المسجد الأقصى في العقلية الصهيونية ومسائل الفرص التاريخية (23)
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
الاحتلال الاسرائيلي في المدينة المقدسة، في صراع مع الزمن، فمنذ أن تحصّل على اعتراف امريكي بأنَّ القدس عاصمة لإسرائيل، ومنذ أن تم نقل السفارة، وإلى حين توقيع اتفاقية ابراهام واعتراف البحرين والامارات بالقدس عاصمة لإسرائيل، وأن الأقصى مكان صلاة للأديان الثلاثة، يسارع الاحتلال لحسم ثلاث قضايا مركزية في جدل العلاقة مع المدينة المقدسة، مسألة قبول العرب بسيادة إسرائيلية على القسم المحتل منذ عام 1967 ومن ضمن ذلك البلدة القديمة والمسجد الاقصى المبارك، ومسألة قبول السلطة الفلسطينية ومن ثم حماس بالقدس عاصمة لإسرائيل (ولو القدس الغربية مؤقتا بالنسبة لحماس) وأخيرا، وهو الأهم، اعتراف المقدسيين بالسيادة الإسرائيلية على مدينتهم، ولذلك يعتبر المقادسة الرقم الأصعب في هذه المعادلة.
الاحتلال الاسرائيلي متنبه جيدا لهذه الحقيقة، ويعمل منذ أكثر من عامين على سياسة تفكيك المجتمع داخليا بوتيرة متسارعة، ناقلا النموذج التفكيكي الذي يتبعه في الداخل الفلسطيني، المكون من ثلاثية الشاباك، المافيا، ورأس المال والساسة المتواطئون معه.
في هذا الخضم، ثمة ثلاثية تعزز من إمكانيات الصبر والمصابرة لدى المقدسيين، ولكنها تحتاج إلى روافد داخلية وخارجية لتبقيها حية وثورية: الإصلاح العشائري، ودور العشيرة والعائلة في المجتمع المقدسي خاصة الريفي، العلماء ودورهم الكبير في الحفاظ على الصلة المجتمعية، المسجد الأقصى المبارك كباني ومرمم للهوية المقدسية. في هذا النقطة الأخيرة، يتنبه الاحتلال إلى أن بنيان الهوية المقدسية متأثر مطلقا بالمسجد الاقصى المُبارك، وهنا ليس بالضرورة أن المسجد في البناء الهوياتي ممثلا للنُظُم التعبدية فحسب، بل وجوده وأثره متواجدٌ في السياق العبادي- التعبدي والسياق العقدي- الإيديولوجي والسياق العروبي- الفلسطيني.
اللحظات التاريخية: بايدن، الدول العربية المطبعة واقتناص الفرصة..
في السابع من الشهر المنصرم، كتب مدير مركز القدس للاستراتيجيات والأمن والسياسات، افرايم عنبار، والدكتور عاران ليرمان، مقالا يطالبان فيه الحكومة الاسرائيلية بإعادة إدراج مسألة المفاوضات مع السلطة الفلسطينية، على جدول أعمالها، كاقتناص للحظة التاريخية التي توّجت باتفاقيات سلام مع دول عربية، وفشل الدبلوماسية الفلسطينية، وانتهائها كما يزعمون بعد موت عريقات وفوز بايدن في الرئاسة الامريكية، وتعهده انه لن يتراجع عن بعض السياسات التي مضى بها سلفه الجمهوري ترامب، ومنها الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الى القدس والاعتراف بضم الجولان، وذلك من أجل بناء علاقات مع الرئيس الجديد، ومن أجل الحفاظ على المنجز الذي حققته حكومات اليمين بقيادة نتنياهو في عصر ترامب، وتثبيت المنجز الإسرائيلي في المواضيع المتعلقة بالقدس كعاصمة أبدية غير قابلة للتفاوض مع السلطة، وتأكيد السيادة الإسرائيلية على المسجد المبارك تحت الحماية والحراب الأمريكية والصمت العربي.
هذه المقالة دعوة لحكومة اسرائيل لانتهاز الفرصة بتقديم أوراق جديدة لبايدن في التفاوض مع سلطة رام الله، سيقابلها عدم التطرق الامريكي لمسألة السيادة الاسرائيلية على المسجد الاقصى المُبارك أو/ والتعاطي الايجابي مع اتفاقية ابراهام، التي عمليا تضع موطئ قدم للإسرائيليين في المسجد الاقصى المبارك، خاصة بعد دخول المغرب على الخط، وتوقعات دخول السعودية خلال هذا العام، ضمن صفقات يتحدث بعض المطلعين، أنها تُحاك بين واشنطن والرياض، يكون ثمنها بعض الرؤوس السعودية الكبيرة المتورطة بدم خاشقجي.
معهد القدس لبحث السياسات والدور التمهيدي
في هذا السياق، سياق اقتناص الفرصة التاريخية التي تعيشها إسرائيل إنْ من حيث قوتها وجبروتها، وإنْ من حيث ممالأة العالم الغربي لها، وإن من حيث اندلاق العرب نحوها، فقد قام ولا يزال يقوم معهد القدس لبحث السياسات بعدة دراسات ميدانية، تروم ضم شرقي القدس، بشرا وأرضا، مستثمرا اللحظة التاريخية التي تمر بها إسرائيل عبر عديد الإنجازات التي تحققت.
