة الحدث وعرضه بشفافية إعلامية، هما أمران بذات الأهمية، لأن الرواية التي تصل الجماهير هي التي ستقود ردود فعلهم مستقبلًا، كما أن هذه الرواية هي التي سيتناقلها المؤرخون والباحثون مستقبلًا، لتظهر صورة محددة عن الفلسطيني عام 2021، سواء ثائرًا يرفض الاعتداء على مقدساته أيًا كان المعتدي عليها، أو راقصًا يعتقد أنه ببعض أنغام التكنو والفكر الاستعماري، يمكنه تحرير ذات المقدسات التي يدنسها. كذلك، فإن تكديس أوراق التين على الحدث من اعتقال لمديرة الحفل وحدها إلى لجنة تحقيق سريعة، هي محاولة لتسريع انتهاء الحدث الإعلامي، لتنتقل الصحافة إلى العنوان التالي، وتقل بذلك أهمية التطرق الى تدنيس المقدسات. الذين حاولوا إنهاء الحدث الاعلامي قد يتناسون وجود إعلام بديل في القرن الواحد والعشرين، وأن من يدير الجزء الاكبر من الإعلام هي الجماهير نفسها، ونسوا أن الشبكات الاجتماعية ستذكر “شباب الفيسبوك والانستغرام”: هؤلاء كل عام ما الذي حركهم في مثل هذا اليوم وكيف كان رد فعلهم على الاستخفاف بدينهم وثقافتهم وتراثهم.