معركة الوعي (45).. في الحديث عن المتابعة وما بعدها!
حامد اغبارية
عادت قضية مستقبل لجنة المتابعة العليا إلى الواجهة في الأيام الأخيرة، على خلفية التجاذبات داخل القائمة المشتركة ومستقبلها الغامض، والتجاذبات بين أقطاب داخل المشتركة، وتجاذبات بين المشتركة وبين أقطاب من خارجها.
ولعل مجرد تفاعل الحديث حول المتابعة ومستقبلها يشكل مناسبة جيدة لترتيب الأوراق، واستعادة الوعي، بعد أن أثبتت الأحداث ما ذهبنا إليه طوال الوقت، من أن اللعب في ملعب الكنيست لا يعدو كونه حرقا ليس فقط للأوراق والأعصاب، وهدرا للأوقات والجهود والطاقات (والأموال الطائلة)، بل هو حرقٌ للأرض الصلبة التي يقف عليها هذا القطاع الواسع من أبناء الشعب الفلسطيني، في الداخل.
إن الحديث عن مستقبل لجنة المتابعة لا يدور فقط في أوساط السياسيين والإعلاميين والنخبة المثقفة من أبناء مجتمع الداخل، بل يدور في مختلف الشرائح المجتمع، بين مُطالب بإعادة هيكلتها، ومُطالب بانتخابها المباشر، ومُطالب بإلغائها وإنشاء جسم أو إطار جديد يستثني الجهات المعطلّة لتطوير عمل اللجنة الحالية، وما إلى ذلك من مواقف وأفكار، كلها مؤشر على أن الاهتمام بوجود جسم تمثيلي للجماهير الفلسطينية في الداخل لا يزال حيا، ويعكس شعورا قويا بضرورة وجود جسم قوي ذي تأثير وثقل ووزن يمكنه من خلاله أن يحقق الكثير الكثير من الإنجازات، خاصة على مستوى القضايا الوطنية.
وعندما نقول بضرورة التركيز على القضايا الوطنية فإن هذا له علاقة بما يجري الآن على الأرض من التركيز على القضايا المطلبية اليومية التي غرقت فيها القائمة المشتركة وأغرقت معها نصف الشارع في مجتمع الداخل، دون أن تحقق منها شيئا، ذلك بعد أن حاولت أن تطرح نفسها بديلا للجنة المتابعة، مدعومة من ماكينة إعلامية ضخمة، خاصة من خلال تركيز الإعلام الصهيوني الذي سعى إلى تقديم المشتركة على أنها هي، وفقط هي، التي تمثل فلسطينيي الداخل، لكن هذا “المشروع” فشل فشلا ذريعا، لأن الذين وقفوا خلفه فشلوا في كل شيء، حتى في إقناع الجمهور بشعاراتهم التي سرعان ما اتضح للأعمى والبصير أنها ليست أكثر من وسيلة لحصد الأصوات.
في هذه الأيام تجري الاستعدادات لانتخاب رئاسة المتابعة بعد إقرار التعديلات على نظامها الداخلي (الدستور). وحتى هذه اللحظة ما تزال الصورة غير واضحة، ليس فقط فيما يتعلق بمرشحي رئاسة اللجنة، بل- وهو الأهم- فيما يتعلق بمستقبل اللجنة ومصيرها.
هل ستبقى اللجنة على ذات الهيئة المترهلة التي تعاني منها منذ سنوات طويلة؟ أم أن ما يجري على الأرض سيدفع إلى تحريك عجلات التغيير، حتى لو كانت بطيئة وئيدة؟
ربما نحتاج إلى بضع سنوات أخرى حتى يقتنع من لم يقتنع بعدُ أن الحل الأمثل والوحيد الذي يضمن خروجنا من عنق الزجاجة، التي زجَّت الجهاتُ المعطِّلة في اللجنة بمجتمعنا فيه، هو التغيير الشامل. وهذا التغيير يقف في مقدمته الانتخاب المباشر للجنة، رئاسة وعضوية بآليات ووسائل تقررها لجنة انتخابات أهلية مستقلة لا تخضع لتأثير سياسي من أي جهة كانت.
إن مستقبل مجتمعنا الذي يعاني من عشرات الأزمات التي تراكمت طوال عقود، والتي يتصدّرها اليوم ملف العنف الدامي، الذي يقض مضاجعنا جميعا، ومثله ملف أزمة السكن وغول الهدم، وملف التعليم، والملف الاقتصادي، وقبل هذا وذاك وبعده، ملف الهوية والانتماء؛ إن هذا المستقبل مهدد وتحدق به الأخطار الخارجية والداخلية من كل جانب أكثر من أي وقت مضى. وإن وجود جسم ذي وزن وتأثير وقوة سياسية وشعبية – جماهيرية يضم كافة الأطر السياسية الفاعلة، التي تريد فعلا وحقا تثبيت أقدام هذا المجتمع وإنقاذه مما يعاني منه، وإخراجه من أزماته، وبث روح التفاؤل في أوساط أبنائه، ودفعهم تلقائيا وبإرادتهم إلى التفاعل الإيجابي مع قضاياه، التي ليس فقط أنها أُهملت تماما من جانب السلطات الإسرائيلية الرسمية، بل هناك قرائن ودلائل كثيرة تؤكد أن هذه السلطات تنتهج سياسة إرسال هذا المجتمع إلى الجحيم.
