تاريخ أول تطعيم بشري
د. محمد جمال اغبارية- طبيب أطفال في مشفى النور- أم الفحم
لقد أودت الأمراض الفتاكة والفيروسات المعدية، بحياة الملايين من البشر والحيوانات عبر التاريخ القديم، ولم يكن بمقدور الأطباء في ذلك الزمان معرفة الفيروسات أو الجراثيم، واكتفوا بالعلاجات البدائية الطبيعية.
في القرن الثامن عشر بدأت خطوات أولى نحو إنتاج أول لقاح بشري دون معرفة المسبب للمرض ولا حتى معرفة أسس جهاز المناعة.
ظهر مرض الجدري في ذلك الزمان، وكان من الأمراض التي أرعبت البشرية، فحصد في أوروبا وحدها 400 ألف شخص في كل عام. وفي أقسى درجاته مات ثلث المصابين من الكبار، وثمانية أطفال من بين كل عشرة مصابين.
الجدري هو مرض فيروسي معد جدًا، يبدأ بارتفاع الحرارة يرافقه تعب عام وآلام شديدة في الحلق، ثم ظهور بثور شديدة جدًا، خاصة في الوجه، ففي حال النجاة من الموت كان المرض يترك ندوبًا وتشوّهات في البشرة.
انتشرت بين الناس طرق علاج طبيعية وروحانية آنذاك، بين إدخال المرضى إلى مياه أو غرف حارة ومنهم من قال باردة، والبعض ادّعى أن البطيخ يزيد من المرض، والبعض لفّ المريض بقطعة قماش حمراء. واستخدم آخرون شرب البيرة بكميات كبيرة معتقدين الشفاء من المرض، وعلى ما يبدو أن المسكّنات خفّفت الآلام لا غير.
ظهرت طريقة تُدعى “التجدير” وهي عبارة عن أخذ عينة من الصديد “قيح” من بثور مريض، وزرعها تحت جلد إنسان معافى، أو أخذ قشور من البثور وطحنها ووضعها في الأنف، إلا أنها لم تنجح كثيرًا في التخفيف من حدة الأعراض بل جعلت من الناس حاملين للمرض ومساهمين في نشره.
حتى جاء من يُلقّب بـ “أبو المناعة ” وهو الطبيب الماهر إدوارد جينر صاحب شرارة انطلاقة التطعيمات في العالم، حتى أصبحت الطريقة الأكثر نجاعة وأمانا لوقاية الاطفال خاصة والبشرية عامة من الأمراض المعدية الفتاكة.
يُقال إن الطبيب إدوارد تعرض في طفولته لعملية التجدير، مما ترك في نفسه تأثيرات جانبية حفّزته ليعمل جادًا على إيجاد حل لمعضلة الجدري التي ملأت العالم خوفًا ورعبًا وموتًا.
انتبه الطبيب الماهر جينر أن أهل الريف وخاصة حالبات البقر، لا يصبن كغيرهن بالجدري، فتبيّن أن هناك جدري خفيف جدًا يصيب البقر، مما يؤدي لظهور بثور طفيفة على ضرع البقرات وتنتقل لأيدي الحالبات، وينتج عنها بثور خفيفة دون ندوب ولم يؤد لحالات وفاة بين الحالبات.
لم يكن د. إدوارد يعلم ما نوع الفيروس، لكنه علم بطريقة العدوى، ولم يكن يعلم تفاصيل جهاز المناعة ولا آليات عمله.
فقد أقدم إدوارد على أخذ عينه من بثور فتاة أُصيبت بجدري البقر تدعى سارة نيلمز، وأدخلها في خدوش على جلد الطفل جيمس فيبس البالغ من العمر ثماني سنوات، مما أدّى إلى ظهور أعراض خفيفة جدًا زالت سريعًا، ثم قام بتجربة ثانية وهي حقن نفس الفتى بصديد من مريض بشري أصيب بجدري البشر الشديد وتبيّن له أن الفتى لم يصب بالمرض بتاتًا ولم يُعدِ الآخرين.
هنا تقدم إدوارد في نشر فكرته وفتح عيادته الخاصة، ودعا زملاءه من الأطباء لاستخدام طريقته الجديدة، ولوحظ انخفاض شديد في عدد المرضى.
ولمّا وصل الخبر إلى ملك اسبانيا تشارلز الرابع، ساهم في المساعدة في نشر اللقاح في العالم، لأنه فقد العديد من أبناء أسرته الحاكمة، وعانى الكثيرون من ندوب شديدة في أجسامهم.
لم يكن في ذلك العصر مختبرات تصنع التطعيمات وتوزعها على العالم الواسع، وكانت إحدى الوسائل المستخدمة في ذلك الزمان، إعطاء بعض أطفال العبيد التطعيمات التي تسبب أمراضًا خفيفة، ثم يُنقل الأطفال عبر السفن إلى القارات البعيدة، ثم يتم استخراج عيّنات من تقرحاتهم وحقنها كتطعيم لأطفال آخرين.
لا يمكن إنكار أن طريقة التحضير والتجربة كانت مخيفة لأنها غير مدروسة ولا تعرف نتائجها، ولا يمكن أن ننكر بشاعة استخدام أطفال العبيد لنقل اللقاح حول العالم.
ولم تعد هذه الممارسات إجبارية في زماننا، فكل التطعيمات تمرّ بمراحل متفق عليها دوليًا، ولا تُعطى التطعيمات إلا بعد حصولها على تصاريح منظمات الصحة مع اختلاف توجهاتها.
لاقى الطبيب إدوارد معارضة كبيرة وانتشرت العديد من الشائعات حول طريقته في التطعيم، فمنهم من اتهمه بالجنون، وآخرون ادّعوا أن من يحصل على تطعيم يتحول الى بقرة، وآخرون عارضوا استخدام الاطفال لاحقا في نقل التطعيمات.
في مقالنا القادم، نتحدث عن أحداث مهمة في تاريخ بعض التطعيمات وعن حركات معارضة التطعيمات منذ ظهورها حتى يومنا هذا.