المسجد الأقصى في العقلية الصـــهيونية… ومسائل الفرص التاريخية(21)
صالح لطفي- باحث ومحلل سياسي
التنازلات الطوعية
تأسيسا على ما ذكرته في المقالة السابقة من بيان لمعاني المسألة، القضية، الرسالية “العمل الرسالي، العمل السياسي….” وتنزيل ما أشرنا إليه الى الواقع الفلسطيني الرسمي المُعاش راهنا، على مستوى منظمة التحرير، التي ارتضت أوسلو، وقيام سلطة فلسطينية تحت الحماية والرعاية الاسرائيلية والدولية، فقد تنازلت بل وفي بعض الأحيان شطبت هذه المنظمة، ومن بعدها السلطة الناشئة عنها، كافة ثوابت القضية الفلسطينية التي على أساسها قامت حركات التحرر الفلسطيني وفي مقدمتها حركة فتح، فقد تم التنازل من طرف المفاوض الفلسطيني، عن ثوابت القضية الفلسطينية، ولجأ الى منطق التكتيك والحل المرحلي، مع علمه أن هذه السياسة تحتاج إلى حاضنة وقوة وإرادة، فكان منه أن تنازل مبكرًا عن القضية الفلسطينية كقضية تحرير لكامل التراب الفلسطيني، وأخضعها لمنطق المساومات والتفاوض، وتنازل تبعا لذلك عن أن القدس والاقصى كثابت من ثوابت هذه القضية، وكذلك فعل مع قضية اللاجئين، وبالتالي تنازل عن الرسالية في القضية الكبرى، أي القضية الفلسطينية، التي هي قضية الشعب الفلسطيني، كل الشعب الفلسطيني، بكل أماكن تواجده ومكوناته السياسية والدينية، وبتنازله هذا، أحدث ثلاثة خروقات كبرى ما عاد بالإمكان تحملها، خرق قضية اللاجئين، أي قضية الإنسان في القضية الفلسطينية، وخرق القدس والأرض، أي الوطن، وخرق الأقصى، أي المُقدس، وبذلك هتك أستار ثلاثية قوائم القضية: الإنسان، المقدس، الوطن، وهل نازعت شعوب العالم التي سعت للتحرر، إلا من أجل هذه الثلاثية!! فماذا تبقى للقضية الفلسطينية ومكوناتها وثوابتها؟
هذا في الوقت الذي تقدّم الاسرائيلي بخطى ثابتة قائمة على بصيرة بالواقع المُعاش، مدعوما عربيا ودوليا بالمال والعتاد والموقف وبصبر وجَلَدْ نحو تحقيق أهدافه التي هي أساس لتشكيل روايته: الإنسان والمقدس والوطن، فكانت الهجرات المتتالية إلى هذه البلاد، وكان الزحف الاستيطاني على كامل تراب فلسطين “التاريخية”، وبقي عنده المُقدس الذي يُعنى ببناء الشخصية والهوية والكيان الفردي والجمعي لهذا الانسان الذي جيء به من أصقاع الارض ولهذا الوطن، الذي يعمل ليل نهار على تغيير وجهه وهويته وسحنته، مستغلا الظرفين الإقليمي والدولي من جهة، وحالة الترهل الفلسطيني من جهة أخرى، وقد علَّمت التجارب المفاوض الإسرائيلي، أن الصبر واستغلال الفرص، من أسس تحقيق المطالب، ولو كانت مرحلية، ولا ينكر إلا مكابر أن الاسرائيليين استغلوا حالة الرّدّة على الربيع العربي، لصالح تعزيز شوكتهم السياسية والعسكرية، واستغلوا جيدا رئيس الولايات المتحدة المنتهية ولايته، لتحقيق مطالب يعتبرونها أساس في مدماك روايتهم الساعية لبناء الانسان “اليهودي” عبر بوابات الدين وأساطير التوراة وأحاديثها عن السامرة ويهودا ومملكتي يهودا وإسرائيل، وعن القدس والهيكل والهياكل.
اليهودية واليهود والهيكل
تاريخيا، اشتعل النقاش بين عدد من المفكرين اليهود، حول علاقة اليهودية بالدين، وهل اليهودية دين محصور بعنصر بشري هم اليهود، أم أنه كغيره من الأديان مفتوح للخلق كافة، وقد ذهب ماركس الى أن اليهودية دين وأن ليس هناك يهود مخصوصون بهذا الدين يشكّلون تبعا لهذا الفهم هوية دينية وعرقية ووطن، ولذلك ذهبت الصهيونية ومعها أحبار اليهود وعلمائها إلى أن اليهودية مخصوصة باليهود، وجاءت الحركة الصهيونية “العلمانية” تتوسل اليهودية، لتحقيق روايتهم الخاصة بأنهم أمّة من دون الناس، وأنهم شعب الله المختار، وكان من ضرورات هذا الفهم الباني للهوية، التوجّه نحو القدس والاقصى باعتبارهما في السياقات الدينية اليهودية محل تقديس، ولتحقيق هذه الغاية، توسلت ثانية بلوبياتها العالمية، لتحقق قيام دولتها، ثم توسلت ثانية بما ملكت من قوة، فاحتلت القدس مرتين عام 1948 وعام 1967 ثم توسلت ثالثة باتفاقيات مع العرب، بدأت بعصر السادات، ثم عرفات والحسين بن طلال، لتقف هذه اللحظات على بوابات الرياض ودبي والمنامة، والقادم قطعا لا يبشّر بخير، لكنه يؤكد مسارهم نحو تحقيق ما يذهبون إليه من إقرار فلسطيني وعربي وإسلامي، بأن القدس عاصمة لهم وأن الهيكل على جبل مورية، ولا بدَّ من بنائه، وقد شهدنا في السنوات الأخيرة ظهور بعض العلمانيين العرب يرددون الرواية الصهيونية ويجعلونها حقيقة لازبة، تقتضي الإقرار بل وأن نعتذر نحن المسلمون عن حقنا العقدي-الشرعي الإلهي في القدس والاقصى، وما قصة الجعرانة والمسجد الاقصى التي بات يرددها عدد من الجاميين في السعودية والقبوريين في الامارات، إلا بدايات تمهيدية لما هو قادم على المسجد الاقصى ومدينة القدس، ومن نافلة القول أن أشير هنا إلى تخاذل سلطة أوسلو وعودتها تستجدي الاحتلال للتنسيق الأمني الذي لم يتوقف أبدًا.
نجحت اسرائيل أن تستغل الفرص السانحة، محليا وإقليميا ودوليا، لمزيد من تثبيت روايتها، وتخاذلت وتواطأت أنظمة البطش العربية، وسلطة أوسلو، وكأننا أمام مشهد متجدد لتخاذل دويلات العرب أيام الإحتلال الصليبي.