ولأن المجتمعات الحيّة تحتاج إلى قيادة حيّة، صادقة، تخدمها وتضحي لأجلها، لا تتسلق عليها للوصول إلى مطامحها الشخصية، ولا تمثّل عليها دور القيادات الوطنية في الوقت الذي تقودها إلى الاتجاه المعاكس تماما، فإن مجتمعنا، بصفته مجتمعًا ينبض بالحياة، وهو مجتمع مسيّس، عركته السنين والأحداث والتقلبات، أحوج ما يكون إلى جسم تمثيلي قوي يعبر عنه، بل ويعالج قضاياه ومشاكله، ولا يكتفي بالتنظير والشعارات وبعض الفعاليات التي ثبت عجزها عن إثبات فاعليتها في التأثير على الجمهور وعلى قضاياه كما هو متوقع ومطلوب.
من أجل ذلك حان الوقت فعلا لوجود هذا الجسم التمثيلي. ولأن المتابعة هي جسم موجود فعلا، فإن أولى الخطوات التي لا بد من اتخاذها هي الدفع بقوة نحو الانتخاب المباشر. لأنه إذا كانت لدى بعض القيادات الصادقة داخل المتابعة الصبر الطويل على نكبات الوضع الحالي فإن مستقبل هذا المجتمع لن يصبر أكثر من مما صبر حتى الآن، وسرعان ما سيجدونه يبحث عن البديل في مكان آخر. وهذا البديل إمّا يحركه اليأس والإحباط، وينعكس في الارتماء في أحضان الأسرلة والاندماج، وهذا ما بدأنا نلاحظه منذ سنوات، وإمّا يحركه الحس الوطني الصادق والقلق على مستقبله، فيلجأ إلى تشكيل جسم آخر جديد، لعله من خلاله يستطيع أن يحقق ما لم يتحقق حتى الآن. وعندها، وفي الحالتين، ستجد المتابعة نفسها في مواجهة نفسها وفي مواجهة أبناء شعبها، وهذا ما لا يفترض أن يحدث.
سمعت بعض قيادات المشتركة يقول في مقابلة تلفزيونية ردا على سؤال حول المتابعة إنه “لا يصح تغيير تركيبة لجنة المتابعة. موقفنا وبوصلته هي المحافظة على اللجنة، ولا نريد تعريضها للاهتزازات الدائرة داخل المشتركة، لأنها هي الإطار والسقف السياسي الجامع”.
هذا كلام أقل ما يقال فيه إنه سعي للإبقاء على المتابعة ضعيفة بلا تأثير، وإنما مجرد جسم تنسيقي لا أكثر من ذلك. وإن الحديث عن الخوف من نقل مشاكل المشتركة إلى المتابعة هو هروب من المشكلة وتعطيل لتطوير عملها وأدائها. ثم من قال إن خلافات المشتركة ستنتقل بالضرورة إلى المتابعة إذا ما طرحت قضية الانتخاب المباشر؟ هذا الكلام يترك انطباعا وكأن المشتركة هي كل المتابعة؟ وهذا ليس صحيحا ولا يعكس الحقيقة إطلاقا!! فالمشتركة تمثل جزءا من المتابعة، وخلافاتها (واهتزازاتها) محصورة في الصراع على ما يجري في المشهد السياسي الإسرائيلي وتحديدا وحصرا في الكنيست، ولا علاقة له عمليا بما يحدث في مجتمعنا، بل لا علاقة له بهموم مجتمعنا، ناهيك عن أن التجاذبات والخلافات داخل المتابعة موجودة منذ تأسست، ولا أرى خروجا من هذه التجاذبات والصراعات إلا بالتغيير الجذري انطلاقا من الانتخاب المباشر. وفي التالي لا مكان للتعبير عن هذا القلق المصطنع الذي يخفي وراءه أسبابا أخرى يعرفها المتحدث ونعرفها نحن كذلك. وإن الذي يدعو (في اللقاء نفسه) إلى وحدة الصف الإسلامي أحرى به أن يسعى إلى وحدة الصوت والموقف الإسلامي فيما يتعلق بمستقبل لجنة المتابعة.
لكن يبدو لي أن الهروب من إعادة تشكيل المتابعة بالانتخاب المباشر تقف خلفه مخاوف أخرى، أقلها خسارة أوراق ومواقع ومكانة، بعد تجربة الجمهور المأساوية مع ممارسات المشتركة،ـ التي باتت فعلا تشكل عبئا على هذا المجتمع، بدلا من أن تكون وسيلة لتخفيف الأعباء عنه.
الحديث عن مستقبل المتابعة يجب ألا يتوقف عند هذا الحد، ولا بد من التفصيل فيه أكثر وأكثر حتى نصل إلى النقطة التي لا رجوع منها. ولعلنا نعود إليها قريبا.