الذكاء الاصطناعي في 2021.. هل يجب أن نضحي بالأمن من أجل الحرية؟
كثّفت جائحة كوفيد-19 من الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في جلّ مجالات الحياة البشرية. ونظرا للحاجة الملحة إلى تطوير خوارزميات جديدة، أدخلت العديد من المؤسسات الحكومية والشركات الخاصة تقنيات ذكاء اصطناعي نصف جاهزة، واكتفت بإضفاء بعض التغييرات الشكلية عليها. من الواضح أن سنة 2021 ستعزز من دور الذكاء الاصطناعي في حياتنا وستغير بشكل كبير أنماط حياة الناس وطريقة عمل المؤسسات والشركات في مختلف المجالات.
في البداية، دعونا نفهم ما يعنيه مصطلح “الذكاء الاصطناعي”. يمكن أن نفسّر المصطلح بأنه قدرة الكمبيوتر أو الروبوت الذي يتحكم فيه الكمبيوتر على أداء المهام التي تقوم بها عادة الكائنات الذكية. وفي الفلسفة والخيال العلمي، غالبًا ما يشار إلى الذكاء الاصطناعي على أنه برنامج قادر على التفكير والإبداع والشعور كما يفعل البشر. صحيح أن البشر لم يبتكروا إلى الآن نسخا إلكترونية مماثلة لهم، لكن الذكاء الاصطناعي أتقن العديد من المهام في مجالات مختلفة.
إلى حد الآن، لا يملك الذكاء الاصطناعي القدرة على الإبداع أو التفكير كما يفعل البشر، وتتعلق مهامه أساسا بخوارزميات تعمل على حل المشكلات المطروحة بدقة وفقًا للتعليمات التي يمليها الإنسان. يتسع مجال المهام الموكلة للذكاء الاصطناعي، ويشمل قواعد البيانات “الذكية” وعدة مجالات أخرى، وصولا إلى صناعة السيارات ذاتية القيادة.
في القرن الحادي والعشرين، أدى التقدم في برمجة الكمبيوتر والتقنيات المتطورة والحاجة إلى معالجة كميات هائلة من المعلومات إلى دعم الدور الذي يضطلع به الذكاء الاصطناعي لمساعدة الناس على التعامل مع هذه المستجدات. نتج عن ذلك بروز مفاهيم على غرار “الحكومة الرقمية” و”الديمقراطية الرقمية” و”المنزل الذكي”. وفي سنة 2020، كان الطلب على الذكاء الاصطناعي مرتفعًا بشكل كبير لأسباب عديدة لا يمكن حصرها.
أدخل انتشار فيروس كورونا بداية هذه السنة المتخصصين في دوامة من الشك والريبة، خاصة أمام قلّة المعلومات المتوفرة حول طبيعة الفيروس وطرق التعامل معه. كما لم يعد البشر قادرين على توحيد جهودهم وتبادل معارفهم والعمل معا دون اللجوء إلى الآلات.
بحلول شهر أبريل/ نيسان 2020، نُشرت أكثر من 30 ألف مقالة علمية حول كوفيد-19، وكانت بمثابة وابل من المعلومات التي يستحيل على العقل البشري العادي تحليلها. حينها، تمّ الاستعانة على الفور بمحركات البحث القائمة على خوارزميات معالجة اللغة الطبيعية لمساعدة للأطباء وتسهيل عملية تحليل البيانات الجديدة وتحديد المعطيات الأكثر أهمية. ساعد استخدام التقنيات الجديدة والتبادل السريع للبيانات على إحراز تقدم كبير في مجال تطوير خوارزميات العلاج واللقاحات التي أثبتت فعاليتها.
لكن الوباء كشف أيضا عن الجانب “المظلم” للذكاء الاصطناعي، حيث جعل منه “الأخ الأكبر” الذي يراقب الناس. استخدمت البلدان في جميع أصقاع العالم تقنيات مراقبة مختلفة لمنع انتهاك إجراءات الحجر الصحي، مثل الطائرات دون طيار والعديد من تطبيقات الهواتف الذكية وكاميرات المراقبة الذكية لضبط المخالفين، وقد تسببت هذه البرامج التي تم اعتمادها على وجه السرعة بعد ظهور الفيروس في العديد من الإشكاليات، وتم تغريم أشخاص لم يرتكبوا أي انتهاكات.
تحتل الصين مركزا متقدما في مجال الرقابة والسيطرة على المواطنين بمساعدة الذكاء الاصطناعي، ولها تاريخ طويل في اعتماد أنظمة المراقبة الاجتماعية وتقنيات تحديد الهوية.
في نهاية 2019، وصفت وسائل إعلام أوروبية هذه الممارسات بأنها أشبه بـ”معسكرات اعتقال إلكتروني”، لكن الدول الأوروبية اعتمدت هذه البرامج بعد بضعة أشهر فقط.
حاليا، تحتل الصين المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة في مجال تطوير برامج الذكاء الاصطناعي، لكنها تخطط للحاق بها بحلول 2030. تأتي كل من بريطانيا وكندا والهند و”إسرائيل” مباشرة بعد الصين، لكنها طموحاتها تبدو أقل من العملاقين الأمريكي والصيني. وتتصدر السويد وفنلندا القائمة من حيث عدد الشركات الناشئة ومشاريع الذكاء الاصطناعي لكل مليون شخص.
