“الربيع العربي” أول ثورة أداتها الأساسية الهواتف الذكية
قبل عقد من الزمن، منحت مواقع التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية المتظاهرين الشباب خلال الربيع العربي وسيلة تقنية ساعدتهم على الإطاحة بأنظمة متسلطة ومتجذّرة، بعد أن انتشرت بواسطتها روح الثورة.
وقامت انتفاضات شعبية لم يتوقعها أحد توسعت بسرعة بفضل “تويتر” و”فيسبوك” و”يوتيوب”. لكن ولسوء حظ التحركات المؤيدة للديمقراطية، دخلت الدول الاستبدادية بعد ذلك في سباق التسلح الرقمي، فعززت المراقبة الإلكترونية والرقابة على الإنترنت والجيوش الإلكترونية.
وبعد أن قدم الربيع العربي بصيص أمل لكثيرين، انتهى في معظم الدول التي شهدته بأنظمة أكثر قمعية من قبل أو بحروب مدمرة، كما هي الحال في سوريا وليبيا واليمن.
رغم ذلك، يقول الناشطون الذين شاركوا في التحركات الشعبية في تلك الفترة، إن هناك لحظة فاصلة في تلك الثورات تتمثل في إطلاق حقبة “احتجاجات الهاشتاغ” التي استخدمها الذين احتلوا وول ستريت إلى الذين نظموا احتجاجات المظلات في هونغ كونغ وحركة “حياة السود مهمة” أخيرا في الولايات المتحدة.
وتتسم مثل هذه الاحتجاجات بكثافة استخدام الإنترنت والافتقار إلى قيادة، فتبدأ وتنفضّ فجأة بشكل خاطف، ما يصعّب على السلطات تعقبها وقمعها، بينما تتولى الجماهير عبر الإنترنت التعبير عن مظالمها ومطالبها.
ويقول الناشط التونسي السابق سامي بن غربية الذي كان يدير مدونة من المنفى وعاد إلى وطنه إثر بدء انتفاضة 2010: “لم تكن المدونات وشبكات التواصل الاجتماعي هي المحفز، لكنها دعمت الحركات الاجتماعية”. ويضيف: “كانت سلاحا هائلا للتواصل”.
ويقول نشطاء الإنترنت العرب اليوم إن السلطات في الدول العربية فقدت جزءا من قدرتها على التحكم بما يمكن للمواطنين رؤيته ومعرفته وقوله، كما اتضح من خلال الموجة الثانية من الاحتجاجات التي هزت الجزائر والسودان والعراق ولبنان في 2019 و2020.
وبالتالي، فإن الرقابة الرسمية الثقيلة تزعزعت في العديد من الأماكن. وأحدثت هذه الروح الحرة أيضا تغييرا نحو الأفضل في البلد المتوسطي الصغير حيث بدأ كل شيء: تونس.
“التعبئة الشاملة بالهواتف الذكية”
ومثّلت حادثة الانتحار المأساوية للبائع التونسي الجوال محمد البوعزيزي (26 عاما) الذي أضرم النار في نفسه بعد أن تعرض للخداع والإذلال من مسؤولين في الدولة، الشرارة التي أطلقت الربيع العربي.
وإذا كان تصرفه اليائس في 17 كانون الأول/ ديسمبر 2010 عبّر عن غضب حقيقي كان يشعر به الملايين، فإن العالم الافتراضي للتواصل عبر الإنترنت هو ما نشر الغضب والأمل في التغيير كالنار في الهشيم.
وتم تسخير السخط الذي كان يُطبَخ على نار هادئة منذ فترة طويلة في الأوساط الشعبية الفقيرة، وعرف الناشطون البارعون في مجال التكنولوجيا والمتحدرون بمعظمهم من الطبقة الوسطى كيف يضاعفونه لتظهير حركة جماهيرية ما لبثت أن انتشرت من المغرب إلى إيران.
ولا توجد لقطات مصورة لحادثة حرق البوعزيزي نفسه، لكن تم تناقل صور كثيرة وأشرطة فيديو لا تحصى حول احتجاجات الشوارع التي تلت وعنف الشرطة الذي كان يهدف إلى قمع المتظاهرين وتخويفهم، لكنه بدلا من ذلك أثار المزيد من الغضب.
وأصبحت الهواتف الذكية بكاميراتها سلاحا للمواطنين في حرب المعلومات التي سمحت للجميع تقريبا بأن يصبحوا شهودا وينظموا أنفسهم، في “تعبئة شاملة بالهواتف الذكية”.
وتمت مشاركة المقاطع المصورة بشكل خاص على موقع “فيسبوك”، وهو وسيلة خارجة عن سيطرة الدول البوليسية التي سيطرت بشدة على مدار عقود على وسائل الإعلام المطبوعة والمرئية.
ويتذكر مدوِّن اسمه حمادي كالوتشا قائلا: “كان دور فيسبوك حاسما”. ودرس كالوتشا في بلجيكا وأطلق في عام 2008 منتدى على “فيسبوك” بعنوان “لدي حلم… تونس ديمقراطية”.
