إياك وعثرات الطريق
الشيخ كمال الخطيب
في زمن النقلة والطفرة في وسائل الاتصال حيث بات بمقدور الإنسان أن يتكلم ويسمع ويرى من هو على الجانب الآخر من جهة الاتصال، في أي بقعة من العالم بل وأكثر من ذلك. وفي زمن شيوع وسهولة استخدام شبكات التواصل بتنوعها وتعدد خدماتها وانفتاح الناس على بعضهم البعض، فقد أصبح من السهل إبداء الرأي والتعليق على أي موضوع بل والنيل من أي شخص لا يروق للآخر هويته أو قناعاته. لقد كشفت هذه التطورات عن كثير من خبايا الأشخاص والمجتمعات وعن مقدار الهبوط والتردي القيمي والأخلاقي الذي وصل إليه كثير من الناس. ليس العيب في وسائل التواصل هذه وإنما العيب فيمن يستخدمها بشكل سلبي ومسيء. صحيح أن الشتيمة لا ترفع أحدًا ولا تحط من قيمة أحد ولكنها ترينا حجم ومقدار حالة الانحدار والتردي وفقدان البوصلة الاجتماعية التي وصل إليها كثيرون.
وعليه فإنها وقفات ومواقف بها نحاول المساهمة في العودة إلى الجادة ونحن على يقين أن ما نحن عليه إنما هي حالة طارئة وسنعبرها، وظرف استثنائي سنتجاوزه، وأنها غيمة سوداء داكنة من غيوم تلبّدت فوق مجتمعاتنا وأنها ستنقشع بإذن الله تعالى.
أنت وأنا
فعن الحسن بن علي رضي الله عنه قال: التقى يحيى بن زكريا عليه السلام مع عيسى ابن مريم عليه السلام فقال له عيسى: استغفر لي فأنت خير منّي، فقال له يحيى عليه السلام وهو ابن خالته: بل أنت خير منّي. فقال له عيسى عليه السلام: بل أنت خير مني فأنا سلّمت على نفسي {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً} آية 33 سورة مريم. أما أنت فإن الله جلّ جلاله قد سلّم عليك {وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا} آية 15 سورة مريم.
ليس أننا من هذا الموقف نتعلم حاجتنا الدائمة للاستغفار، حيث يحيى وعيسى عليهما السلام نبيّان كريمان معصومان ولا يقعان في ذنب أو معصية حاشاهما، ومع ذلك فلقد كان الواحد منهما حريصًا أن ينال استغفار الآخر له لما يعلمه كل منهما من صلاح الآخر وتقواه. أقول ليس فقط أننا نتعلم الحاجة الدائمة للاستغفار، وإنما نتعلم كذلك التواضع واستشعار اتهام النفس الدائم بالتقصير، ونتعلّم أدب الحوار واستشعار أن الواحد منا ليس ملاكًا بينما الآخر شيطان، ولا أن أحدنا معصوم بينما الآخر غارق في الذنوب، ولا أن أحدنا قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر بينما الآخر أغلقت في وجهه أبواب الرحمة وأبواب الجنة. فما أحوجنا لخُلق “قبل أن ترى القذاة في عين أخيك فانظر إلى الخشبة في عينك”. وخُلق الشافعي رحمه الله لما قال:
إن رُمت أن تحيا سليمًا من الأذى ودينك موفور وعرضك صيّن
لسانك لا تذكر به عورة امرئ فكلك عورات وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك مساوء فصنها وقل يا عين للناس أعين
وعاشر بمعروف وسامح من اعتدى ودافع ولكن بالتي هي أحسن
فهذا هو أدب الإمام الشافعي رحمه الله، ومن قبله فإنه أدب الأنبياء عيسى ويحيى عليهما السلام يعرف الواحد منهما فضل الآخر.
هذا خير مني
كان العالم الجليل أبو بكر المزني إذا مرّ به شخص يكبره في العمر نظر إليه وقال: هذا خير مني فإذا سئل فكان أبو بكر يقول: إنه سبقني إلى الإسلام وسبقني إلى العمل الصالح، فيقينًا إنه خيرٌ مني.
وكان إذا مرّ به شخص هو أصغر منه عمرًا نظر إليه وقال: وهذا خير مني، فإذا سئل قال: لقد ولدت قبله وسبقته في الذنوب، فهو خير مني.