من أبرز ما حققته بكين في مجال استخدام الذكاء الاصطناعي هو تطوير ما يُعرف بـ”نظام الرصيد الاجتماعي” الفريد من نوعه، وهو تصنيف شخصي لكل مواطن صيني، يستند إلى مجموعة ضخمة من البيانات، ويمكن أن يشمل الوقت الذي يقضيه المرء في اللعب بإحدى ألعاب الفيديو.
ورغم الطبيعة “غير الديمقراطية” لهذا النظام، إلا أنه أصبح مطلوبا بشدة في دول “العالم الحر”. فالتصنيف الشخصي لا يسمح للسلطات بمراقبة التزام المواطن بالقوانين فحسب، بل يعطي أيضا معلومات شاملة عن وظيفته ووضعه الصحي ومعاملاته المالية.
وبشكل عام، فإن هذا النظام معتمد في مختلف أنحاء العالم، ويأخذ أشكالا متعددة، مثل بطاقات التأمين الصحي، أو البطاقات البنكية والائتمانية التي تجمع بيانات مالية مفصّلة عن كل فرد.
في الواقع، يراقبنا الذكاء الاصطناعي ويحلّل بياناتنا بأقصى سرعة. من خلال خوارزمية بسيطة تعتمد على كلمتي “فقدان التذوق” و”فقدان الرائحة”، يمكن لبرنامج ذكاء اصطناعي أن يتوقع عدد الإصابات بكوفيد-19.
أثبت هذا البرنامج المخصص لمحركات البحث جدواه في 2020، وساهم في تحقيق زيادة بنسبة 40 بالمئة في المبيعات عبر الإنترنت. زاد الطلب على الإعلانات الموجهة من محلات التجارة الإلكترونية وعدد من المنصات الأخرى، مما أقنع المطورين بالتركيز أكثر على التفضيلات الفردية لكل عميل محتمل، بما في ذلك تحليل كل تفاصيل الطلب.
في غضون بضعة أشهر فقط، أصبح الذكاء الاصطناعي يحظى بأهمية بالغة في مجال التعليم بسبب الانتقال إلى التعلم عن بعد، حيث اضطرت المؤسسات التعليمية إلى اعتماد برامج مختلفة تهدف إلى اختبار الطلاب والتأكد من حضورهم ومراقبة سلوكهم أثناء الاختبارات. تستطيع الخوارزميات تمييز التلميحات وعمليات الغش أثناء الامتحان من خلال تحليل حركة الرأس والعينين والأصوات الدخيلة.
كما تساعد الخوارزميات المعلمين على تتبع نشاط الطلاب أثناء الفصول الدراسية، وسيكون من السذاجة افتراض أن الذكاء الاصطناعي سيختفي من المدارس والجامعات بمجرد انتهاء الحجر الصحي. على العكس، من المنتظر أن يحقق التعلم عبر الإنترنت قفزات جديدة بفضل برامج مثل كورسيرا و سكيل بوكس وغيرها.
بطبيعة الحال، سيشهد العام المقبل استخدامًا أوسع للذكاء الاصطناعي في جميع مجالات الحياة البشرية، بما في ذلك الرقابة والرعاية الصحية والتعليم. في العام المقبل، سيتم تحسين الخوارزميات التي تم تطويرها في 2020 بعد انتشار جائحة كوفيد-19، واستخدامها بشكل أكثر كفاءة.
سيتم اعتماد أنظمة الرقابة الاجتماعية حتى من قبل الديمقراطيات الأكثر ليبرالية في العالم. لكن المشكلة هي أن تخزين جميع المعلومات المتعلقة بشخص ما في قاعدة بيانات افتراضية واحدة لتسهيل حياته، قد يجعله عرضة لقراصنة الإنترنت الذين يمكنهم الحصول على معطيات دقيقة عن حياته الشخصية.
وهناك أيضًا مخاطر أخرى قد لا يكون الذكاء الاصطناعي قادرًا على التعامل معها لحماية خصوصية الأشخاص، مثل وصول بعض الموظفين الفاسدين إلى هذه الكمية الهائلة من المعلومات. لذلك، فإن تطوير خوارزميات ذكاء اصطناعي أكثر تطورا لحماية المعلومات الشخصية من عمليات الاختراق، يجب أن يكون أولوية قصوى لمطوري هذه البرامج.
مازال الذكاء الاصطناعي قادرا على النمو ومعالجة كميات أكبر من البيانات والتحكم في جميع مجالات الحياة البشرية. أصبحت حياتنا أكثر راحة، لكن مساحة الحرية الشخصية تنتهي في اللحظة التي نمسك فيها هاتفًا ذكيًا. وقد تؤدي مساهمة الذكاء الاصطناعي في مكافحة الوباء، وقدرته على التنبؤ بالتهديد التالي الذي يهدد البشرية، إلى فرض المزيد من القيود على الوصول الحر إلى المعلومات، وقد نتحوّل إلى مجرد أرقام في ملفات ضخمة تخزّنها برامج الذكاء الاصطناعي.
المصدر: مودرن ديبلوماسي