جدليات الدين والسياسة الداخل الفلسطيني كمثال… مقدمات تأسيسية
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
سياقات تأسيسية
قامت اسرائيل على أنقاض فلسطين، بشرًا وحضارة، واستولت جراء ذلك على الجغرافيا والإنسان ومعالم شعبنا الحضارية، وسعت بدون كلل ولا ملل لفرض وصايتها وروايتها على المكان والزمان، وتوسّلت لتحقيق هذه السياسات كافة الأدوات التي ملكتها أو استعانت بها، وما مشاهد التطبيع التي تتابع في محيطنا العربي إلا من بيانات هذه الوسائل، ولا تزال تتوسّل الأدوات والوسائل لتحقيق استقرار وجودي لها على هذه الأرض، معزّزة إياه بقيم وأساطير توراتية وتلمودية، وتستعين بالولايات المتحدة وجموع الانجيليين لتحقيق هذا الاستقرار، وفي ذات السياق ومن ضمن الوسائل التي انتهجتها المؤسسة الإسرائيلية ولا تزال، استمرار حربها المعلنة والخفيّة على الإسلام، ليس فقط كدين ناسخ لليهودية وليس فقط بصفته البديل الحضاري لكل ما انبثق عن الحضارة اليونانية والهلينية واليهودية، وقد أثبت وجوده في منطقتنا والعالم، بل وتحاربه كمنظومة، سواء كانت هذه المنظومة قيمية أخلاقية أو سياسية أو مجتمعية أو اجتماعية أو إنسانية، وتسعى بكل ما أوتيت من قوة وإمكانات للحيلولة دون عالمية الإسلام، وتتجلى معالم هذه الحرب في القديم بما أسمي الاسرائيليات، وحديثا بما سمي الاستشراق وما بعد الاستشراق، ومن بعد الحرب على الإرهاب ووصم الإسلام وليس الحركات الإسلامية بهذه الوصمة وما صحبه من استعمار للعالمين العربي والاسلامي وعلمنة الامتين العربية والإسلامية، بل والعمل على زحزحة المسلمين عن ثوابت دينهم العقدية (عقيدة التوحيد والبعث والنشور…) وعن عباداتهم المؤَسِسِةَ (الاركان الخمسة واتباع السنن الثابتة …) وعن ثوابتهم السياسية (الحكم بما أنزل الله، العدل أساس الحكم، الوحدة الجغرافية للأمة المسلمة بغض النظر عن أعراقها، الاسلام دين وحضارة، ناظم سياسي للبشرية باعتباره الوحي الأخير المُنَزَل للبشرية ….) وعن ثوابتهم الاخلاقية المُؤسسِة لحياة كريمة بين جموع الخلق (الأخلاق الفردية كمثال عليها التواضع وخفض الجناح، الاخلاق الاجتماعية كمثال الخلق عيال الله أنفعهم لخلقه أقربه اليه، الأخلاق المجتمعية كمثال منظومات الحقوق المجتمعية، منها مثلا، حق الجار أي كان، الاخلاق السياسية- الاجتماعية، منها كمثال، الحق والحرية، ومنها مثلا، العدل كأساس للحكم، توزيع الثروات) ..هذه الزعزعة عن الثوابت، تعتبر في سياق المواجهات الحضارية، ربحا خالصا للمشروع الغربي، متجليا راهنا بإسرائيل ذلكم أن المنطق الكوني الحضاري المسيطر اليوم المرهون بين ضفتي الحضارة اليهودية وتجلياتها الكونية ومنها العلمانية بكل صورها واليونانية- الهلينية بصفتها تواصلت تعاضدت مع اليهودية وتجلياتها، ترى في الإسلام التحدي الأكبر لدوام سيطرتها وعلوها، ومن ثمّ فكل قضية ذات ثقل تعبر عن الاسلام ليس فقط كدين، بل كحضارة، هي في جوهر معنى الصراع، وبالتالي فالقضية الفلسطينية باعتبارها محملة بالأبعاد الدينية والحضارية على وجه الخصوص، ما زالت تشكّل التحدي الأكبر للحضارة الغربية.
الاخوان المسلمون يفاجئون حالة الانتشاء الحضاري الغربي..