في هذا السياق أسس هذا المعهد منذ عام 1993 تزامنا مع اتفاقية أوسلو، فريق تفكير خصص لهذه المهمة وتقدم بخطوات كبيرة منذ عام 2009 ورافقه إصدار كتاب يعتبر هاما بل ومؤسسا، رصدَ فيه المعهد، الأراضي ذات الملكية اليهودية في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة (أراضي اليهود في يهودا والسامرة وقطاع غزة وشرقي القدس، تأليف أيال زامير وآيال بنبشتي، إصدار المعهد عام 1993)، في هذا السياق يكتب المعهد في ورقته التعريفية ما يلي: “منذ عام 1993، يفكر أعضاء فريق من الباحثين في معهد القدس في القضايا الجيوسياسية المتعلقة بالقدس، وهدف الفريق هو تقديم معلومات موثوقة وحديثة عن الاتجاهات الديموغرافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية في القدس الشرقية، إلى صانعي السياسة، وطرح البدائل لإدارة المدينة في حال انعدام أي تسوية سياسية، واقتراح البدائل لتسوية مستقبلية. يقوم الفريق ببحث مجموعة متنوعة من القضايا: تحليل الحال الواقع المعقد في القدس الشرقية على جميع أشكاله، والاتجاهات الاجتماعية، وتحديد المواقف والمصالح للأطراف المختلفة، والدروس المستفادة من المفاوضات السابقة والتحري عن بدائل لإدارة المدينة في حالات مختلفة: كحال انعدام التسوية، أو وجود تسوية مؤقتة أو تسوية دائمة. يضم الفريق ممثلين عن السلطات الحكومية المسؤولة عن شؤون القدس الشرقية، وممثلين عن منظمات المجتمع المدني وممثلين عن مراكز الأبحاث والأوساط الأكاديمية”.
في الخامس والعشرين من شهر نوفمبر/ تشرين ثاني للعام 2019 نشر موقع “واي نت” خبرا مفاده، أن قسم الجغرافيا في الجامعة العبرية بالتعاون مع معهد الدراسات الحضرية في الجامعة العبرية ومعهد القدس لبحث السياسات، قد أسسوا مساقا جديدا في الجغرافيا الحضرية لطلبة الماجستير، متخصص في دراسات القدس الشرقية ويحمل هذا المساق دراسات سياسية واقتصادية واجتماعية كلها تتعلق بشرقي مدينة القدس. أطرح هذا الموضوع لأبين للقارئ الكريم وللقارئة الكريمة، مدى اهتمام المؤسسة الاسرائيلية بمدينة القدس ومساعيها التي لا تتوقف لجعل سيطرتها عليها أمرا مفروغا منه، وهي تتعامل بقفازات ناعمة وأخرى خشنة، تبعا للجهات التي ستتعاطى معها في مثل هذا الملف الشائك. لذلك وجدنا الاحتلال على الصعيد العالمي يستعمل سياسات ناعمة وعكسها تماما مع الفلسطينيين في القدس، أفرادا وجماعات، تبعا لمنطقي المصلحة المؤقتة والمؤجلة التي سيحققها الاحتلال في هذا التعامل، وهو إذ ينهج نَهْجَا مدروسا مع الفلسطينيين في القدس، فهو يعمل جاهدا على اختراق الاجيال الناشئة، بل ويراهن عليها ويعضد رهانه هذا بسلسلة من الابحاث الميدانية، وبتوجيه للسلطات لفتح جيبها وخزائنها لخلق تغيير في البنية الحضرية والمجتمعية في مدينة القدس، ولذلك يعمل الاحتلال على خلق تغييرات في القدس عموما والبلدة القديمة خصوصا، من خلال ثلاثة محاور: البلدية والحكومة ومؤسسات دينية يهودية ومدنية ورابعة فلسطينية- يهودية، تتحصل على دعم من دول عربية، ومن الاتحاد الاوروبي ومؤسسات يهودية عالمية، وكل ذلك من أجل فرض السيطرة والسيادة.
المشهد في البلدة القديمة والمسجد الاقصى أكثر وضوحا بل وجرأة، فالاحتلال وضع ساكنة البلدة القديمة بدون استثناء تحت مجهر رقابته، ليس لأسباب أمنية فحسب، بل ولأسباب تتعلق بسياساته الرامية لبسط سيادته العملية على البلدة القديمة، كمقدمات عملية للسيطرة على المسجد الأقصى، متخذا ما فعله في المسجد الابراهيمي مثالا تطبيقيا، ويراهن على قبول ساكنة البلدة القديمة بالوجود الإسرائيلي، عبر تعزيز مستمر للوجود اليهودي الديني، وهو رهان يبدو أنه سيساعده عليه، جمع من الدول العربية والاتحاد الاوروبي والولايات المتحدة الامريكية، وستكون سياسة الجزرة (وليس سياسة العصا والجزرة فحسب) عنوان العشرية الثالثة من هذا القرن.