هكذا يكون ميزان العقلاء والصالحون لأنفسهم أنهم يحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا غيرهم. إنهم يزنون كل فعل يفعلونه بميزان الشرع لأنه الميزان الأعدل، فإذا أكرمك الناس وأجَلّوك واحترموك ووقّروك فلا تقل أن هذا لأنني أنا فلان الذي عملت وعملت والناس يعرفون ذلك مني، وإنما قل: هذا من فضل الله عليّ وأنا لا أستحق هذا الفضل. وإذا أهانك الناس أو ظلموك أو أساؤوا إليك فلا تتهم أخلاق الناس، وإنما قل ما كان يقوله الصالحون: لعلّ هذا بذنب أذنبته. إن إرجاع الفضل لله في كل عمل وبعد كل نجاح هو من شيم الصالحين {رَبّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْت إِلَيَّ مِنْ خَيْر فَقِير} آية 24 سورة القصص. {ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} آية 4 سورة الجمعة. وإن اتهام النفس وتأنيب الضمير والتلويم الذاتي هو من علامات صحوة الضمير ونقاء وصفاء قلب الإنسان، فالعبد الصالح يعتبر نفسه مهما عمل وقدّم لله تعالى من طاعات فلعلّها لا تساوي واحدة من نعم الله عليه {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍۢ فَمِنَ ٱللَّهِ} آية 53 سورة النحل. وإن العبد العاصي والفاجر وصاحب الإيمان الضعيف فإنه يرد كل شيء يناله فإنما هو من صنع يديه وعرق جبينه دون أن يرد الفضل إلى صاحب الفضل سبحانه، وبالتالي فإنه يتشابه في هذا السلوك مع قارون الذي كان يقول عن كثرة المال الذي رزقه الله إياه {إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَىٰ عِلْمٍ عِنْدِي} آية 78 سورة القصص.
كلب ابن كلب
يقول الإمام السبكي رحمه الله تعالى: كنت جالسًا في فناء دارنا فأقبل كلب من الطريق ودخل فناء البيت فجأة، فوقفت على قدميّ وانتهرته بصوت عالٍ قائلًا له: إخس، كلب ابن كلب. فسمعني والدي من داخل البيت فزجرني على ما قلت فقلت: سبحان الله أليس هو كلب وأبوه كلب؟ فقال لي أبي: إن شرط جواز أن تقول ذلك بعدم قصد التحقير وإلا فإن قصدت بالتأكيد أنه ابن كلب التحقير فلا يجوز لك ذلك.
سبحان الله فإذا كان هذا الفهم الراقي به يمنع تحقير الكلب فكيف بمن يحتقر إنسانًا مثله بسبب لونه أو بسبب عائلته أو بسبب دينه أو بسبب فقره أو بسبب مرضه أو بأي سبب آخر.
وهل كان أعظم مثال من قول المسيح عليه السلام لتلاميذه يوم مرّوا على جيفة كلب ميّت، فقال أحدهم: ما أشد نتن رائحته. وقال الآخر: ما أشدّ سواد شعره، وقال الآخر: ما أطول مخالبه، فقال عيسى عليه السلام: ما أشدّ بياض أسنانه.
إن تربية المسيح عيسى عليه السلام لتلاميذه وإن تربية والد الإمام السبكي لابنه لهي السنة الحسنة في التربية بالتعامل مع الناس التي ربّى عليه والد محمد إقبال ابنه في القصة التي يرويها الفيلسوف العظيم الشاعر والأدب الصادق محمد إقبال لمّا يقول في سيرته:
جاء سائل فقير فطرق باب بيتنا بعنف، فخرجت أنا لأرى من بالباب، فوجدت السائل فضربته بعصًا على رأسه فتناثر منه ما جمعه من بيوت سبق ودخل إليها. خرج والدي من داخل البيت على صوت السائل وصراخه فتألم لما رآه وسال الدمع من عينيه، وقال لي: يا بني غدًا تجتمع أمة خير البشر أمام مولاها، وغدًا يحشر أهل الملّة البيضاء “المسلمون” حكماؤها والشهداء والعلماء والعصاة، ويأتي هذا السائل المسكين صائحًا شاكيًا، فماذا أقول وبم أجيب إذا قال لي النبي ﷺ: إن الله أودعك شابًا مسلمًا فلِمَ لم تؤدّبه بأدبي، بل لِم لَم تستطع أن تجعله إنسانًا، فانظر يا ولدي عتاب النبي الكريم ومقامي في خجلي بين الخوف والرجاء، أتفضح أباك أمام مولاه يا ولدي. يا ولدي كن برعمًا في غصن المصطفى ﷺ، وكن وردة من نسيم ربيعه، وخذ من خلقه الطيب نصيب.
