د. أنس سليمان أحمد
بعد أن استفحل العنف في مجتمعنا في الداخل الفلسطيني، بات الكثير يخوض في هذه النازلة، بغية فهم أسبابها وتحديد أساليب علاجها، ومن الواضح أن البعض يحاول فهم أسباب العنف بناءً على رؤية مادية فقط، لذلك نجد أن أصحاب هذه الرؤية المادية ينسبون أسباب العنف إلى أسباب مادية فقط، وبناء على ذلك يدّعون أن أسباب العنف هي الفقر وانسداد أفق الشباب والبطالة وأزمة السكن والازدحام السكاني والفراغ والتسرب في المدارس… إلخ، وفي الوقت الذي لا نقلل فيه من الآثار الكارثية لكل هذه الآفات التي اجتمعت على مجتمعنا، إلا أن وجهة نظري تجد أن هذه الآفات ليست هي لوحدها التي أنتجت العنف في مجتمعنا، بدليل أن كل هذه الآفات يعاني منها شعبنا الفلسطيني في غزة وتعاني منها كل المخيمات في الضفة الغربية، ولكنها لم تنتج عنفاً في غزة والضفة الغربية كهذا العنف الأعمى الذي بات يخبط مجتمعنا في الداخل الفلسطيني خبط عشواء!! وها نحن نحتاج إلى الرؤية الإيمانية التي تعيننا على فهم جُذور أسباب العنف وفهم جذور أساليب علاجه، إلى جانب ما تقدّمه لنا الرؤية المادية، ولذلك فإن الرؤية الإيمانية تقول لنا: لنحذر أن يكون استفحال العنف في مجتمعنا في الداخل هو عقوبة له من الله تعالى بسبب ما بات يقترف من ذنوب ويجاهر بها ويفتخر بها، لأن الذنوب لها آثارها على من يقترفها في الدنيا قبل الآخرة، وهذه الآثار تتناسب مع حجم الذنوب، فإذا كانت الذنوب فاحشة، كانت آثارها كارثية قد تتسبب بزوال حضارات، وإذا استفحلت الذنوب الفاحشة ولم يتصدى لها الصالحون، قد تتسبب بهلاك مرتكبيها وهلاك الصالحين لأنهم سكتوا عن إنكارها، وإذا طفح الخبث ثمرة للذنوب وبات صِبغة المجتمع البارزة والغالبة والدائمة، قد يتسبب بهلاك الجميع بلا فارق بين صالح وطالح، ولا بين محسن ومسيء، ولا بين طائع وعاص، ولنعلم أن الذنوب أمراض كالأمراض المادية التي تصيب الأجساد، فكما أن الأمراض المادية أصناف، فمنها الهيّن ومنها الخطير ومنها القاتل بعد حين ومنها القاتل فورًا ومنها غير المعدي ومنها المعدي الذي قد يبيد شعبًا كاملًا ومنها ما يُرجى بُرؤه، كذلك أمراض الذنوب، فمنها ما هو هيّن كمرض ذنوب الصغائر، ومنها ما هو خطير كمرض ذنوب الكبائر، ومنها ما هو قاتل بعد حين كمرض الظلم، ومنها ما هو قاتل فورًا كشيوع مرض الزنا والربا، غير أن مرض الذنوب كله معد، وكله قد يتسبب بإبادة شعوب وانهيار حضارات وتفكك مجتمعات وحلول الذل على أمم قد يكون عددها كزبد البحر، وكما أن آثار الأمراض المادية سنن لا تُلغى وستظهر على صاحبها إن عاجلًا أو آجلًا، فكذلك آثار أمراض الذنوب سنن لا تُلغى وستظهر على صاحبها أو على صاحبها ومن يخالطه إن عاجلًا أو آجلًا، كما أن العاقل لا يتوقع أن يكون هناك مرض مادي بلا أعراض ولا أوجاع، كذلك لا يتوقع أن يكون هناك مرض ذنب بلا أعراض ولا أوجاع، وكما أن العاقل مطالب ألا يستسلم لأي مرض مادي مهما كان خطيرًا، وهو مطالب أن يبحث عن علاجه، على قاعدة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تداووا عباد الله فإن لكل داء دواء”، كذلك فإن هذا العاقل مطالب ألا يستسلم لأي مرض ذنب مهما كان فاحشًا، ولو كان فاحشة القتل والربا والزنا واللواط، وهو مطالب أن يبحث عن علاجه على قاعدة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “التائب من الذنب كمن لا ذنب له”.
بناء على ما تقدّم نقرأ قول الله تعالى: (ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير)، فما يقع علينا من مصائب بما في ذلك مصيبة العنف ليست من فراغ، بل بما كسبت أيدينا، لدرجة أن أخف المصائب التي تقع علينا أو على أحدنا ليست من فراغ، بل هي بما كسبت أيدنا، وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسي بيده ما من خدش عود ولا اختلاج عرف ولا عثر قدم إلا بذنب وما يعفو الله عنه أكثر”، فإذا كانت أبسط مظاهر المصائب كخدش العود واختلاج العرق وتعثر القدم لا تقع إلا بذنب فكيف بمصيبة استفحال العنف فينا؟! نحن مطالبون أن نراجع أنفسنا فورًا، وأن نتوب إلى الله تعالى فورًا لأن مصيبة استفحال العنف التي وقعت علينا قد تكون بسبب استفحال ذنوبنا، ويوم أن تستفحل الذنوب تخبط عقوبتها الجميع ولن ترحم أحدًا منهم، حتى الصالحين، إذا ما خنع لها الجميع، وكانوا معها ما بين مضبوع بها وبين ساكت عن إنكارها!! وفي ذلك قالت أم سلمة رضي الله عنها: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: “نعم إذا كثُر الخبث”، فكما أن آثار الأمراض المادية إذا استفحلت لا تفرق بين صالح وطالح، كذلك آثار أمراض الذنوب إذا استفحلت لا تفرق بينهما!! ولذلك انظروا إلى غول العنف الأعمى الأصم الأبكم الذي لا يزال يخبطنا خبط عشواء كم أردى من عشرات الصالحين والصالحات منّا!! وقد تكون الذنوب التي نغرق فيها ممتعة في ظاهرها ولكن عواقبها وخيمة، وفي ذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “كيف بكم يا ثوبان إذا تداعت عليكم الأمم كتداعيكم على قصعة الطعام؟!” قال: أومِن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: “لا بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكن يلقى في قلوبكم الوهن” قال وما الهن يا رسول الله؟! قال: “حبكم للدنيا وكراهيتكم للموت” وفي رواية أخرى: “وكراهيتكم للقتال”. فهذا الحديث الشريف يحذّر من مرض الترف واللامبالاة وإسقاط واجب الإصلاح في الأرض بسبب اللهاث خلف الملذات والنوم الخبال والسهر الطويل، والتنقل من بيت أزياء إلى آخر، ومن فلم سينمائي إلى آخر، ومن رحلة إلى رحلة، ومن ليلة ماجنة إلى أخرى .. إلخ، فإننا لمّا أصبنا بمرض هذا الذنب فقد وقعت علينا عقوبته، ألا وهي كما هو مشهود اليوم تداعي الأمم علينا كتداعينا على قصعة الطعام، رغم أن عددنا يوشك أن يربو المليارين!! ومما يؤكد من خطورة عواقب أمراض الذنوب ما رواه عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من أعان ظالماً سُلط عليه” فإذا كان هذا الحديث الشريف يبيّن لنا عقوبة من أعان الظالم، فكيف هي عقوبة من أعان الغاصب الذي لا يزال يصادر أرضنا ويهدم بيوتنا؟! لذلك ماذا ننتظر إذا تجرأ البعض من بني جلدتنا وباتوا عملاء للغاصب الإسرائيلي، وباتوا يعينوه في غصبه!! لذلك لا عجب أن سُلط علينا هذا الغاصب وها هو قد سهّل انتشار أكثر من أربعمائة ألف قطعة سلاح فينا كي نقتل بعضنا بعضا!! ، كما وجاء في حديث شريف عنه صلى الله عليه وسلم قوله: “خمس بخمس” قالوا: يا رسول الله وما خمس بخمس؟ قال: “ما نقض قوم العهد إلا سلّط الله عليهم عدوهم، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت، ولا طففوا المكيال والميزان إلا مُنعوا النبات وأُخذوا بالسنين ولا منعوا الزكاة إلا حُبس عنهم القطر” فهي أمراض ذنوب خمسة، ولكل منها عقوبة تميزه، فإذا وقعنا في أي ذنب منها وقعت علينا عقوبته!! ومما يلفت الانتباه في هذا الحديث الشريف أن نقض العهد يتسبب بتسليط عدو علينا، فما أقصر نظرنا ونحن لا نترك عهدًا إلا ونقضناه، وما أقصر نظر البعض فينا يوم أن لم يسكت عن الشذوذ الجنسي الشاذ عدده فينا، بل راح يناصر هذا الشذوذ ويتصدر المظاهرات ويصدر البيانات ويقيم الجمعيات لمناصرته، فكيف سيكون حالنا لو سكتنا جميعًا عن هذه الآفة وعمن يناصرها؟! عندها إذا وقعت مصيبة علينا لن ترحم أحدا منّا!! وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “ما ظهر في قوم الزنا والربا إلا أحلّوا بأنفسهم عقاب الله” لذلك آن الأوان ألا نخدع أنفسنا، وآن الأوان أن نلوم أنفسنا بعد أن فتحنا أبواب مجتمعنا للزنا ولربا السوق السوداء، ولربا القروض؟! وماذا ننتظر سوى أن تحل بنا عقوبة من الله تعالى بما كسبت أيدينا؟! فمتى نتوب إلى الله؟! ومتى نعلم أن الإقلاع عن الذنوب التي غرقنا فيها هي من جذور أساليب معالجة العنف؟! لا سيّما إذا عزّزنا هذه التوبة النصوح بالدعاء الصالح، دعاء كدعاء الغريق!!