وأوضح: “كان بالإمكان نشر المعلومات مباشرة أمام أنظار النظام”، وقال: “جُمّدت الرقابة. كان عليهم إما أن يراقبوا كل ما يتم تداوله أو أن لا يرصدوا أي شيء”.
وإذا كان الناس في الماضي يعبرون عن آرائهم المعارِضة همسا، فقد سقط حاجز الخوف واللامبالاة لدى البعض بعدما رأى مستخدمو الإنترنت أفراد العائلة والأصدقاء يتحدثون علانية عبر الفضاء الافتراضي.
وشكّلت منصات الإنترنت كذلك جسرا مع وسائل الإعلام العالمية التقليدية، ما أدى إلى تسارع حركات التظاهر في المنطقة. وقال كالوتشا: “وسائل الإعلام الدولية مثل قناة الجزيرة غطت الانتفاضة مباشرة من فيسبوك”. وأضاف: “لم تكن لدينا منصة أخرى لبث مقاطع الفيديو”.
وما لبث أن غادر رئيس تونس زين العابدين بن علي البلاد بسرعة قياسية لم تتجاوز الشهر، ما شكل مفاجأة كبيرة.
على رسم جداري في مدينة تونسية، كان في الإمكان رؤية عبارة “شكرا لك فيسبوك”، وذلك قبل وقت طويل من إثارة عملاق وسائل التواصل الاجتماعي الانتباه لتسببه ليس فقط بنشر دعوات الحرية ولكن أيضا الأخبار المزيفة وخطاب الكراهية.
“الكاميرا سلاحي”
ولم يمض وقت طويل قبل أن يؤدي زلزال تونس إلى هزّات ارتدادية في مصر، مركز القوة في شمال إفريقيا. وكانت حملة “فيسبوك” المسماة “كلنا خالد سعيد” أحد العوامل الرئيسية المحفّزة لحشد وتنظيم الاحتجاجات التي سلطت الضوء على عنف الشرطة وانتشار الفساد.
وتوفي سعيد (28 عاما) في مركز للشرطة في حزيران/ يونيو 2010. وانتشرت صور جثته التي بدت عليها واضحة آثار الضرب المبرح على الإنترنت، بينما زعمت السلطات بشكل غير مقنع أنه اختنق بسبب كيس مخدرات.
وجذبت حملة “كلنا خالد سعيد” على الإنترنت المئات إلى جنازته، وتلتها سلسلة من الاحتجاجات الصامتة.
ومع مطلع 2011، اكتسبت الثورة المصرية زخما وتفاقم الحراك ليتحول إلى احتجاجات مناهضة للحكومة في 25 كانون الثاني/ يناير، يوم عيد الشرطة.
وشجعت صفحة “كلنا خالد سعيد” في ذلك الوقت ما بات يعرف بـ”المواطن الصحفي” من خلال فيديو تعليمي بعنوان “الكاميرا سلاحي”.
وظهرت صور مؤثرة على الإنترنت، بما في ذلك لرجل يواجه مدفع مياه وحيدا، في ما يذكر بالصورة الرمزية لمتظاهر صيني مجهول تحدى في عام 1989 رتلا من الدبابات في ساحة تيان انمين في بكين.
وقام متطوعون بترجمة تغريدات عربية لوسائل إعلام دولية، في وقت انتقدت فيه وسائل الإعلام الرسمية “المجرمين” و”الأعداء الأجانب” الذين اتهمتهم بالتحريض على الاحتجاجات.
وأظهر قراصنة حركة “أنونيموس” (المجهولين) تضامنهم من خلال إبداء النصائح بشأن كيفية اختراق الحماية الحكومية وإنشاء مواقع إلكترونية رديفة.
في 28 كانون الثاني/ يناير 2011، في يوم “جمعة الغضب”، أوعزت الحكومة المصرية بحجب الإنترنت وخدمات الهاتف المحمول، لكن فقط بعد فوات الأوان.. إذ وصلت التفاعلات إلى مستويات حاسمة ليغادر المزيد من الشباب مواقعهم خلف شاشات الكمبيوتر للانضمام إلى الأحداث الحيّة في الشوارع.
وفي ذروة الاحتجاجات، كان ما يصل إلى مليون مصري يطالبون بالإطاحة بحسني مبارك الذي وافق أخيرا على التنحي في 11 شباط/ فبراير، منهيا بذلك حكما دام ثلاثة عقود تقريبا.
في سوريا، شكلت الهواتف الذكية جسر عبور الناشطين المعارضين إلى العالم. فقد وثقوا بهذه الهواتف قمع التظاهرات السلمية في بداية الثورة في 2011، ثم المعارك، وحصار المناطق، والجوع الذي فتك بالناس قبل سقوط مناطقهم في أيدي قوات النظام.
ساحات معارك افتراضية
وإذا كانت عبارة “الربيع العربي” تعكس التوق الرومانسي نحو الحرية على غرار ربيع براغ عام 1968، فإنها انتهت بشكل مأسوي تماما كما حصل مع الانتفاضة القصيرة الأجل التي سحقتها الدبابات السوفياتية.
وفي السنوات الماضية، تمكنت دول عربية عديدة من تهيئة ذخيرتها الإلكترونية الخاصة واتخاذ إجراءات صارمة بحق نشطاء على الإنترنت لإسكات اعتراضاتهم وانتقاداتهم.
ويشير الناشط المغربي السابق نزار بنعمات الذي كان عضوا في حركة احتجاج “20 فبراير” إلى أن السلطات المغربية “ردت بسرعة للسيطرة على هذا الفضاء الاستراتيجي”.
وأضاف أن النشطاء أصبحوا “ضحايا للافتراء والسب والتهديد على مواقع التواصل الاجتماعي وبعض وسائل الإعلام على الإنترنت”.
وبعد عقد من الزمن، اتهمت منظمة العفو الدولية السلطات المغربية باستخدام برامج اختراق الهواتف الذكية للتجسس على الصحفي والناشط الحقوقي عمر راضي قبل اعتقاله بتهم اغتصاب وتجسس.
في مصر، سحقت حكومة عبد الفتاح السيسي المعارضين وحجبت مئات المواقع وسجنت مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، بما في ذلك المؤثرون المراهقون على منصة “تيك توك”. وتقول صابرينا بنوي من منظمة “مراسلون بلا حدود” إن استحواذ المقربين من النظام على شركات النشر والبث التلفزيوني “أدى إلى موت التعددية في المشهد الإعلامي”.
وتضيف: “أطلقنا على هذه الحركة اسم: سيسوة وسائل الإعلام”، نسبة إلى السيسي.
في السنة الماضية، اتهمت منظمة العفو الدولية دول الخليج باستغلال وباء كوفيد-19 “كذريعة لمواصلة أنماط موجودة مسبقا لقمع الحق في حرية التعبير”.
ومع اندلاع الصراعات بشكل متزايد في الفضاء الافتراضي، شهدت المواجهة بين مجموعة دول الخليج بقيادة السعودية من جهة وقطر من جهة أخرى تدخلات جيوش إلكترونية لمهاجمة الخصم.
في الحرب الليبية المستمرة منذ سقوط معمر القذافي، والتي دارت رحاها عبر طائرات مسيّرة ومرتزقة، حث وسطاء الأمم المتحدة مؤخرا طرفي النزاع على إلقاء أسلحتهم ولكن أيضا على الامتناع عن استخدام “خطاب الكراهية والتحريض على العنف” عبر الإنترنت.
كما أنه تم استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بشكل كبير من جهات غير حكومية مثل تنظيم الدولة الإسلامية الذي استعملها كسلاح قوي للدعاية والتجنيد. وجاء في مقال نشر في مجلة “وايرد” الأمريكية: “تعلمنا أن الأدوات التي حفزت الربيع العربي جيدة أو سيئة مثل أولئك الذين يستخدمونها”.
وأضاف: “واتضح أن الأشخاص السيئين يجيدون كذلك استخدام وسائل التواصل الاجتماعي”.
“حلم أصبح حقيقة”
في المؤشر العالمي لحرية الصحافة الذي تعده منظمة “مراسلون بلا حدود”، لا تزال معظم الدول العربية اليوم قريبة من القاع، والمكان الوحيد الذي يقدم بصيص أمل هو تونس.
وعلى الرغم من اتساع رقعة الفقر وتفشي الوباء، تفخر تونس اليوم باكتساب تقاليد ديمقراطية، وإن كانت لا تزال هشة، وحرية تعبير نسبية في منطقة تهيمن عليها أنظمة شمولية.
وتحولت “نواة” التي كانت في يوم من الأيام واحدة من أكبر المدونات المعارضة الخاضعة لرقابة الدولة، إلى وسيلة إعلامية كاملة تنشر مقالات رأي وتحقيقات، مع موقع على شبكة الإنترنت ومجلة مطبوعة. وأنتجت العديد من الأفلام الوثائقية حول قضايا العدالة البيئية والاجتماعية وأجرت مقابلة مع رئيس الوزراء السابق إلياس الفخفاخ في وقت سابق من هذا العام.
ويقول سامي بن غربية الذي كان ذات يوم لاجئا هاربا من نظام بن علي يدير “نواة” من هولندا من 2004 إلى 2011، إنه بات رقما صعبا في المشهد الإعلامي في بلاده.
ويضيف: “ساد جدل كبير بعد سقوط بن علي. هل وصلنا إلى هدفنا؟ هل نستمر؟ وبأي أسلوب؟ بعد فترة انتقالية، قررنا في عام 2013 إضفاء عنصر الاحتراف على طاقم التحرير لنشر معلومات مستقلة ذات جودة عالية، لا تزال تفتقر إليها تونس إلى اليوم”.
ويشير بن غربية الى أنه ترأس مؤخرا اجتماعا حيويا ناقش خلاله صحفيو الوسيلة الإعلامية أسماء الأحزاب السياسية التي سيتناولونها قريبا في تحقيقات. ويوضح أنه “كان وجود مكاتب وفريق من الصحفيين يعملون بحرية في هذا المجال حلما قبل عشر سنوات.. لقد تحقق هذا الحلم”.