يعتبر قيام إسرائيل، انتصارا ساحقا للحضارة الغربية على الحضارة الإسلامية، وخاصة أنه قد تمّ إقامتها على أرض مقدسة للمسلمين، وكانت محط صراع دائم معهم، وتعتبر في المنظور العقدي السياسي، ذات مكانة خاصة بين المسلمين. فبعد أن نجحت في تأسيس إسرائيل ومدها بالحياة الى هذه اللحظات، نَظَر دهاقنة هذه الحضارة بشيء من الزهو إلى أنهم أنهوا الوجود السياسي-الحضاري للمسلمين بتدمير وتفكيك الدولة العثمانية وتوطين العلمانية في الديار العربية، وتفكيك المنطقة العربية، وجعلها دويلات تأتمر بأمرهم، فإذا بهم يتفاجؤون بظهور الإخوان المسلمين حيث شكّل انهيار الدولة العثمانية السبب المباشر لظهور هذه الجماعة، فضلا عن أسباب تتعلق بالاستعمار وتيار العلمنة المتواطئ مع هذا الاستعمار، وقد اتخذت من إعادة الحكم الاسلامي واحدا من أهدافها ومضت به تطويرا وتهذيبا الى يومنا هذا، بل وتطلعت إلى الاستاذية العالمية، ونظرت الى هذه الاستاذية عبر نظريات العالمية الإسلامية، وهو ما يعني تجاوزها مسألتي الخلافة والحكم في السياق العربي الى الفضاء الكوني، حيث قاربت هذه الجماعة على الرغم من الكم الهائل من الانتقادات الموجهة لها مسائل تشكيل تخيل الامة الاسلامية فيما بعد انهيار الخلافة، بل وذهبت الى تحقيق قفز للإسلام ليكون عابرا للقوميات، وهو ما شكّل تحديا كبيرا للمنظومة العلمانية العربية والغربية على حد سواء، ولا تزال هذه الجماعة تشكل تهديدا للأنظمة العربية الموالية للاستعمار الغربي، وبالطبع للصهيونية متجلية بإسرائيل، وقد أخذت العشرية الثانية من هذا القرن منحى استئصاليا في العلاقة مع هذه الجماعة، تبنته المنظومة العلمانية العربية والغربية لحفظ اسرائيل ابتداء، وحفظ وجودها ومصالحها، وهذا المنحى الاستئصالي كما أفهمه يتجلى حتى هذه اللحظات في واحد من ثلاثة عمليات- محاولات، الاستئصال المادي والبشري عبر عمليات إبادة بشرية ومادية كما يحصل حاليا في مصر والسعودية وسوريا والسودان وعدد من الدول العربية، الاستئصال الإجرائي والذي يعمل ضمن معادلات الإغراق السياسي وتعرية هذه الجماعة، عبر إشراكها في الحكم وتحميلها مسؤوليات ما يجري في البلاد كما هو حاصل في المغرب وتونس والجزائر وغيرها من الدول العربية والاسلامية- كاتب هذه السطور يستثني بعض الحركات الاسلامية من هذا التعريف وإن كانت تعمل في الحقل السياسي لأنها لا تعتبر نفسها جزءا من الفضاء الاخواني العالمي، وإن تأثرت به ومثال ذلك الحركة الاسلامية الجنوبية في الداخل الفلسطيني المشاركة في انتخابات الكنيست وقد بنى كاتب هذه السطور هذا الادّعاء على بيانات صدرت من عدد من قياداتهم-، والمعادلة الثالثة قائمة على أساس من الاستئصال الموجّه المبني على منع هذه الحركة من العملين الشعبي والتنظيمي أو واحد منهما، وإبقائها تحت المتابعة الامنية ومنحها فرص تنفس تخدم بالضرورة الدولة لا الحركة المستأصلة تنظيميا أو مجتمعيا أو مؤسساتيا أو جميعها معا، وهذا على سبيل المثال لا الحصر نراه في الاردن ومناطق السلطة الفلسطينية، ويمكنني مقاربة ذلك لما حدث مع الحركة الاسلامية الشمالية التي حظرت في السابع عشر من نوفمبر/ تشرين ثاني عام 2015 وما زالت تلاحق العديد من قيادتها، وتسجن رئيسها الشيخ رائد صلاح، باعتبار أن هذه الحركة وفقا لتصريحات نتنياهو شكّلت دولة داخل دولة ومارست دورا محرضا في المسجد الأقصى، وترفض الاشتراك في انتخابات الكنيست وفي سنيها الاخيرة في السلطات المحلية، مما يعني أنها تعيش عالما خاصا بها يتناغم ومنطق الهوية المتخيلة لما بعد انهيار الدولة العثمانية، باعتبارها ناظما سياسيا للمسلمين الذين هم في هذا السياق أمة.
ملاحظة: حول موضوع الثوابت في مقاربات مع العلمانية، أنظر: معركة الثوابت بين الاسلام والليبرالية للمفكر الاسلامي عبد العزيز مصطفى كامل، و”الفكر الليبرالي تحت المجهر” للمفكر الاسلامي محمود الصاوي، وانظر إلى سلسلة المفكر الفلسطيني في معالجاته للعلمانية في الدين والعلمانية في سياق تاريخي بأجزائه الثلاثة، والى المقال المؤسس والمهم رغم مرور ستة عشرة عاما عليه للمفكرة الاسلامية هبة رؤوف عزت: تفكيك العلمانية من المواجهة الى الاشتباك الى ما بعد الدولة الذي ناقشت فيه المفكرة عزت موضوع العلمانية في سياق فهم الحركات الاسلامية وتحديدا “الاخوان المسلمون”.