إياك وعثرات الطريق
يقول الإمام الشافعي رحمه الله: وأنت في طريق سيرك إلى الله فاركض، فإن صعب عليك فهرول، فإن تعبت فامش، فإن لم تستطع كل هذا فسر إلى الله ولو حبوًا ولكن إياك إياك أن ترجع.
وقال أحد الصالحين: لو أن السباق إلى الله يتحقق بالأقدام لتصدر وفاز بالسبق رشيق البدن، ولكن السباق إلى الله لا يكون إلا بالقلوب، فهنيئا للفائز وهو خفي العمل، فالطريق إلى الجنة لا يكون بالأقدام بالسابقة وإنما بالقلوب الصادقة.
في الطريق إلى الله أنت بحاجة دائمة للزاد وإلا هلكت وخسرت:
خاب الذي سار عن دنياه مرتحلًا وليس في كفّه من دينه طرف
لا خير للمرء إلا خير آخره يبقى عليك فذاك العزّ والشرف
فاذهب حيث شئت لكن لا تنس {إِنَّ إلى رَبِّكَ الرجعى} آية 8 سورة العلق. واعمل ما شئت ولكن لا تنس أن بانتظارك كتاب {لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} آية 49 سورة الكهف. اليوم يقبل منك سبحانه مثقال ذرة {فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه} آية 7 سورة الزلزلة. وغدًا لا يقبل منك ملء الأرض ذهبًا {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَىٰ بِهِ} آية 91 سورة آل عمران.
نعم إن من حقك أن تعمل للدنيا حتى تطمئن على مستقبلك، ولكن واجبك أن تعمل للآخرة لأن هناك مستقبلك الحقيقي الذي يجب أن تطمئن إليه.
إذا ما قال لي ربي
كان عطاء السلمي يعمل نسّاجًا، وكان بارعًا في محنته فنسج ثوبًا فأتقنه وحسّنه ثم ذهب به إلى السوق، فدخل على أحد التجار وعرضه عليه. راح التاجر يقلّب الثوب بيديه فلم يعجبه وردّه قائلًا: “إن فيه عيوب كيت كيت”. أخذ عطاء السلمي الثوب وجلس يبكي بكاء شديدًا. ندم التاجر على فعلته وأخذ يعتذر إليه ظانًا أنه هو السبب في بكائه بل راح يعرض له في ثمنه ما يريد من مال فقال له عطاء: “ليس ذلك مما تظن، إنما أنا عامل ماهر في هذه الصناعة وقد اجتهدت في نسج الثوب وتحسينه حتى لا يوجد فيه عيب، ومع ذلك فلما عرض على بصير وخبير مثلك وجد وأظهر فيه من العيوب ما كنت عنه غافلًا، فتذكرت يوم تعرض أعمالنا وكتبنا على الله رب العالمين وهو البصير الخبير يوم القيامة، ونظن أنها كاملة، فيا ويلتي كم سيظهر فيها من العيوب والنقصان”.
وإن ما كان من عطاء السلمي لقد كان من الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله وقد دخل عليه شخص فقال له يا إمام: ما رأيك في هذا الشعر؟ فقال الإمام أحمد: وأي شعر هذا؟ قال الرجل:
إذا ما قال لي ربي أما استحييت تعصيني
وتخفي الذنب عن خلقي وبالعصيان تأتيني
فأخذ الإمام يردد الأبيات ويبكي حتى أصبح له صوت كبكاء الأطفال، حتى قال تلامذته كاد الإمام أحمد أن يهلك من كثرة البكاء.
نعم إنها أبيات من قصيدة قال فيها الشاعر:
إذا ما قال لي ربي أما ستحييت تعصيني
وتخفي الذنب عن خلقي وبالعصيان تأتيني
فكيف أجيب يا ويحي ومن ذا سوف يحميني
ويا ويحي ألم أسمع كلام الله يدعوني
ألم أسمع بما قد جاء في قاف وياسين
ألم أسمع منادي الموت يدعوني يناديني
فيا رباه عبد تائب من ذا سيؤويني
سوى ربّ غفور واسع للحق يهديني
ربّ اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم إنك أنت الأعزّ الأكرم.
رحم الله قارئًا دعا لي ولوالدي ولوالديه بالمغفرة
والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون